العمى الروحيّ للخطيئة

القدّيس تيخون زادونسك

تعريب ستيفاني سركيس

كما يكون الظلام للعيون، كذلك تكون الخطيئة للنفس البشرية. الظلام الروحي يُظلم ويُعمي عيون النفس، بحيث يمشي الخاطىء كالأعمى: هو لا يدري إلى أين يقوده الطريق، هو لا يرى أمامه عذاب الموت الأبدي الذي من الممكن أن يقع فيه؛ هو لا يميِّز الرَّذيلةَ من الفضيلة، الشرَّ من الخير، الحقيقةَ من الأكاذيب، الثّروة الحقيقية الصَّالحة من الثّروة السّيئة والضَّارة، هكذا نرى أنه لا يرى ويتصرَّف باللَّمس كما يفعل الأعمى.

هل يعيش في حالة جيدة؟ يُصبح عنيفًا كحصان غير مدرَّبٍ وبلا قيود، ولا يرى أن الله يَجتَذِبُه من خلال هذا النَّصيب الصالح. هل تحلّ به المصائب؟ فهو يتذمّر، يغضب ويلوم، كما لو أنه تفوَّه بكذبة؛ يقدِّمُ شكاوى ويشتم: هل أنا كاذب؟ بماذا أنا أخطأت؟ هل أنا حقًّا خاطىءٌ أكثر من الآخرين؟ هل أستحق هذا؟ هل فعلي يستحق هذا؟ يبرِّرُ نفسه وهو مليءٌ بكل أنواع الكذب؛ يبرِّئُ نفسه، وسمعته ملطَّخة، يعتبر نفسه غير مستحقٍّ للعقوبات الدنيويَّة، إنَّما جديرٌ بالأبديَّة، ويشيد بفضائله التي لا قيمة لها.

كلُّ الخليقة، السَّماء والشَّمس والقمر والنجوم والأرض وكلَّ ما فيها، «تُخبِر بعظائم الله» (المزمور19: 1)، لكنَّ الخاطىءَ الأعمى لا يشعرُ بعظمةِ مجدِ الله ولا يرتعد. يكشف الله نفسَهُ للجميع من خلال الخليقة وبكلمته، لكنَّ الخاطىء، كشخصٍ أصَم، لا يسمعُ كلمته ولا يُدرك السيّد. يسمع باسم الله لكنَّه لا يُدركه: هو يسمع صوت السيّد بالجَسَد فقط بدلًا من سماعه بِأُذنين روحيَّتَين، لذلك، «يسمع ولا يُصغي، يرى ولا يُبصر».

عندما يُبَشَّر عن الله عبر كلمته المقدسة، يُبَشَّر أيضًا بمشيئته المقدسة؛ لكنَّ الخاطىءَ لا يعرفها ولا يجعلها خاصته. يُبَشَّر بقوّته وعَظمته، ‏التي لا يتواضع الخاطئ أمامها. يُبَشَّر بِعَدالتِه التي لا يَهابُها الخاطىء ولا يُكرِّمها. يُبَشَّر بحقيقته التي لا يؤمن بها الخاطىء. يُبَشَّر بِكُليَّة وجوده التي لا يُوقِّرها الخاطىء، هو لا يُبدي الوقار لأنه لا يُدرك الله. يُبَشَّر بحكمته التى لا يميِّزُها الخاطىء. يُبَشَّر بكليَّة قداسته التي لا يكرّمُها الخاطىء. يُبَشَّر بِسُلطانه الأعظم الذي لا يُطيعه الخاطىء. يُبَشَّر بعظمةِ مجده التي لا يهابها الخاطىء. يُبَشَّر بِصَلاحه غير المحدود الذي لا يُجاهد الخاطىء لمشاركته فيه. يُبَشَّر بدينونته المرهوبة التي لا يرتجف أمامها الخاطىء، وإلى ما هنالك. بالتالي، الخاطىء هو «كالجاهل لا يعرف وكالأحمقِ لا يفهم» (المزمور 91: 6) الله وأعماله.

الرجل الأعمى هو رجلٌ دنيوي ومُظلِم، ليس فقط بعلاقته مع الله، إنَّما بعلاقته مع قريبه ومع أي إنسان أيضًا. نرى ذلك الإنسان يُسيءُ إلى قريبه بشرٍّ لا يريده لنفسه، كما أنَّه لا يبادره بالخير الذي يُريده لنفسه. نراه مُمتَعِضًا وغاضبًا تُجاه مَن يسيءُ إليه؛ يستغلُّه ويذلُّه ويلومُه ويُخزيه ويلفِّقُ عليه الأكاذيب ويسرقُه ويخطفه ويسلُبُ ما هو له، ويرتكب إساءاتٍ أخرى؛ يرتكب بنفسه شُرورًا كهذه أو يردُّ الشرَّ بالشرِّ، كما أنَّه لا يخجل من ذلك ولا يشعر به. أما في المقابل، يريد من قريبه أن يكون رَحومًا معه وأن لا يتركه في وقت الشدَّة، على سبيل المثال، أن يروي عَطَشَه ويكسو العريان ويأوي الغريب في بيته ويُعَزّي المرضى ويزور المساجين، ويقوم بأعمال رحمةٍ أُخرى. كل هذه يريدها لنفسه، هذه حقيقة غير قابلة للجدل، لكنَّه لا يريد أن يقوم بالمِثل مع قريبه. نرى أن هذا الشرَّ هو محبُّة الذَّات، كذبٌ وعمى لدى المسيحيين الذين، إما يمرُّونَ بصمتٍ أمام أقربائهم الذين يعيشون ببؤسٍ وكأنهم لا يرونهم، إما يخجلون من أن يسألوا: «ماذا يمكنني أن أصنع له؟». كثيرون يمتلكون طعامًا وافرًا وموائدًا فاخرةً لأنفسهم غير مُكترثين بقريبهم الجائع. آخرون يرتدون كلَّ أنواع الملابس الباهظة الثمن غير آبهينَ بقريبهم العاري. آخرون يبنون بيوتًا فخمة  وواسعةً ويزيِّنونها، لكنَّهم لا يأبهون لقريبهم الذي ليس لديه مكانٌ يسند عليه رأسه ويجد فيه راحةً، لديهم فضة وذهب بالإضافة إلى ثرواتٍ أُخرى تُريح النَّفس والحياة، وهذه كلّها موجودة ومحفوظة بوفرة، لكن ما من اهتمامٍ بالقريبِ المُثقَلِ بالدُّيون ويا له من عذابٍ وسجنٍ أن تحلّ عليه الدُّيون والنّقص والعذابات. نرى هذا الحب للذَّات والكذب لدى المسيحيِّين: فهم لا يصنعون الشرَّ بأقربائهم وحسب، إنَّما لا يعملون خيرًا معهم أيضًا، هذا هو الكذب.

لكن الأسوأ من ذلك هو أنَّنا نرى كثرةً من المسيحيِّين الذين لا يخجلون ولا يخشون السَّرقة والخطف والمكر والتملُّق والكذب والخداع والافتراء والتَّشهير والاتّهام والإستغلال وارتكاب الزنى والقيام بإهاناتٍ أخرى تجاه قريبهم، وهم أنفسهم لا يقبلون بها لأنفسهم. كل هذا يأتي من العمى.

 

المصدر:

https://www.johnsanidopoulos.com/2011/05/spiritual-blindness-of-sin.html