تعريب رولا الحاج
لا يظنّن أحدٌ، يا إخوتي المسيحيّين، أنّه واجب على الكهنة والرهبان فقط أن يُصلّوا بلا انقطاع، وليس واجبًا على العلمانيّين.
لا، أبدًا، إنّه واجب علينا نحن المسيحيّون أن نلبث دومًا في الصلاة.
لنلقِ نظرة إلى ما كَتَبَه غبطة بطريرك القسطنطينيّة فيلوثيوس في سيرة القدّيس غريغوريوس التسالونيكيّ. كان لهذا القدّيس صديقًا محبوبًا يُدعى أيّوب، كان بسيطًا جدًّا ولكنّه من أكثر الناس عفّةً. مرّة، أثناء الحديث معه، قال غبطته إنّه ينبغي على كلّ مسيحيّ عمومًا أن يُجاهد ليُصلّي دومًا، وأن يُصلّي بلا انقطاع، كما يأمر بولس الرسول المسيحيّين كلّهم أن «صلّوا بلا انقطاع» (1 تسالونيكي 5: 17)، وكما يقول النبيّ داود عن نفسه، على الرغم من أنّه كان ملكًا ومضطرًّا أن يَنشغل بمملكته: «جعلت الربّ أمامي في كلّ حين» (مزمور 15: 8)، ما يعني، أنّني أرى ذهنيًّا في صلاتي الربّ أمامي في كل حين.
يُعلّم أيضًا القدّيس غريغوريوس اللاهوتيّ كلّ المسيحيّين أن يردّدوا اسم الله في الصلاة أكثر ممّا يتنفّسون.
لذلك يا أحبّائي المسيحيّين، أنا أيضًا أتوسّل إليكم مع القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفمّ من أجل خلاص نفوسكم، ألّا تهملوا ممارسة هذه الصلاة. اقتدوا بأولئك الذين أتيت على ذكرهم، واحذوا حذوهم قدر استطاعتكم.
في البداية، قد يبدو الأمر صعبًا للغاية بالنسبة إليكم، لكن كونوا على يقين، وكأنّه يقين آتٍ من الله القدير، أنّ هذا الاسم ذاته الذي لربّنا يسوع المسيح، الذي تدعون به دعاءً متواصلاً، سوف يُعينكم لتتغلّبوا على المصاعب كلّها، ومع مرور الوقت، ستعتادون على هذه الممارسة وتتذوّقون كم عذبٌ هو اسم الربّ. ومن ثمّ سوف تتعلّمون من خلال الخبرة أنّ هذه الممارسة ليست مستحيلة ولا صعبة، بل مُستطاعة وسهلة. لهذا السبب أمَرَنا القدّيس بولس، الذي يعرف أكثر منّا المنفعة الكبرى التي تأتي بها صلاة كهذه، أن نُصلّي بلا انقطاع. فهو ما كان ليَفرِض هذا الواجب علينا لو كان صعبًا للغاية ومستحيلاً، لأنّه عَلم مُسبقًا، أنّه في حالة كهذه، أي ليس عندنا إمكانية إتمام هذا الواجب، أنّنا نبرهن بصورة حتميّة على كوننا غير مطيعين وأنّنا سوف نتعدّى وصيته، وبهذا الشكل نستجلب على نفوسنا اللوم والدينونة. ليس عند الرسول نيّة كهذه.
علاوة على ذلك، تذكّروا طريقة الصلاة، كيف أنّه من الممكن أن نصلّي بلا انقطاع، ما يعني بواسطة الصلاة في الذهن. وإنّنا نستطيع ممارستها متى أردنا. عندما نجلس لنعمل بأيدينا، عندما نمشي، عندما نأكل، عندما نشرب، نستطيع أن نصلّي دومًا ذهنيًّا، ونمارس هذه الصلاة الذهنيّة. الصلاة الحقيقيّة تُسرّ الله. فلنعمل بالجسد، ونُصلِّ بالروح. فلندع إنساننا الخارجيّ ينجز مهماته الجسديّة، وليكن إنساننا الداخليّ مكرسًّا بالكليّة لخدمة الله، غير متخلّين أبدًا عن هذه الممارسة الروحيّة للصلاة الذهنيّة، كما يأمرنا يسوع الإله-الإنسان قائلاً: «وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَلَّيْتَ فَادْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ، وَصَلِّ إِلَى أَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ» (متّى 6:6).
إنّ مِخدَع الروح هو الجسد: وأبوابنا هي الحواس الجسديّة الخمس. تدخل الروح مِخدَعها عندما لا يتشتّت الذهن هنا وهناك، جائلاً وسط أمور العالم وشؤونه، بل يلبث مقيمًا في الداخل، في قلبنا. تُصبح حواسنا منغلقة، وتبقى مُغلقة عندما لا نتركها تتعلّق بأشياء حسيّة خارجيّة، وبهذه الطريقة يتحرّر ذهننا من كلّ تعلّق دنيويّ، وبالصلاة السريّة الذهنيّة يتّحد بالله أبيه. ويتابع الربّ قائلاً: «فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً». الله الذي يَعلم كلّ ما هو خفيّ يرى الصلاة الذهنيّة ويُكافىء على ذلك علانيّة بمواهب عظيمة. إنّها صلاة حقيقيّة وكاملة تلك التي تملأ النفس بالنعمة الإلهيّة والمواهب الروحيّة. كما أنّ الميرون يُعطّر الإناء مهما أُغلق باحكام، هكذا الصلاة، كلّما حُبست في القلب بإحكام، تفيض أكثر بالنعمة الإلهيّة.
طوبى لأولئك الذين يكتسبون عادة هذه الممارسة السماويّة، لأنّهم بممارستها يتغلّبون على كلّ تجربة من الشياطين الأشرار، كما تغلّب داود على جُليَات المتكبّر. إنّها تُطفىء شهوات الجسد الجامحة، كما أطفأ الفتية الثلاث لهيب الأتون. هذه الممارسة للصلاة الداخليّة تروّض الأهواء، كما روّض دانيال الوحوش المفترسة. وبهذا ينزل ندى الروح القدس على القلب، كما أنزل إيليّا المطر على جبل الكرمل. تَصِلُ هذه الصلاة الذهنيّة إلى عرش الله نفسه، وتُحفظ في جاماتٍ ذهبيّة باعثةً بخورًا أمام الربّ، كما رأى يوحنّا اللاهوتيّ في سفر الرؤيا «خَرّ الأربعة والعشرون شيخًا أمام الخروف، ولهم كلّ واحد قيثاراتٍ وجاماتٍ من ذهب مملؤة بخورًا هي صلوات القدّيسين» (رؤيا 5: 8).
هذه الصلاة الذهنيّة هي النور الذي يُنير نفس الإنسان وتُضطرم في قلبه بنار محبّة الله. إنّها صلة الوصل التي تربط الله بالإنسان، والإنسان بالله. يا لها من بركة، لا تضاهى للصلاة الذهنيّة! فهي تتيح للإنسان أن يَتحادث مع الله باستمرار. يا له من أمر رائع، بل وأكثر من رائع، أن يكون المرء بجسده وسط البشر بينما ذهنه يتحدث مع الله. ليس لدى الملائكة صوت طبيعيّ، لكنّها لا تتوقّف عقليًّا أبدًا عن تمجيد الله. هذا هو عملها الوحيد، وحياتها كلّها مكرّسة لهذا الغرض.
إذًا، يا أخي، عندما تدخل إلى مِخدعك وتُغلق بابك، أي عندما لا يشرد ذهنك هنا وهناك، بل يلِجُ في قلبك، وتُقيّد حواسك وتُمنع عن أمور هذا العالم، وعندما تُصلّي على هذا الشكل دومًا، حينئذٍ ستُماثل أنت أيضًا الملائكة القدّيسين، وأبوك الذي يرى صلاتك في الخفاء التي تُقدّمها له في أعماق قلبك المحجوب، يُجازيك علانيّة بمواهب روحيّة عظيمة.
لكن أيّة مكافأت أخرى وأعظم لك أن ترغب بها من هذا العمل عندما تكون دائمًا بالذهن، كما قلت، أمام وجه الله، ومتحدّثًا معه باستمرار الذي من دونه لا يقدر بشرٌ أن يكون مغبوطًا أبدًا سواءٌ هنا أو في الحياة الآتية؟
أخيرًا، يا أخي، كائنًا من تكون، عندما تَناولت هذا الكتاب وقرأته، أطلب أن تختبر بالممارسة الفائدة التي تجلبها الصلاة الذهنيّة للنفس. أتوسّل إليك، عندما تبدأ بالصلاة، على هذا النحو، أدعو الله دعاءً واحدًا قائلاً: «يا ربّ ارحم» الذي عمل على جَمعِ هذا الكتاب، وارحم من ساعد في نشره، لأنّهم بحاجة ماسّة إلى صلاتك لينالوا رحمة الله لنفوسهم، كما تحتاج أنت من أجل نفسك إلى صلواتهم. فليكن هكذا! فليكن هكذا!