عظة في صعود ربّنا يسوع المسيح

القديس غريغوريوس النيصصي
تعريب: نادين جراد

 

قد تكون عِظةُ القدّيس غريغوريوس النيصصي الوجيزةُ في عيد الصّعودِ الدّلالةَ الأقدمَ على وجودِ هذا العيد، وهو لا يتردَّدُ في تسميَتِه «المحفِلُ العظيم». القراءةُ الدقيقةُ لعنوان العظة هي «عن ذاك اليوم البَهِج الذي يُقالُ له المقدَّس في مدينة الكبادوكيّين: صعودُ ربِّنا يسوعَ المسيح». من ناحيةٍ أخرى هناك تلميحٌ ضئيلٌ عن صعودِ المسيح إلى السّموات؛ فالعظةُ تتحوّل أكثر إلى شرحٍ للمَزمورين ٢٢ ٢٣. لذلك ليس من الصّعب أن ندركَ أنْ تكون عظةُ القدّيس غريغوريوس قد كُتِبَتْ على الأغلَب في وقتٍ مُزامنٍ لِعَمَلِه «تفسير كتاب المزامير».

 

في الارتكاز على حدثِ صعودِ المسيح، وإنْ لم يَرِدْ ذكرُهُ إلا قليلاً، يجتذِبُ القدّيسُ غريغوريوس اهتمامَ قُرّائه، في نهايةِ عِظته، لهذا السرِّ الذي يؤهِّلُنا «لأن ننالَ مُواطَنةً (politeia) مع الله في يسوعَ المسيح ربّنا». هو يُشير مسبقًا إلى هذه المُواطَنة معه «بموجب الفضيلةِ» والتي تؤهِّلُنا لأنْ نصعدَ «جبلَ قُدسه». حينئذٍ تكون ممارسةُ الفضيلة والصعودُ والتجدّدُ في اتحادٍ معًا للكشف عن تلك المُواطَنة التي تحقَّقتْ بآلامِ يسوعَ المسيح وموتِه وقيامتِه وصعودِه.

 

عظة في صعود ربّنا يسوع المسيح

للقدّيس غريغوريوس النيصصي 

 

كم هو رفيقٌ مُوافِقٌ النبيُّ داوود في سُبُلِ الحياة قاطِبةً! إذ أوثق إليها بامتيازٍ كلَّ درجةٍ روحيّةٍ فيها بل شملَ أيضاً كلَّ سبيلٍ للنمو! لقد دارى أولئك الأطفال على حسب قول الرّب، جاهدَ مع الرّجال، أرشدَ الشبابَ، آزر الشيوخَ، وخدَمَ بكافّة الطُّرقِ جميعَ أجناس البشر. كان سلاحاً لأولئك الذين في الحروب ومرشدًا ومُدَرِّبًا للمجاهدين في ميدان القتال، باتَ تاجًا للنصر، ووهبَ الفرحَ للمُتَّكئين على المائدة والتعزيةَ للمَحزونين. كلُّ ما في الحياة البشريّة كان قائمًا للمشاركة في هذه النّعمة. ما هي قوّةُ الصلاة التي قدّمَها داوودُ؟ وأيةُ بهجةٍ في الأعياد لم يتهلَّلْ بها النبيُّ؟ لا بدَّ لنا أن ندركَ أنّ النبيَّ يعزِّزُ مَحفِلَنا العظيمَ أيضًا على نحوٍ مختلفٍ مانحًا إيّانا الفرحَ في ارتكازه على المزامير (مزمور٢٢). لأجل خروفٍ واحدٍ يُعلِنُ أنَّ الله يُقيتُكَ لكي لا يُعوِزَكَ شيء، لكي تربُضَ في مراعٍ خُضرٍ، لكي تكونَ لك مياهُ الراحةِ، والقوتُ، والملجأُ، والسبيلُ، والطريقُ «وَالرَّاعِي الصَّالِحُ الذي يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ الْخِرَاف»(يوحنا١٠: ١١).

 

هو يُرشدُ الكنيسةَ في كلِّ حدثٍ إذ ينبغي عليك أوّلاً أن تكون خروفًا ينتمي إلى الراعي الصالح من خلال التعليم المستقيم من أجل أن تَحفظَ وصايا الناموسِ الإلهيةِ وتُقادَ إلى الينبوع. حينئذٍ تستطيعُ أن تُدفَنَ معه (رومية٦: ٣-٤) بالمعموديّة للموتِ دون خوفٍ من هذا الموت. وليس هو الموت بحدّ ذاته إنّما ظلُّ الموت ورمزه. «نَعَم حَتى وَلَو مَشَيْت في وَادِي ظِلِّ المَوْتِ فَإنِّي لَسْتُ أَخْشَى شَرًّا لأَنَّكَ أنت معي» (مز٢٢: ٤). حينئذٍ الروحُ يعزّي بعكّازٍ (إذ الروحُ هو المعزّي) ويُقيم مائدة سِرّيّة أمام الشياطين التي تُفسِد البشرَ بقيادتهم  إلى عبادة الأوثان. أمّا مائدة الروح فهي مُعادية لمائدتهم. عندئذٍ يُبهِجُ الروحُ الوجهَ بالزيت والخمرُ تفرّحُ قلبَ الإنسان (مز١٠٣: ١٥) في هذا الكأسِ الواهبِ الروحَ الحياة والرافعِ عقولَنا من الاهتمامات الدنيويّة إلى الحياة الأبدية. القليلُ من هذا الكأس يضعُ للتّو حدًّا لحياةٍ غير مستقيمةٍ  فيُميتُها  بَغتةً ويُطيلُ قيامَنا في بيت الربِّ إلى مدى الأيّام. 

 

لقد حلَّ علينا فرحٌ أعظمٌ وأوفرٌ في أحد المزامير المُحيي للروح (مزمور٢٣). سوف نبادر إلى تفسير معناه لكم بإيجازٍ إن أمكن ذلك. «لِلْرَّبِّ الأَرْضُ وَكُلُّ مَا فِيهَا»(مز23: 1). يا إخوةُ ماذا يكون بعد إنْ كان ربُّنا قد شوهِدَ على الأرض وأقامَ بين البشر؟ لأنه هو خلَقَ الأرضَ وصَنَعَها، فليس غريبًا ولا غير مُتدارَك أن نرى الربَّ قد أتى «إِلَى خَاصَّتِهِ» (يو١: ١1). هو لم يكن في أرضٍ غريبةٍ إنّما كان في الأرض التي قد أسَّسها منذ خلقِ البحار وهيّأ طريقًا قويمًا للأنهار. ما كانت إذاً علّةُ وجوده؟ إذ أقصى فسادَ الخطيئة بعيدًا عنكم، صعِدَ بسلطانه إلى جبلِ قُدسِه وأعدَّ بعدئذٍ الطريقَ لكم لتنالوا مُواطَنةً معه بموجب الفضيلة. لن تستطيعوا أن تصعَدوا ذاك الجبل إلا إن كنتُم  بريئين في سلوكِ الفضائل، طاهرين من كلِّ فعلٍ شيطاني، أنقياءَ القلوب خالين من كلِّ تكبّرٍ في روحِكم ومن كلِّ عملٍ قد يُحزن قريبَكم. فنعمةُ هذا الصّعود لا تُقَدَّر والربُّ يهَبُ رحمتَه التي ادَّخرَها. «هَذَا هُوَ نِسْلُ الَّذِينَ يَلْتَمِسُونَهُ» في الفضيلةِ التي  مِن  العلاءِ و«الَّذِينَ يَلْتَمِسُونَ وَجْهَ إلَهِ يَعْقُوبَ» (مز23: 6).

 

قد تكون بقيّةُ هذا المزمور أكثرَ وقارًا من تعليم الناموس. يقدِّمُ ناموسُ الربِّ سبيلًا للعيش في العالم ويحدِّثُ عن تلك العودة التي قد ارتكز عليها النبيُّ الشريف. إنّ الأعباءَ الجسدية لا تُثقِلُه، فانضمَّ إلى القوات العلويّة التي تُعلِن لنا بأصواتها أنّ الربَّ قد تقدَّم إلى عرشه وحوله الملائكة. وإذ هي تنتمي إلى العالم العُلويّ ناشدت البشرَ للدخول حين هتفَتْ: «اِرْفَعْوا أَيُّهَا الرُؤَساءُ أَبْوابَكُم وَارْتَفِعِي أَيَّتُهَا الأَبْوَابُ الدَّهْرِيَّةُ فَيَدْخُلَ مَلِكُ الْمَجْدِ» (مز23: 7). لأنه كائنٌ أينما يكون ويَحوي الكلَّ في داخله، ويؤهِّلهم للدخول بقبوله لهم (إذ لم يكن هو فقط بشرًا بين البشر بل وحّد طبيعتَه بطبيعة الملائكة). حينئذٍ قابَله الحرّاسُ وسألوا: «مَنْ هُوَ هَذَا مَلِكُ المَجْدِ؟» (مز 23: 8). هم يُظهِرون قوّتَهم وسلطانَهم في الحرب إذ كان قد أقبَل لكي  يُخزيَ الذي قيّد الجنسَ البشريّ، ولكي يحلَّ قيودَ الموت. «آخِرُ عَدُوٍّ يُبْطَلُ هُوَ الْمَوْتُ» (1كور15: 26) فهو يُعيدُ للجنس البشريّ الحريةَ والسلام. 

 

كذلك أصواتٌ مماثلةٌ تهتِفُ (قد انحلّ سرُّ الموت وتحقّقتِ الغلبةُ على العدوّ ورُفِع الصليبُ كعلامةٍ للنصر و«هو الذي صَعِد إِلَى الْعَلاَءِ وسَبَى سَبْيًا» (مز67: 18) الذي منحَ الحياةَ والملكوتَ وهذه العطايا الصالحةَ للبشر) أنّ الأبوابَ الدّهريّةَ قد رُفِعتْ له. فخاطبَ جنودُنا الحرّاسَ طالبين أن تُرفَع الأبوابُ الدهريةُ له ليتمجّدَ أيضًا. أمّا هو، الذي حمَلَ عنّا رداءَ حياتنا المُدنَّسَ فلم يعرِفوه إذ كان لِباسُه مُحَمَّرًا (إش٦٣: ٢) من ثمن الدّم الذي سُفِكَ عن شرور البشر. وإذ بصوتِ الذين يقابلونه يقولُ ثانيةً: «مَنْ هُوَ هَذَا مَلِكُ المَجْدِ؟»(مز23: 10). حينئذٍ لا نلقى بعدُ الرَّدَّ التالي «هُوَ الرَّبُّ القَوِيُّ والْقَدِيرُ، الرَّبُّ الْقَوِيُّ فِي الْقِتَالِ» إنّما «هو رَأْسُ الْجَسَدِ: الْكَنِيسَةِ. الَّذِي هُوَ الْبَدَاءَةُ بِكْرٌ مِنَ الأَمْوَاتِ، لِكَيْ يَكُونَ هُوَ مُتَقَدِّمًا فِي كُلِّ شَيْءٍ»(كول1: 18) والذي يُعيدُ الخليقةَ إلى مَكانَتِها الأولى: «هَذَا هُوَ مَلِكُ المَجْد»(مز23: 10). كم عظيمٌ هو المحفِلُ الذي قدَّمه داوودُ حين وحّد نعمَتَه الإلهيّة بفرح الكنيسة. فلنشابه النبيَّ، قدرَ ما نستطيع، في محبّةِ الربِّ، في تواضعِ الحياة وفي مسامحةِ أعدائنا. حينئذٍ قد يقودنا تعليمُ النبيِّ لأنْ ننالَ مُواطَنةً مع الله في يسوعَ المسيح ربِّنا الذي له المجد الآن وإلى الدهر. آمين.

 

المصدر:

https://www.johnsanidopoulos.com/2017/05/homily-on-ascension-of-our-lord-jesus.html?m=1