الشماس المتوحّد رافائيل ميسياوليس
تعريب: فيرنا جدعون
يحتلّ القدّيس "غريغوريوس بالاماس" مكانةً بارزةً جدًّا في الكنيسة، لذلك يتمّ تكريمه في الأحد الثّاني من الصّوم مباشرةً بعد أحد الأرثوذكسيّة. نَجِدُ في شخصِهِ المعلّمَ الرّائعَ لهدوئيّة الحياة مع المسيح، ورَجلاً إلتزم بالإيمان المستقيم وزادَهُ بهاءً.
وُلِدَ القدّيس "غريغوريوس" سنة 1296 في القسطنطينيّة لأبوَين أرستقراطيَّين، "قسطنطينوس" و"كالوني"، أبوانِ تقيّان ربّيا أولادهما "بتأديب الرّبّ وإنذاره" (أفسس6: 4). لقد علّما أولادهما أن يعيشا بما يوافق مشيئة المسيح، الذي كان محور حياتهم. من الجدير ذكره أنّ الوالد، قبل انتقاله من هذه الحياة بفترة وجيزة، عهدَ بأولادِهِ إلى عناية سيّدتنا والدة الإله الفائقة القداسة.
ارتاد القدّيس "غريغوريوس" جامعةَ مسقطِ رأسِه، القسطنطينيّة، حيث درس القواعد والخطابة والفيزياء والفلسفة وعلم المنطِق. في العشرين من عمره، انصرف إلى جبل "بابيكيو"، ومن ثمّ إلى أماكن عدّة في "الجبل المقدّس". عاش في دير"الفاتوبيذي" تحت إرشاد "نيقوديموس الهدوئيّ"، من بعدها انتقل إلى "اللّافرا الكبير"، قبل أن يستقرّ كناسك في "غلوسيا" تحت إرشاد الرّاهب "غريغوريوس". أراد الذّهاب إلى "أورشليم" و"سيناء" بسبب غارات القراصنة الأتراك على منطقة "آثوس"، لكنّه، وقبل القيام بذلك، قضى بعض الوقت في "تسالونيكي".
إنتقل بعد ذلك، مع عشرة كهنة آخرين إلى إسقيط "فيريا"، حيث بقي مدّة خمس سنوات متتالية في عُزلةٍ تامّة. عام 1331، وبسبب رقاد والدته، عاد إلى "الجبل المقدّس"، حيث أصبح رئيس دير "إسفيغمينو". تجلّت عندها جميعُ مواهبه العظيمة، "بسيطًا في الأخلاق وحرًّا في التّفكير، وعَذْبًا في الكلام..."
برزت الحركة الهدوئيّة في "بيزنطية"، في النّصف الأوّل من القرن الرّابع عشر، ما أدّى إلى مواجهات وجدالات كثيفة. كان قائد المعارضة ضدّ الهدوئيّين، راهبًا يونانيًّا يُدعى "برلعام"، الذي مع "أكيندينوس" ومن ماثلهم الرّأي، هَزِئوا بالهدوئيّين ودعوهم بالهراطقة.
توجّه "برلعام" إلى القسطنطينيّة عام 1337، آملًا أن يدبِّر انعقاد مَجمَع يُدين الهدوئيين، إذ كان يعتقد بأنّ تقليدهم غريبٌ عن الأرثوذكسيّة، التي حسب اعتقاده، قد مثَّلَها هو حقّ التّمثيل. هذه كانت الشّعلة الّتي افتتحت الصّراع. تمثّلَ جزءٌ من عقيدة تيّار "برلعام" بقبول الله كجوهرٍ فقط، من دون القوى الإلهيّة. إن قبلنا فكرة أنّ لله جوهرٌ فقط، فإنّنا نقبل بالتّالي عقيدة "وحدة الوجود"[1] (pantheism)، أي بكلامٍ آخر، أنّ كلّ ما حولنا يحوي جوهر الله. إضافةً إلى ذلك، إن قَبِلنا أنّ لا قوى إلهيّة لله كما ادّعى تيّار "برلعام"، نكون نحن بالتّالي، كبشر، من جوهر الله نفسه.
لكنّنا نعلم أنّ أقانيم الثّالوث الثّلاثة، هم فقط، واحدٌ في الجوهر. نستنتج بالتّالي أنّ "برلعام" وزملاءه بالفكر، كانوا ينشرون هرطقةً، تُلغي مخطّط الله، ألا وهو خلاص الجنس البشريّ.
استدعى الميتروبوليت "إيسيدوروس التسالونيكي" - الذي كان على دراية تامّة بمواهب "بالاماس" - قدّيسنا من جبل آثوس إلى "تسالونيكي"، بسبب المِحَن الّتي كانت تعاني منها الكنيسة نتيجةً لهرطقة "برلعام". عاد القدّيس "غريغوريوس" إلى "تسالونيكي" والتقى بـ"برلعام"، ولكن النّتيجة المرجوّة لم تتحقّق، أي عودة"برلعام" عن هرطقتِهِ.
من ثمّ، وخلال الحرب الأهليّة الّتي نشأت بين "يوحنا باليولوغوس" و"يوحنا كانتاكيوزينوس"، تبدّل رأي البطريرك "يوحنا كاليكاس" حول الهدوئيّة، فكانت النّتيجة أن انقسم أبناء رعيّته، وهوجِمَ "بالاماس" لرفضه تأييد موقف البطريرك. تمّ سَجْنُ القدّيس "غريغوريوس" أربعَ سنوات إلى حين إطلاق سراحه إبّان تغيّر الوضع الكنسيّ والسياسيّ. عُيِّنَ بعدها ميتروبوليتًا على "تسالونيكي"، إلّا أنّ "الغيورين" هناك منعوه من الدّخول إلى المدينة لإتمام مراسيم الرّسامة، مُجبِرين إياه بدلًا من ذلك، على اللّجوء إلى "الجبل المقدّس". لكنّهم ما لبثوا أن وعوا حجم خَطَئهم وعادوا وطلبوا منه العودة إلى "تسالونيكي". فلبّى الطّلب عام 1350، وبزغ عهد جديد للمدينة الثّانية في إمبرطوريّة "روما الجديدة".
كان المبتغى النّهائيّ من عمله الرّعائيّ هو "التألّه"، فاقتاد بالتّالي رعيّته لبلوغ أولى مراحل الجهاد الرّوحيّ، أي التحرّر من الأهواء والمساهمة بأسرار كنيستنا الأرثوذكسيّة. لكنّ الأهمّ من ذلك، حرصه على حماية رعيّته من الهرطقات. كان صبورًا وفاعلًا للخير ووديعًا ومتواضعًا ومصلّيًّا وصاحبَ كاريزما. احتفل باللّيتورجيا ووعظ مرارًا كثيرة؛ أراد أن يكون هناك سلامٌ تجاه الله، وتجاه أقربائه؛ أدان سوء استخدام الثّروة وهوس الحصول عليها؛ مَقَتَ عدم الإحساس تجاه الآخرين والمَظالِم الاجتماعيّة؛ اتّخذ إجراءات لضمان تدريب الإكليروس؛ وأخيرًا، كان مهتمًّا بنا نحن أيضًا، الأجيال الّتي خلَفَتهُ، بتركِهِ لنا أعماله الأدبيّة.
ليس بالأمر الصّائب أن نغفل عن ذكر المجامع الخمسة المرتبطة بإسم القدّيس "غريغوريوس بالاماس". في المجمع الهدوئيّ الأوّل، المنعقد في 10 حزيران 1341 في كنيسة الحكمة المقدّسة في القسطنطينيّة، بحضور البطريرك "يوحنا"، والإكليروس والرّهبان، أُدينَ "برلعام" وتبرّر "بالاماس".
إلّا أنّ الخلاف لم يَنتهِ هنا، بل استمرّ من جديد على يد "غريغوريوس أكيندينوس"، أحد مؤيّدي فِكر "برلعام". فكان أن دعا البطريرك إلى انعقاد مجمعٍ ثانٍ في تمّوز 1341، بحضور "بالاماس" و"أكيندينوس". أُدينَ "أكيندينوس" (شفهيًّا)، وأمّا الإمبرطور "يوحنا كانتاكيوزينوس" فقد انحاز إلى صفّ "بالاماس".
من ثمّ عام 1347، انعقد مجمع في القصر الملكيّ، أُدين فيه "أكيندينوس"، وحُرِمَ البطريرك "يوان كاليكاس" بصفته برلعاميّ. وانتُخِب "إيسيدوروس الأوّل" الهدوئيّ خلفًا له وقد أعاد هذا الأخير تعيين "بالاماس" رئيس أساقفة "تسالونيكي".
إلاّ أنّ معارضي "بالاماس" لم يُبدوا أيّة علامات خضوع، لذا، عام 1351، انعقد مجمع بغية تسوية الخلاف لِمرّةٍ نهائيّة. كان مُعارضو "بالاماس" الرّاهبَ "نيكيفوروس غريغوراس" والميتروبوليتان "يوسف من غانوس" و"ماتيوس من أفسس". تمّ تثبيت تعليم "بالاماس" بنعمة الله، وأُدين "أكيندينوس"، أمّا الميتروبوليتان المذكوران فقد حُرِما مع أتباعهما. من الجدير ذكره، أنّه قد تمّت إضافة مقرّرات هذا المجمع إلى "سينوذيكون" الأرثوذكسيّة، ما يجعل هذه القرارات رسميّة وملزِمة.
أثير الجدال مرّةً أخرى، عام 1368، هذه المرّة عبر راهب يُدعى "بروخوروس كيدونيس"، والذي تمّت إحالته إلى البطريرك "فيلوثيوس كوكينوس" بصفته من مؤيّدي "برلعام" و"أكيندينوس". مَثَلَ أمام مجمع 1368 حيث تمّت إدانته، وتمّ الاعتراف بـ"غريغوريوس بالاماس" قدّيسًا في الكنيسة الجامعة المقدّسة الرّسوليّة.
تبنّت الكنيسة تعاليم القدّيس "غريغوريوس بالاماس" رسميًّا في مجمعَين انعقدا في القسطنطينيّة في العامين المتعاقبَين 1341 و1351.
رقد القدّيس "غريغوريوس" بالرّب عن عمر يناهز الـ 63، بعد أن تنبّأ بيوم رقاده.
كان القدّيس "فيلوثاوس كوكينوس"، بطريرك القسطنطينيّة، هو مَن اقترح ملفّ قداسة القدّيس غريغوريوس، وهو نفسه كاتب سيرة حياتهِ وترتيب خدمته، وراهبٌ زميل للقدّيس غريغوريوس، ومؤيّد لنفس التّقليد الهدوئيّ.
أُعلن "غريغوريوس بالاماس" رسميًّا قدّيسًا في الكنيسة الأرثوذكسيّة عام 1368 بقرارٍ مجمعيّ من البطريركيّة المسكونيّة. يُعَيَّد له في الـرابع عشر من تشرين الثّاني من كلّ عام، وأيضًا في الأحد الثّاني من الصّوم الكبير كاستمراريّة لأحد الأرثوذكسيّة، بما أنّ الانتصار على عقائد "برلعام" الهرطوقيّة، يُعتَبَرُ مساوِيًا للانتصار على بدعة محاربي الأيقونات.
إن رُفات القدّيس "غريغوريوس بالاماس" المقدّسة هي مَحفوظة في كاتدرائيّة مطرانية "تسالونيكي" المُكَرَّسة له.
بصلواتِهِ المقدّسة، أيّها الرب الإله، إرحمنا وخلّصنا.
[1] وحدة الوجود مذهب فلسفي يقول بأن الله والطبيعة حقيقة واحدة، وأن الله هو الوجود الحق، ويعتبرون الله صورة هذا العالم المخلوق، أما مجموع المظاهر المادية فهي تعلن عن وجود الله دون أن يكون لها وجود قائم بذاته.