خبرة الشيخ يوسف الهدوئيّ مع شخصين مُصابَين بالسلّ

تعريب جولي سعد

1. خبرة الشيخ يوسف الهدوئيّ مع الأخ باسيليوس المصاب بمرض السلّ

عندما كان الشيخ[1] يوسف الهدوئي في إسقيط القدّيس باسيليوس، قصد شابٌ عِلمانيّ أخويّةً في جوارهم ليصبح راهبًا. هذا الشاب كان يتيمًا مُتَبَنّىً. بعد فترة قصيرة من إقامته في الجبل، أتى والِدُه بالتَّبَنّي وقال له: «تَبَنَيّتُكَ عندما كنتَ صغيرًا ورَبَّيتُكَ لِكي ترعاني في شيخوختي والآن تريد أن تصبح راهبًا؟» فاصطحبه بالقوّة وغادَرا.

استاء الشاب كثيرًا  لدرجة أنّه مَرِضَ وتدهورت حالته حتى أُصيبَ بالسلّ. فَطَرَدَهُ أبوه الذي تَبَنّاه قائلًا له: «ارحل من هنا. لا تَنقُل لنا العدوى فنصبح جَميعُنا مرضى. عُد إلى الجبل المقدس وَصِرْ راهبًا ما دامت هذه هي رَغبتك».

فَقام الشابُّ وقصد شيخ تلك الأخوِيّة مُجَدَّدًا في إسقيط القدّيس باسيليوس. عندما وصل سأل الشيخ: «ياروندا هل تذكر مَن أنا؟».

«نعم، أذكر مَن تكون» 

«أبي سمح لي بأن أصبح راهبًا»

«حسنًا»

«ولكن أيّها الشيخ، عَلَيّ أن أخبرك بشيء، بسبب حُزني الشديد أُصِبتُ بمرض السلّ. لذلك طَرَدَني أبي بعيدًا».

«ماذا! تُعاني من مرض السلّ وأتيتَ إلى هنا لِتنقُلَه لنا؟ ارحل من هنا! غادِر حالًا!».

«ولكنّني لا أحتاج إلّا للقليل من فتات الخبز اليابس، ومن ثمّ يمكنكَ أن تَطرَحَني في زاوية لأموت. ولكن صَيِّرْني راهبًا أوّلًا، لا أريد شيئًا آخر».

«قَطعًا لا!» أجابه الشيخ، وَطَرَدَهُ. غادر الشاب من هناك وجلس على جانب الطريق يبكي بِحَرقَةٍ. وبتدبيرٍ إلهيّ، صودِفَ أنّ الشيخ يوسف الهدوئيّ كان يسير في المكان ورآه. فسأله: «ما بالُكَ يا بنيّ؟ لماذا تبكي؟».

«ياروندا أتيتُ إلى الجبل المقدس لأصبح راهبًا، ولكن شَيْخي طَرَدَني لأنّني أعاني من مرض السلّ. وللأسف لا أستطيع أن أجد أحدًا يُصَيِّرَني راهبًا. سأكون سعيدًا جدًّا إن مُتُّ في أيّة زاوية هنا، لو أمكنني أن أصبح راهبًا».

«تعال معي، يا بنيّ»، فأخذه الياروندا من يده واصطحبه إلى كوخه. آنذاك كانت أخوية الشيخ يوسف الهدوئيّ تتألّف من الأخ يوحنّا، والأب أفرام (فولوس)[2]، والأخ أثناسيوس (أخوه بالجسد) والشيخ أرسانيوس. عندما عَلِموا بإصابته بالسلّ، أخذوا الشيخ يوسف جانِبًا وقالوا له: «سوف يَنقل لنا المرض أيضًا!».

«لا تقولوا شيئًا. فقد أرسَلَه الله ليختبرني. فلا تتفوّهوا بشيء أبدًا؛ سأعتني به حتّى تأتي ساعة موته».

فبَنَوا له كوخًا من الألواح الخشبيّة، واعتنى به الشيخ يوسف اعتناءً خاصًّا. فقد جال في كلّ مكان مُتَوَسِّلاً الناس للحصول على عنب وتين وكعك وزيتون ليعطيها لتلميذه الشاب. بعد أن مكث معهم نحو ستّة أشهر، قال الشاب ذات يومٍ للشيخ يوسف: «ياروندا أرى شيئًا يشبه نساء غَجَرِيّات. ماذا يَفعَلنَ حول سريري؟».

فَهِم الشيخ يوسف ما يحدث، فقال للشيخ أرسانيوس: «استعدّ فقد قَرُبَت ساعتُه. سوف أعطيه الإسكيم الرهبانيّ الكبير لأنّه سوف يغادر هذه الحياة قريبًا».

عندما توجّهوا إلى الكنيسة لقراءة الصلوات عليه، أبى الأخ أفرام أن يدخل. فناداه الشيخ: «أُدخلْ حالًا».

فأجابه قائلًا: «لن أدخل لأنّ الطبيب قال إنّ المرضَ شديد العدوى».

فكان عليهم أن يجدوا كاهنًا آخر لِيَتلو الصلوات. فالآباء الذين كانوا حاضرون هم الشيخ يوسف الهدوئيّ، والشيخ أرسانيوس، والأخ أثناسيوس. بعد قراءة الصلوات ألبَسوه ثياب الرَّهبنة وأخذوه إلى قلايته ووضعوه في سريره.

«عزيزي باسيليوس (هذا الإسم الذي منحه إيّاه الشيخ)، إنّي ذاهب الآن لأصلي، سأعود بعد ساعتين أو ثلاث ساعات. فقط رَدِّد الصلاة بإستمرار». 

بعد أن أتمّ الشيخ يوسف قانونه، عاد مُسرِعًا ليرى كيف حال الأخ باسيليوس. عندما وصل إلى الكوخ حاول الشيخ ايقاظه ولكن من دون جدوى. فقد غادر إلى السماء مثل ملاك، مُرتَدِيًا الإسكيم الملائكيّ الكبير. كان الشيخ يوسف سعيدًا جدًّا لأنّ الأخ باسيليوس ذهب إلى السماء كملاك. «تعالوا أيّها الآباء، دعوني أقدّم لكم بعض الضيافة، لأخبركم بأنّ الأخ باسيليوس ذهب إلى السماء! آه يا عَذرائي العزيزة، هذه روحٌ قد خَلُصَت! أحضِروا راحة الحَلقوم! كان الشيخ سعيدًا جدًّا ومن شدّة فرحه بدأ يُرَتِّل «المسيح قام».»

بعد ذلك ألبس الشيخُ يوسف الأخَ باسيليوس الثوب الرهبانيّ ثم ألبَسَهُ الجُبّة كما تَجري العادة. وفيما كان يُلبِسُه، كان يُرَدِّد: «آه يا عَذرائي العزيزة، أتمنّى أن أُصاب بمرض السلّ، أتمنّى لو أُصاب به!»

كان يتوسّل لوالدة الإله ليلتقط هذا المرض، ولكن كلّما صلّى لأجل ذلك، ابتعد عنه المرض. والسبب الذي كان يدفعه لطلب هذا المرض بحرارة لأنّه كان يُسَمّيه: «المرض المقدَّس». اعتبره مُقَدَّسًا لأنّه مرضٌ تزداد وَتيرتُه تدريجيًّا، وذلك يعني بأنّه لديك الوقت لتهيأ نفسك للموت. ولكن بما أنّ الشيخ يوسف لم يُصَب بالسلّ، قرّر حَرْق أغراض الأخ باسيليوس كلّها لكي يحمي الأخويّة من التقاط العدوى.

بعد ثلاثة أيام من رقاده، رآه الشيخُ يوسف في حُلمِه. عانق الشيخَ وقال له: «شيخي العزيز، أُنظر ماذا جعلتَ مِنّي! جَعَلتَني ضابِطًا مُقَلَّدًا بالميداليّات والأوسِمة».

 

2. خبرة الشيخ يوسف الهدوئيّ مع الراهبة ثيودورة المُصابة أيضًا بمرض السلّ

بعد أيامٍ قليلة من رقاد الأخ باسيليوس، وصلت رسالة للشيخ يوسف الهدوئيّ تُبلِغُهُ أنّ رئيسة الدير المتوحِّدة ثيودورة أصيبت أيضًا بمرض السلّ وهي على فراش الموت. وتقول في الرسالة إنّها رغم مَرَضِها لن تدع نفسَها تموت قبل أن يأتي الشيخ. فأردف الشيخ «آه يا عذرائي العزيزة، كيف سأخرج من الجبل المقدَّس إلى العالم ثانيةً؟».

لم يكن خائفًا من مرض السلّ ولكنّه لم يشأ أن يترك بستان العذراء. رغم ذلك استقلّ القارب المتوجِّه إلى تسالونيكي حيث كانت تقطن. عندما وصل إلى المنزل سأل أحدًا ما في الخارج: «كيف حال ثيودورة؟ هل هي على قيد الحياة؟ هل هي بخير؟».

«تفوح من الرئيسة رائحة نَتِنة لأنّ مَرَضَها يُفسِدُ جَسَدَها».

عندما رأت اليارونديسا ثيودورة الشيخَ يوسف، نهضت وقالت له: «أُدخل ياروندا، لقد قلتُ إنّني لن أموت قبل أن تأتي».

فأجابها الشيخ: «لا تقلقي ثيودورة». فجلس الشيخ بجانبها وقال لها بعض الأمور المُعَزِّية.

«ياروندا لا أستطيع أن أتحمّل أكثر من ذلك. أشعر بألمٍ كبير».

«ثيودورة، أُصبُري قليلًا بعد، وكلّ شيءٍ سينتهي. الله سيمنحُك إكليلًا على صَبرِك هذا».

«ياروندا، الغرفة كُلُّها مليئة بالأكاليل! لا مانِع عندي إن لم أحصل على هذا الإكليل».

«كلا يا عزيزتي، ستحصلين على هذا أيضًا. أُصبُري ثيودورة، أُصبُري».

«دَعْني أنطلق ياروندا! لا تَدَعْني هنا أكثر! دَعْني أذهب!».

كانت تَثِق كثيرًا بالشيخ إلى حدّ أنّها كانت تعتقد أنّ الياروندا لديه سلطة على حياتها أو موتها.

بعد قليل، أعطاها الشيخ شيئًا لتأكل. فَمَضَغَت قليلًا وأعادت ما تبقّى للشيخ. فأخذه وأكله بعدها بدون خوفٍ قائلًا: «آه يا عذراء، أرجو أن ألتقط الكثير من الجراثيم!» رغم ذلك لم يلتقط أيّة جُرثومة. فيما بعد، كتب الشيخُ عن هذه الحادثة: «هرب الموت مِنّي إلى أولئك الذين يَخشَونه».

في اليوم التالي، كان الشيخ يوسف جالسًا بالقرب من ثيودورة مع الأخت إفبراكسيا التي كانت تعتني بها. فقد كانَتا كِلتاهُما من آسيا الصغرى. قالت اليارونديسا ثيودورة لها شيئًا باللغة التُّركية فغادرت الأخت إفبراكسيا الغرفة. فَتَبِعَها الشيخ إلى الخارج وسألها: «ماذا قالت لكِ؟».

«لقد قالت إنّ بعض الزوار قادمون. فَتَصَوَّرتُ أنّه يجب أن أُعِدّ بعض الضيافة».

«إنْسي أمر الحلوى أو الضيافة واذهبي لاستدعاء الكاهن حالًا لأنّ ثيودورة سوف ترحل الآن».

فأتى الكاهن وجلس الجميع بجانب ثيودورة بالإضافة إلى بعض الراهبات الشابّات. بدأت اليارونديسا تنظر ببطء إلى الجميع في الغرفة، واحدٍ تِلو الآخر. ومن ثمّ أغلقت عَيْنَيها وأخذت نفسًا عميقًا ثلاث مَرّات، وانطلقت بعدَها إلى الأخدار السماويّة.

عاد الشيخ يوسف، بعد دَفنِها، إلى سَكينَتِه الحَبيبة في الجبل المقدس.

 

المصدر:

“My Elder Joseph the Hesychast” by Elder Ephraim Arizona, pages 213-218.


[1] تَمّ إعلان قداسة الشيخ يوسف الهدوئيّ (1898-1959) في التاسع من شهر آذار سنة 2020 في مدينة القسطنطنية خلال أعمال المجمع المقدس للبطريركيّة المسكونيّة (المُعَرِّبة).

[2] الأب أفرام المُعَرِّف في فولوس هو ليس نفسه الشيخ أفرام أريزونا الذي إنضم لاحقًا لأخوية القدّيس يوسف الهدوئيّ.  غادر الأب أفرام الجبل المقدس من دون بركة القديس يوسف بِداعي المرض ولم يعد ثانيةً وفصله القديس يوسف عن أخويّته بعد إلحاحٍ منه سنة 1952. بعد مغادرته الجبل خدم في فولوس (مدينة يونانية) ثم سافر بعدها إلى الولايات المتحدة الأميركيّة إلى تكساس وديترويت ومونتريال في كندا رقد عام 1984 (المُعَرِّبة).