الأسبوع الرابع من الصوم - أحد القدّيس يوحنّا السلّميّ 29/3/2020
باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.
يتكلَّم المقطع الإنجيليّ الذي سمعناه اليوم عن إنسانٍ أتى إلى يسوع المسيح طالبًا منه أن يُخرج الرّوح الأبكم الأصمّ الذي يسكن في ابنه. فإنّ هذا الرّوح (الشيطان)، لطالما عذّب الصبيّ وكان يُلقيه «فِي النَّارِ وَفِي الْمَاءِ لِيُهْلِكَهُ» (مر9: 22). لذلك، يحاول الشيطان دائمًا أن يُهلك الإنسان، لكن الرَّبَّ لم يتركْ هذا الأخير فريسةً للشيطان ليصنع به ما يشاء. فلو كان باستطاعة الشرّير أن يُفني البشريّة كلّها، لما تردَّد عن فعل ذلك.
إنّ غاية الشيطان هي أن يجعلنا صمًّا لكي لا نسمع كلام الله، وبكمًا لكي لا نمجّده. بذلك، لن نتمكّن من المشاركة في اللّيتورجيا الكنسيّة التي هي تمجيدٌ لله. إذًا، لا يستطيع الإنسان أن يكون مسيحيًّا ما لم يعرف كيفيّة الإستماع إلى كلام الله، وكيف يجاوبه على هذا الكلام عبر التمجيد في الوقت نفسه. هذه هي حياة الإنسان المسيحيّ.
نسمع في كثيرٍ من الأحيان بأُذنَيّ الجسد وننطق بفم الجسد، لكنّنا صمٌّ وبكمٌ روحيًّا. أيّ نحن سامعون لكلمة الله بروح النجاسة وروح الهرطقة، نسمعها بحسب أهوائنا بدل أن نتّضع لكي نسمع حقيقة ما يريده الله منا. لهذا، ننطق نحن بالتجاديف بدل أن نمجّد الله في كثير من الأحيان. فنحن نمجّد الله عبر اشتراكنا في القدّاس الإلهيّ وسائر الصلوات، وعبر إعلاننا كلمة الحقّ للناس. فحينها يسمع الإنسان بالرّوح وينطق به.
إنّ الرّوح الذي عذَّب هذا الإنسان هو روح النّجاسة، أي روح الزّنى. لكن، هناك أيضًا شيطان التجديف وشيطان الهرطقة، وشياطينٌ أُخَر لكلّ الأهواء. فبهذا، يرى كلّ شيطانٍ ميولَ كلّ إنسانٍ ويحاول أن يُهلكه، لا بالنار والماء، بل بأهوائه وبآثامه إن لم يتعلّم هذا الإنسانُ أن يتّضع.
«إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ شَيْئًا فَتَحَنَّنْ عَلَيْنَا وَأَعِنَّا. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُؤْمِنَ. كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لِلْمُؤْمِنِ.» (مر9: 22، 23).
نجد في هذا الحوار الذي دار بين المسيح ووالد الصبيّ موضوعًا أساسيًّا ألا وهو الإيمان الحقيقيّ بيسوع المسيح. فعندما قال الرّجلُ للمسيح إن كنت تستطيعُ شيئًا...، قال له المسيح: إن كنت تستطيع أن تؤمن... . فالله جاهزٌ في كلّ حينٍ، لكن علينا نحن أن نؤمن أنّه قادرٌ على حمايتنا وحفظنا، لا من الأوبئة فحسب، بل من كلّ شيء. هذا لا يعني أننا لن نمرض، لكن إن أصابنا أيّ مرض، نعرف أن الله قد سمح بذلك من أجل خلاصنا. فكلّ ما يحدث للإنسان المؤمن هو من أجل خلاصه. هذا هو إيماننا بالرَّب. علينا أن نعمل بكلّ ما أعطانا إياه الله، فهو قد أعطانا نعمته، وأعطانا أهمّ ما في الوجود أي أن نُتَمِّم خدمة القدّاس الإلهيّ. نتمّمه بإيمانٍ وإن مرضنا نردّد ببساطةٍ "لتكن مشيئتك يا ربّ".
هل نخاف على أجسادنا أم على نفوسنا؟! فنفوسنا ستموت إن انقطعنا عن المشاركة في القدّاس الإلهيّ. ألم يقل لنا الرَّب «لاَ تَخَافُوا مِنَ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْجَسَدَ وَلكِنَّ النَّفْسَ لاَ يَقْدِرُونَ أَنْ يَقْتُلُوهَا، بَلْ خَافُوا بِالْحَرِيِّ مِنَ الَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يُهْلِكَ النَّفْسَ وَالْجَسَدَ كِلَيْهِمَا فِي جَهَنَّمَ.»؟ (مت 10: 28). لا يجب أن نخاف من الأوبئة وسائر الكوارث الطبيعيّة التي تقتل الجسد. من يعمل عمل الله بضميرٍ صالحٍ، لا يهتمّ إن عاش أو مات. أنتمسّك بحياةٍ أرضيّةٍ؟ ألن يأتي يومًا سنموت فيه؟ نحن لا نسعى إلى الموت طبعًا، ولا إلى الانتحار. فالانتحارُ خطيئةٌ، لكنّنا نسلّم حياتنا لله. إنّ حياتنا تسلك بالإيمان، لذلك قال يسوع للرَّجل «إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُؤْمِنَ. كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لِلْمُؤْمِنِ». وإن لم نقتني إيمانًا فحياتنا المسيحيّة باطلةٌ.
«أَيُّهَا الرُّوحُ الأَخْرَسُ الأَصَمُّ، أَنَا آمُرُكَ: اخْرُجْ مِنْهُ وَلاَ تَدْخُلْهُ أَيْضًا!» (مر9: 25)
إنّ الله هو الذي يأمر وما من أحدٍ يسمو عليه، هو الذي يشفي ويخلِّص. أمّا نحن، فيكفينا أن نؤمن ليعطينا الله ما يوافق خلاصنا.
وَلَمَّا دَخَلَ بَيْتًا سَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ عَلَى انْفِرَادٍ:«لِمَاذَا لَمْ نَقْدِرْ نَحْنُ أَنْ نُخْرِجَهُ؟» فَقَالَ لَهُمْ:«هذَا الْجِنْسُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ بِشَيْءٍ إِلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ» (مر9: 28، 29).
بقول المسيح إنّ هذا الجنس لا يخرج إلّا بالصلاة والصوم، هذا ما تعيشه الكنيسة الأرثوذكسيّة في العمق. يتكلّم هنا عن الصلاة والصوم الحقيقيَّين لا بالكلام فقط، لأنّه بهما نُخرج الشياطين. يتكلَّم القدّيس يوحنا السلميّ الذي نُقيم تذكاره اليوم عن هذه الحياة الروحيّة العميقة. فَكتابه «السلَّم إلى الله»، يُعتَبَر من أهمّ الكتب النسكيّة في كنيستنا الأرثوذكسيّة، وهو يتكلّم عن ثلاثين درجةٍ تبدأ بالزّهد في هذا العالم وتنتهي بمحبّة الله. فحياة الإنسان يجب أن تكون مسيرة إنكارٍ للذات ليصل إلى محبّة الله. إنّ الزّهد في هذا العالم هو أن ينكر الإنسان محبّته لذاته، ولأهوائه التي يعبّر عنها عبر تعلّقه بأمجاد هذا العالم. فخبرة الحياة النسكيّة هذه ترتبط بالإيمان، وهي محفوظةٌ حصرًا في كنيستنا الأرثوذكسيّة. فمن انحرف عن هذا الإيمان يفقد هذه الرّوح حسب قول القدّيس يوحنا السلّميّ: «ورِّث أبناءَكَ إيمانًا صالحًا، إيمانًا مستقيمًا، وعقيدةً سليمة»، فبدون الإيمان المستقيم لا يستطيع الإنسان أن يحيا هذه الحياةَ المستقيمة.