معنى الصوم للإنسان

تعليم في الأسبوع الثاني من الصوم

القديس إغناطيوس بريانشانينوف
تعريب: جولي سعد وماهر سلّوم

 

"فَاحْتَرِزُوا لأَنْفُسِكُمْ لِئَلاَّ تَثْقُلَ قُلُوبُكُمْ فِي خُمَارٍ وَسُكْرٍ وَهُمُومِ الْحَيَاةِ، فَيُصَادِفَكُمْ ذلِكَ الْيَوْمُ بَغْتَة" (لوقا21:34)

 

إن الحديث عن الصوم لمهمٌ جدًا لخلاص نفوسنا خلال الصوم الأربعينيَ المقدس، وليس فقط إجهاد أجسادنا به، علينا أن نحترز من الإفراط بالطَّعام والتُّخمَة، فالله نفسه يُحَذِّرنا من ذلك؛ "فَاحْتَرِزُوا لأَنْفُسِكُمْ لِئَلاَّ تَثْقُلَ قُلُوبُكُمْ فِي خُمَارٍ وَسُكْرٍ وَهُمُومِ الْحَيَاةِ، فَيُصَادِفَكُمْ ذلِكَ الْيَوْمُ بَغْتَة" (لوقا 34:21).

 الصوم هو تأسيسٌ إلهي. وصيّة الصوم هي الوصيّة الأولى التي أعطاها الله للإنسان، "وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا." (تكوين 2:17) فهي كانت ضرورية بالنسبة لنا في الفردوس قبل سقوطنا؛ وهي الآن أكثر ضرورة بعد السقوط. أُعطِيَت وصيّة الصوم في الفردوس؛ وتتكرّر في الإنجيل. فلنرتفع بأفكارنا إلى نظام الصوم الإلهي ومن خلال هذا النظام، دعونا نحيا بِروحِنا جهاد الصوم نفسه.

إن مجهود الصوم لا يتعلّق فقط بالجسد، فهو ليس مهمٌ وأساسيٌ للجسد وحده بل هو أيضًا مفيدٌ وضروريّ أوّلاً للذهن والقلب. "فَاحْتَرِزُوا لأَنْفُسِكُمْ لِئَلاَّ تَثْقُلَ قُلُوبُكُمْ فِي خُمَارٍ وَسُكْرٍ". أظهر لنا المخلص في هذه الكلمات شيئًا مهمًا للغاية، ألا وهو تأثير الإفراط في الطعام والشراب، كنتيجةٍ رهيبةٍ، تُدَمِّر الروح . إن القلب يتصلّب، يقسو ويثقلُ من خلال إرضاء المعدة. عندما يُحرَم الذهن من روحانيّته وصفائه يصبح الإنسان عندها شهوانيًا (جسديًا). ما المقصود بالإنسانٍ الشّهوانيّ؟ يُلَقِّب الكتاب المقدس بالشهواني ذاك الإنسان المُتَعَلِّق بالأرضيّات، الفارغ من الأفكار والمشاعر الروحية. فَقَالَ الرَّبُّ: «لاَ يَدِينُ رُوحِي فِي الإِنْسَانِ إِلَى الأَبَدِ (تكوين 3:6). فالإنسان الشهوانيّ (الجسديّ) غير قادر على عبادة الله. وحتى الإنسان الروحيّ بمجرّد أن يُخضِع نفسَه للشَّبع سيخسر روحانيّته وبطريقةٍ ما سيفقد القدرة على معرفة الربّ وخدمته. ورد في الكتاب المقدس: "فَسَمِنَ يعقوب[1] وَرَفَسَ"، مُخاطِبًا يعقوب الخادم الحقيقي للرب، "سَمِنْتَ وَغَلُظْتَ وَاكْتَسَيْتَ شَحْمًا! فَرَفَضَ الإِلهَ الَّذِي عَمِلَهُ، وَغَبِيَ عَنْ صَخْرَةِ خَلاَصِهِ" (تثنية 15:32). يتعرّض المُجاهِد لهذه الحالة عندما يستثني الصوم من جهاداته النُّسكيّة. إن عدم التمييز والإفراط في الطعام يؤدي إلى السُّمنة والكسل الذي ينتقل شيئًا فشيئًا من الجسد إلى القلب ومن القلب إلى الذهن. ففي هذه الحالة تُحجَب الأبديّة عن هذه العيون الروحيّة، الذهن والقلب، فيتخيّلان هذه الحياة الأرضيّة برؤية مريضة أنها غير مُتَناهية. مَسيرتُنا في الأرض مُقتادة بهذه الأفكار والمشاعر، والمسافر الأعمى البائس "على بَطنِه يسعى وتُرابًا يأكل كل أيام حياته" (تكوين 14:3). لقد حذّر المسيح تلاميذه من الجحود بسبب عدم صَوْمِهِم.

إن تأثير الإفراط والتَّهَوُّر وحتى عدم الإنتباه في استخدام الطعام، يُفَسِّر سبب حاجة الإنسان لوصيّة الصوم حتى في حالة طَهارته، أي في مرحلة تَمَتُّعِه بالفردوس. لقد كان الهدفُ الحفاظَ على الخليقة المُنشَأة حديثًا، المُكَوَّنة من طبيعتين: الروحية والجسدية، بحالتها الروحيّة.  فالغرضُ كان الحفاظَ على التوازن بين الطبيعتين وإعطاء الأفضليّة للطبيعة الروحيّة. فبمساعدة الصوم يستطيع الإنسان أن ينتصب بفكره وقلبه أمام الله وأن يطرد الأفكار الباطِلة والتَّخَيُّلات.

إن الصوم هو الوصيّة الأكثر ضرورةً للإنسان الساقط. إن التَّعَلُّق بالأرضيّات وبهذه الحياة الأرضيّة العابرة، بما يكمن فيها من حلاوة وعَظَمة ومجد، وبالميل إلى الخطيئة قد أصبح مُتَرَسِّخًا بطبيعتنا الساقطة، تمامًا كما المَشاعر والشهوة الجامِحة هي مُتَرَسِّخة بالمرض الذي يُسَبِّبها. نحن مُسَمَّرون على الأرض، مُلتَصِقين بها ليس بأجسادنا فحسب بل بكل روحنا: لقد أصبحنا جَسَدِيّين تمامًا، مُجَرَّدين من المشاعر الروحيّة، غير قادرين أن نُعايِن السماويّات. إذن وصيّة الصوم هي أهمّ وصيّة لازمة لنا.
فقط بمساعدة الصوم يمكن أن ننسلخ عن الأرض؛
فقط بمساعدة الصوم ، يمكننا مقاومة المَلَذّات الأرضيّة الخادِعة؛
فقط بمساعدة الصوم ، يمكننا كسر رباط الخطيئة؛
فقط بمساعدة الصوم يمكن لروحنا أن تتحرّر من ثقل قيود الجسد؛
فقط بمساعدة الصوم يمكن لأفكارنا أن ترتفع عن الأرض وأن تتطلّع نحو الله!
بِقَدر ما نُلقي على أنفسنا نير الصوم المبارك، تتحوّل روحُنا، المُتَجانِسة والمُتَفاعِلة مع الصوم، إلى مُعاينة الله فَتَنغَمِر بهذه المُعايَنة العَجيبة وغير المحدودة وتستقر فيها. إذا كانت الأشياء في هذا العالم المادّي المُضاءة بأشِعّة الشمس المادّية تستمدّ منها النور وتشعّ به، فكيف يمكن لنفوسنا ألّا تكون مستنيرة، بعد إزالة بُرقُع الجَسَدانيّة الرَّديء والمُظلِم من خلال الصوم، فتنتصب مباشرةً أمام شمس العدل، الله؟ تصبح النفس مستنيرة! تستنير وتتحوّل! تنشأ فيها أفكار جديدة، إلهيّة، تُعلَن لها أسرارٌ لم تكن معروفة من قبل. "السماوات تُذيع" لها "مجد الله" (مزمور 2:18)؛ السموات تُخبِر بقدرة اليَدَين التي خلقَتْها؛ الخليقةُ كُلُّها، المنظورة وغير المنظورة، تبشّر برحمة الخالق التي لا توصَف! إنها تتذوّق ما هو روحيّ وتنظر ما هو روحيّ "أن الرب صالحٌ" (مزمور 9:33).

يُمنَح الجسد صَفاء الروح واستنارة مَملوءة بالنعمة؛ فينجذب الجسد، بعد الروح، إلى الأحاسيس الروحيّة فَيُفَضِّل الطعام الذي لا يفسد، الذي خُلِق من أجله، على الطعام الفاسد الذي سقط بسببه. في البداية، يخضع الجسد بصعوبة لعلاج الصوم الصّارِم. فهو يثور أوّلاً ضد نظام الصوم، ويجعل الروح تنقلب عليه، فيتسلّح ضدّه  بمبرّرات مختلفة مستمدة مما يُسَمّى خطأً بالعقل؛ ولكن، عندما يتم ترويض الجسد وشفاؤه من خلال الصوم، فإن مشاعره تتبدّل ويبدأ بالتحليل بطريقة مختلفة. علاقة الجسد بالتُّخمة هي كمشاعر مريض تجاه الأطعمة المؤذية، التي يرغبها بهذيان أثناء مرضه. علاقة الجسد بالتُّخمة هي كالسّم المُكتَشَف والمعروف الذي يُبطِل هيمنة الروح على الجسد، والذي يُسقِط الإنسان من مرتبة بالملائكة إلى درجة الحيوانات غير عاقلة. إن المجاهدين الروحيّين الذين تغلّبوا على الجسد بالصوم، الذين وقفوا أمام وجه الرب ليتعلّموا أعظم الأسرار وأسمى الفضائل، يسمعون من شفتيه التعليم حول فضيلة الصوم السامية وإعلان سر الوجود الحاصل تدريجيًّا بعد حالة من الإفراط في الطعام والتخمة؛ "فاحترزوا لانفسكم لئلًا تثقل قلوبكم في خُمارٍ وسكرٍ"؛ يتم تذكير الغالبين بأن يحافظوا بكل دِقّة على أسلحتهم التي بها نالوا على الظفر!  فالإكليل الذين اكتُسِبَ من خلال هذا الظفر يتمّ الحفاظ عليه باستخدام سلاح واحد ألا وهو الصوم.

إن المسيحيّ الذي يُمارِس النُّسك، الذي يستنير من العلى، الذي يتعلّم من خبرته الشخصيّة في التَّقوى والذي يعاين جهاد الصوم في نفسه، يجد ضرورة فعليّة ليس بالامتناع فقط عن الأكل المستمر والشَّبَع، ولكن أيضًا تمييز صارم في اختيار نوع الطعام. يبدو هذا التّمييز مُبالَغ به فقط إن نظرنا إليه نظرة سطحيّة وعابرة؛ ولكن، في الجوهر، نوعية الطعام مهمّة جدًّا. في الفردوس، كانت النوعيّة  فقط ما هو ممنوع. في وادي الدموع، هنا على الأرض، نجد أن عدم التمييّز في النوعية يُسبّب الكثير من الضيقات الروحية أكثر من كميّة الطعام الزائدة. لا ينبغي أن نظن أنه يمكن فقط لعنقود من العنب أن يؤثّر على أذهاننا وعلى نفوسنا، ولكن كل أنواع الطعام لها تأثيرها الخاص على الدم والدماغ والجسد كله ومن خلال الجسد، على الروح. كل من ينتبه لنفسه، ويدرّب نفسه في جهاد الصوم، سيجد أنه من الضروري جدًا إمساك الجسد والروح عن الإستخدام المستمر للحوم والأسماك؛ وسوف يحترم ويكرّم بكل محبة قواعد الكنيسة المتعلّقة بالصوم ويطبّقها. أعلن الآباء القديسون أن الصوم هو أساس كل الفضائل لأنه يحفظ أذهانَنا في النّقاوة والرَّصانة اللازمة، وقُلوبَنا في حالة صفاء وروحانيّة. الذي يزعزع أساس الفضائل، يزعزع الفضائل بأكملها.

أيّها الإخوة! فلنَعبُر ميدان الصوم المقدس بغيرة ومُثابَرة. إن الحرمان الذي يتعرّض له جسدُنا للوهلة الأولى من خلال نظام الصوم لا يُقدّر بشيءٍ مقارنةً مع المنفعة الروحيّة التي يمكن للصوم أن يجلبها. فلنُبعِد أجسادنا بالصِّيام عن الكماليّات والموائد الغنيّة ولننتزع قلوبنا من الأرض والفساد، ومن هذا النسيان العميق والمدمّر، الذي به نفصل أنفسنا عن الأبدية التي تنتظرنا وهي مستعدّة لإحتضاننا . لِنسعَ  إلى الله بالجسد والروح! لِنَرهَب من الحالة الجسدانيّة الناتجة عن كَسر الصوم، ومن عدم القدرة على عبادة الله ومعرفته. يَظهر هذا العجز المُدَمِّر فينا عندما نزدري بوصيّة الصوم الإلهيّة، فنسمح لأنفسنا أن تثقل قلوبنا في خُمارٍ وسكرٍ (لوقا 34:21). آمين.

http://orthochristian.com/111178.html

 


[1]. يرد إسم يَشُورُونَ في ترجمة فان دايك، ومعناه: المستقيم والعزيز، والمقصود هو يعقوب – إسرائيل (المُعَرِّب)