عظة في الأسبوع الرابع من الصّوم للقديس يوستينوس بوبوفيتش

أحد القديس يوحنا السُّلَّمي

تعريب: ماهر سلوم

 

لماذا تضع الكنيسة لنا هذا القديس في الصوم الكبير كشخصّية فائقة القداسة؟

القديس يوحنا السُّلَّمي، من هو هذا القديس؟ إنّه الرجل الذي اختبر وكتب سلّم الفردوس، هو الذي اختبر ارتفاع الإنسان من الجحيم إلى السماء، إلى الفردوس. إختبر السُّلَّم الذي يُصعِدُ من الأرض إلى السماء، السُّلَّم الذي يمتدّ من أسافل جحيم الإنسان إلى قمّة الفردوس، إختبر هذا السُّلَّم وكتب عنه. إنّه إنسان مُثَقَّف ومُتَعَلِّم جدًّا، إنسان قاد نفسه على خُطى المسيح، وأصعَدَها بكلّيتها من الجحيم إلى الفردوس، من الشيطان إلى الله، من الخطيئة إلى الطّهارة، وهو الذي دَوَّن هذه المسيرة بحكمة إلهيّة، أعني ما يحصل عندما يصارع الإنسان كل الشياطين، عِلّة الخطايا.

يحاربنا الشيطان بالخطيئة، أنتم وأنا يا إخوتي وأخواتي. يحاربنا بكل أنواع الخطايا. لا تنخدعوا، لا تعتقدوا أن قوة صغيرة وضعيفة تهاجمكم، كلّا! هو الذي يهاجمكم! حتى لو بِفِكْرٍ شرير، فِكر واحد فقط، إعلموا أنه يندفع صوبكم. فكر تكبّر، فكر شهوة، فكر بخل، وعدد كبير لا يُحصى من الأفكار الآتية صوبكم من جميع الجِهات. وأنتم، مَن أنتم؟

يا سُلَّم الفردوس! كيف استطعتَ، أيّها القديس يوحنا، أن تجعل هذا السُّلَّم ينتصب بين الأرض والسماء؟ ألَم تهدمه الشياطين او تقطعه أو تكسره؟ كلّا! لقد كان صَوْمُه لهيب نار مُتَأجِّج. أيّ شيطان يمكنه الصمود أمامه؟ جميعها هربت مُرَتعِدة، هربت جميع الشياطين بعد أن طردتها صلواته الإلهيّة المجيدة، هربت الشياطين مرعوبة من صومه، إختفت جميع الشياطين من صلاته الحارّة.

ما هو سُلَّم الفردوس؟ إنّه الفضائل المقدَّسة، الفضائل الإنجيليّة المقدّسة: التّواضع والإيمان والصّوم والوداعة والصّبر واللُّطف والصَّلاح والرّأفة والصِّدق ومحبّة المسيح والإعتراف بالمسيح والجهاد في سبيل المسيح. هذه بالإضافة إلى العديد من الفضائل الموجودة في العهد الجديد. كلّ وصايا المسيح هي فضائل يا إخوتي. هل تحفظونها؟ هل تُطَبِّقونها؟ الصوم هو فضيلة مقدَّسة، إنّه درجة في السُّلَّم بين الأرض والسماء. الصوم المبارَك، كما السُّلَّم بِكُلِّيَتِه، يقود من الأرض إلى السماء.

كلّ فضيلة هي فردوس مُصَغَّر، كلّ فضيلة تُغَذّي النفس وتجعلها مباركة وتُنزِل الراحة السّماويّة إلى نفوسكم المقدّسة. كلّ فضيلة هي درجة ذهبيّة وماسيّة على سلّم الخلاص، السُّلَّم الذي يوحّد الأرض بالسماء، الذي يمتدّ من الجحيم الذي فيكم إلى الفردوس الذي فيكم، وهذا السبب أنّه لا يوجد أيّ شيء بِحَدِّ ذاته. لا يأتي الايمان بالربّ يسوع من تِلقاء ذاته، إنّه يتجلّى بالصلاة والصوم والإحسان والتّواضع والأناة من أجل القريب. لا يتجلّى الإيمان بهذه الأشكال فحسب، بل يحيا كلّ فضيلة أيضًا بسبب فضيلة أُخرى. يحيا الإيمان مع الصلاة والصلاة تحيا مع الإيمان، الصلاة تُغَذّي الصوم، المحبة تُغَذّي الصوم، الرأفة تُغَذّي الصوم. لأجل هذا، تحيا كلّ الفضائل من خلال بعضها البعض. وعندما تسكن فضيلة في نفسك، تتبعها الفضائل الأخرى، وسوف تنمو جميعها معًا تدريجيًّا.

نعم، إن سلّم الفردوس يرتكز عليك. فلنَقُل أنني أصوم بمخافة الله، بِوَرَعٍ، بحزنٍ، بدموعٍ، لكنني أستسلم بعد حين. هكذا، فقد بدأتُ ببناء السُّلَّم ثم هَدَمتُه بنفسي وكسرتُه. فأنتَ كثيرًا ما تصوم باعتدال في جميع أنواع الأطعمة. لكن في وقت الصوم، تسمح للخطيئة أن تدخل في نفسك وتسمح لكافّة أنواع الأفكار الدَّنِسة أن تنمو في نفسك. واجِبُكَ أن تطردها بعيدًا بالصلاة، بالنَّدَم، بالقراءة وبأي عمل روحيّ آخر. إن كنتَ، على عكس هذا، تُغَذّي نفسك بخطيئة ما أو بِهَوى رغم أنك تصوم، فإنك تهدم الدَّرَجات بين الأرض والسماء التي بَنَيْتَها بالصوم الواحدة تلو الأخرى.

يحتاج الصوم إلى الرّأفة والتّواضع والوَداعة، فهذه الفضائل تعمل معًا. إنّها تشبه فريقًا من البَنّائيين تترأّسُهم الصلاة. الصلاة هي البَنّاء الأساسي والمُصَمِّم والمهندس الرئيسيّ في حياتنا الرّوحيّة، في شَوْقِنا الروحيّ، إنّها السُّلَّم الذي نُقيمه بين الأرض والسماء. تأتي الصلاة في المرتبة الأولى. عندما تَستَتِبُّ الصلاة في قلبنا وتشتعل بعطش لا يرتوي لِربّنا، عندما تُعايِنُهُ وتُدرِكُهُ باستمرار، حينئذٍ تَجلِب بالصلاة جميع الفضائل الأخرى إلى نفسك. فيحظى المهندس (الصلاة) بفريق من البَنّائين المحترفين بامتياز ويبني بسرعة سلالم عجيبة من الأرض إلى السماء، سلالم ارتفاعك التدريجيّ نحو الله، نحو كَمالِك. عندما تملك القوة، أي الصلاة الحارّة، لن يكون أيّ صوم صعبًا عليك، ولن تكون أيّ محبّة مستحيلة، المحبّة الإنجيليّة المقدَّسة!

تقدّس الصلاة كلّ شيء فيك، عملَكَ، جميع أفكارك، جميع مَشاعرك، جميع أطباعِك. يا لها من قوّة إلهيّة! مَنَحَنا إيّاها الله لنقدّس كلّ ما فينا، في نفوسنا. توحّدك الصلاة بالربّ الكُلّي الرأفة، وسوف يَملأ قَلبَك بالرأفة تجاه كلّ شخص، بالخاطئ، بالأخ الضعيف مثلك، الذي يسقط مثلك لكنّه يعود فينهض مثلك، الذي يحتاج لمساعدتك، لِعَونِكَ الأخويّ، لِمُؤازَرَتِك المَقرونة بالصلاة، لخدمتك الكنسيّة. عندئذٍ، حين تقدّم المساعدة، سوف تبني سُلَّمَك بدون شك، السُّلَّم الذي يرتفع من الجحيم إلى الفردوس الذي فيك؛ عندئذٍ سوف تصعد، بكلّ تأكيد في قلبك، درجة درجة من فضيلة إلى فضيلة، وسوف تصل إلى أعلى السُّلَّم، إلى السماء، وسوف تدخل السماء، الفردوس السماويّ.

نحن نملك كلّ شيء: التطويبات التسع والفضائل الملائكيّة التسع. هذا هو إنجيل الصوم، إنجيل القدّيس يوحنا السُّلَّمي: الفضائل يا إخوتي، الفضائل العظيمة. إنّ الربّ أعلن ممارسة الصوم المُضني والصلاة والتواضع في التطويبات: "طوبى للمساكين بالروح، فإنّ لهم ملكوت السموات" (متى 3:5).

التواضع! هذا هو بَدء الحياة المسيحيّة، بَدء إيماننا، بَدء الفضائل، بَدء صعودنا إلى السماء إنّه أساسُ السُّلَّم. يا ربّ، إنّني لا شيء، أنت كلّ شيء! أنا لا شيء، أنت كلّ شيء! ذهني لا يساوي شيئًا أمام ذهنك، روحي لا تساوي شيئًا أمام روحك، قلبي، معرفتي… هي لا شيء، لا شيء أمام معرفتك يا ربّ! إنّني، إنّني لا شيء، لا شيء، يَتبَعُني عدد لا يُحصى من اللاأشياء. هذا ما أنا أمامك يا ربّ. التواضع! هذه هي الفضيلة الأولى، الفضيلة المسيحيّة الأولى. كلّ شيء يبدأ منها.

لكن مسيحيّي هذا العالم، الذي يبنون سُلَّم الخلاص هذا، هم دائمًا مُعَرَّضون لخطر القِوى الرَّجِسة. ما هي هذه القِوى؟ هي الخطايا، خطايانا، أهواؤنا، الذي يَكمُن وراءها ومن خلفها الشيطان. كما أنّ الفضائل المقدّسة تبني السُّلَّم السماويّ بين الأرض والسماء، كذلك الخطايا تبني سُلَّمًا نحو الجحيم، كلّ خطيئة. إن كان هناك خطايا في نفسك فانتبه. إن كنتَ تَكُنُّ كراهية في نفسك لمدة يوم، يومين، ثلاثة أيام، خمسة أيام، فانتبه لأيّ جحيم تحوّلت نفسُك. الأمر ذاته إن كنتَ تَكُنُّ الغضب، البخل أو الشهوة الضارّة. فماذا تفعل؟ فعلاً، أنتَ تبني لذاتك سُلَّمًا نحو الجحيم.

لكن إلهنا الصالح يقدّم لنا مثالًا عجيبًا. هنا، في مُنتَصَف الصّوم، يظهر القّديس يوحنا السُّلَّمي العظيم والعجيب. فهو يلمع بالفضائل الإنجيليّة المقدَّسة. نراه يصعد سُلَّم الفردوس، الذي نَصَبَه بين الأرض والسماء، بسرعة وحكمة. كَمُعَلِّمٍ وكَمُرشدٍ قديس، يُعطينا نحن المسيحيّين سُلَّمَه كمثال كي نصعد من الجحيم إلى الفردوس، من الشيطان إلى الله، من الأرض إلى السماء.

إنني أُصَلّي لأبينا الرّحيم والعظيم القدّيس يوحنا السُّلَّمي، أن يُشَدِّدَنا في جهادِنا ضدّ جميع خطايانا نحو الفضائل المقدَّسة؛ كي نبني بِمُؤازَرَته سُلَّمَنا الخاص بنا؛ وإذ نتبعه، نصل إلى ملكوت السّموات، الفردوس، حيث الرّاحة السّماويّة والفرح الأبديّ، حيث نُمَجِّد معه مَلِك جميع الصّالِحات، الملِك الأبديّ في ملكوت السّموات، ربّنا يسوع المسيح، الذي يليق به المجد والإكرام الآن وكل آن وإلى دهر الدّاهِرين. آمين.

المرجع

https://www.johnsanidopoulos.com/2016/04/homily-for-fourth-sunday-of-great-lent.html