الأسبوع الأول من الصوم الكبير: نصائح رَعَويَّة

تعريب: نديم سلوم (بتصرُّف)

الأسبوع الأول من الصوم هو وقتٌ مُخَصَّص للصلاة والتَقَشُّف الصارم. في الأيام الأربعة الأولى – من الإثنين إلى الخميس- يُقرأ القانون الكبير للقديس أندراوس الكريتي تقريبًا في جميع الكنائس.

تعيش الأغلبيَّة العظمى من المسيحيين المُلتَزِمين في المدن. تترك المدن الكبرى آثارها على حياتنا الروحيَّة. ينغمس سكان المدن في اهتماماتٍ يوميَّة عديدة: يعملون ويدرسون وهم دائمًا على عجل... بسبب ظروف مختلفة، لا يجد البعض القدرة والإمكانيَّة للمشاركة في كل صلوات الصوم الكبير. طلب الموقع (Provaslovie.ru) من عدَّة كهنة إعطاء بعض الإرشادات حول الأمر الرئيسي الذي برأيهم يجب على المسيحي أن ينشغل به في أيام الصوم الكبير، لتقديم شيئًا من الخبرة الشخصيَّة، لمساعدة المسيحيين الغارِقين باهتماماتهم لتحديد برنامجهم الروحي – بالحد الأقصى والأدنى- خلال هذا الزمن.

 

1) الأب أندري تكاشيف، كاهن كنيسة القيامة، موسكو:

لا يمكن لجميع المؤمنين، مهما كانوا كثيرين، أن يصوموا بالطريقة نفسها – بسبب اختلافهم في العمر والصحة ونمط الحياة ودرجة المشاركة في الحياة الكنسيَّة. تفرض الحقبات، الواحدة تلو الأخرى، طابِعَها المُمَيَّز على الحياة الروحيَّة، محوِّلةً الجهاد الروحي ذاته والوحيد، لا إلى تكرار ما كان سابقًا، بل إلى شيء فريد وخاص تمامًا.

أين تكمن الخصائص الحديثة للصوم؟

أول ما يخطر في ذهنك هو الوقت الذي يقضيه الشخص اليوم في التنقُّل. الذهاب إلى العمل، وبعد العمل الذهاب إلى الكنيسة، من ثمَّ العودة إلى المنزل. إنَّه روتين مرهق مع وسائل نقل المدينة، إنَّه استنزاف يومي للقوة والعمل.

لا يمكننا تغيير ظروف الحياة جَذرِيًّا، ولكن يمكننا تغيير سلوكنا تجاهها. تدعو الحاجة هنا للرِّقّة والتعاطف من قبل الآباء الروحيين "لابن الرعية الصغير" الذي يقاتل من أجل حياته، المنهك من حياته المشوَّشة، ويحاول أن يخدم الله. يجب أن نفهم أنَّ عدو صلاة الصباح هو الاستعجال، وعدو صلاة المساء هو التعب. لذا، ربما عليك أن تحفظ الصلوات والمزامير عن ظهر قلب لكي تصلِّي أثناء جلوسك في السيارة. يجب ألاَّ نوبِّخ شخصًا لهذا النوع من الصلاة، بل يجب أن نشجَّعه وندعمه.

تعليقٌ آخر ضروري فيما يَختَصُّ الحقبات وميزاتها – هو تحويل الخِطاب من الطعام إلى الإعلام المَرئي والمَسموع. كان رجل العصور السابقة أكثر صحة وأقوى من أيامنا. كانت المعدة الفارغة ضروريَّةً له لتقليص نشاطه البيولوجي. كان من الضروري أن يضعف نشاطه بُغية ضبط أهوائه الجامحة. لكن الإنسان المعاصر، في أكثر الأحيان، ضعيف جدًّا. لا يعاني من زيادة في القوة البَدَنيَّة، ولا ينقل الجبال. على عكس ذلك، يستيقظ مُتعَبًا وبالكاد يحرِّك قدمَيه خلال النهار. من ناحية أخرى، يُفرط في تَلَقّي المَعلومات، يُصبح متخمًا بها وهي تتدفَّق إلى عينَيه وأذنَيه من الإعلام مثل الأمطار الإستوائيَّة.

إنَّ إطفاء التلفاز وعدم تشغيله على الأقل في الأسبوع الأول من الصوم وأسبوع الصليب والأسبوع العظيم، أكثر فائدة من التَّدقيق في محتويات الطعام: إذ كان يحتوي على حليب مُجَفَّف أو طعامًا آخرًا غير صيامي. الموسيقى والنَّميمة والثرثرة الفارغة والبرامج التلفزيونيَّة و"التسكُّع" على مواقعك المفضَّلة هي أكثر خطورة من كوب من الحليب، وتتطلَّب موقفًا أكثر صرامة، أو حتَّى سلوكًا أكثر قساوةً تجاه نفسك.

بالطبع، أنا لا أقول أنَّك يجب أن "تصوم عن وسائل الإعلام" وتستمر في تناول ما تريد. كما يقول الآباء، ضبط الجسد هو بالحقيقة "أُم جميع الأمور الصالحة". عليك أن تجفِّف البطن وتقدِّم الصَّدَقات وتقرأ الكتاب المقدس وتمارس المطَّانيَّات. لكن علينا أن نفهم خُصوصِيَّات العالم الذي نعيش فيه، ولا نحاول، كما قال القديس فيلاريت من موسكو، تحويل مدينتنا إلى طيبة[1]، والقرن التاسع عشر إلى الخامس. يُرَدِّد القديس إغناطيوس برينتشانينوف المعاصر للقديس فيلاريت، وهو مُساوٍ له في الفكر والحياة العجائبيَّة، الكلمات التالية كالوصيَّة: "إفهم الأوقات".

وبالتالي، يجب ألاَّ نستخدم المقياس نفسه مع الجميع، ولكن أن نعمل مع كل شخص على أنَّه "حالة خاصة". يجب أن نتذكَّر أنَّ الصوم والصلاة هما العمل الذهني للإنسان الداخلي، وهذا يعني، أنَّ عدو هذا العمل هو فائض الإعلام بدرجة أكبر من فائض السعرات الحراريَّة.

الباقي هو مسألة خبرة، إذ إنَّ مَن يسير الطريق هو الذي يُتقِنُها، لا مَن يدرس الخريطة.

 

2) الراهب – الكاهن مكاريوس، رئيس خدمة الإتصالات في أبرشية Ivano-Voznesenskaya

ما الذي يجب أن يكون محوريًّا بالنّسبة إلينا خلال الصوم؟ على الجواب، سواء كان من الخبرة الشخصيَّة أو الكنسيَّة، أن يكون بمصطلحات "نسبيَّة" لا مُطلَقة. لا تَقُل لأحد: تناول هذا، إقرأ هذه الصلوات، إذهب إلى الكنيسة في هذا الوقت[2] ولكن أعرض ما يلي:

ما لا يجب فعله هو القيام بنذر "من أجل الصوم" بغية الامتناع عن بعض الخطايا أو عادة سيئة. إذا كانت خطيئة، عليك أن تتخلَّص منها إلى الأبد. هكذا على سبيل المثال، إذا كنت تعاني من "مشاكل" في تعاطي الكحول وقد تعهدَّت بعدم الشرب أثناء الصوم الكبير، فهذا يعني أنَّك ستتحرَّق على مدى سبعة أسابيع للمشروب، وستلاقي الفصح المقدَّس كالخنزير.

 

3) الأب سرجيوس فيشنياكوف، عميد مقاطعة أوبنينسك في أبرشية كالوغا، مدير المركز الروحي التربوي "إيمان وأمل ومحبة":

الأمر الأهم للمسيحيين خلال الصوم الكبير هو أن يكونوا شديدي الانتباه خلال هذه الأيام. إنها فترة عمل مُكَثَّف على حالتكم الدَّاخلية. الاعتدال في الأكل، والصلاة، هما الشرطان الوحيدان اللذان يتحقَّق من خلالهما الهدف – تطهير الروح-. إذا كان لديك الفرصة، إذهب إلى الكنيسة للصلاة. من الجيد بشكل خاص الذهاب إلى الكنيسة للمشاركة في قانون القديس أندراوس الكريتي الذي يؤثِّر بشكل كبير في القلب والذهن بتوبة عميقة. لا تيأس إذا لم تسنح لك الفرصة للقيام بذلك.

من الجيِّد تفادي مظاهر النسك الخارجي، ولا تكن ذا وجه مكتئبٍ أثناء الصوم الكبير... كن ودودًا وهادئًا. في الوقت نفسه، حاول أن تكون وديعًا، لكي لا يصدر منك أمورًا سلبيَّة. إحدى علامات الصوم غير السَّليم هي السرعة بالإنزعاج، الغضب، الذي غالِبًا ما يظهر، خاصةً عندما يحصل صراعًا بين الإنسان الجديد والقديم. إذًا، الانتباه (اليقظة) هو النَّواة التي تُبنى حولها كامل حياة الإنسان الروحية. يجب أن نراقب أنفسنا عن كثب خلال الصوم: ما نقوله، ما نستمع إليه، أين ننظر، ما يفكِّر فيه قلبنا. هذا هو الأمر الرئيسي. يجب أن نتذكَّر -كما يعلِّم الآباء القديسون- أنَّ الصوم الكبير ليس مجرَّد جزء من مَسارِنا في الحياة، بل هو انعكاس لحياتنا بكاملها.

فيما تعمل على ذاتك، عليك أن تعمل على ما يعذِّب ضميرك أكثر، ما يُعيقك عن الحياة، ما تريد التَّخَلُّص منه، وحاول أن تبذل جهدًا لتحقيق ذلك من خلال الصوم والتوبة والصلاة.

من ناحية أخرى، بالطبع، طول امتداد الصوم الكبير يذكِّرنا بِعُشْر السنة التي نعطيها لله، أي إنَّها ذبيحة لله. علينا أن نُضَحِّي. لنفترض أنَّ رجلاً لديه تَعَلُّق بريء ظاهريًّا، أن يأكل الحبوب. إنها طعام صياميّ بالكليَّة، ولكن سيكون من الجيِّد محاولة تَعَلُّم الاعتدال في الأشياء الصغرى؛ كما يقول بولس الرسول "لا يتسلَّط عليَّ شيء" (1كور6: 12). أو على سبيل المثال، حاول أن تمتنع عن الحلويات خلال الصوم. وغني عن القول أنَّه من الضروري الامتناع عن التلفاز، والتواصل غير الضروري، والمحادثات الهاتفيَّة، والتحدُّث في منتديات الإنترنت، وغيرها من الأنشطة التي تساهم في التَّشَتُّت.

أما بالنسبة للامتناع عن الطعام، فكل شيء شخصي: صُمْ إن كنتَ قادرًا، ولكن عليك أن تَحُثَّ نفسك على ضبط النفس. يكتفي الواحد بالامتناع عن اللحم، أمَّا الآخر يصوم أكثر صرامةً، والثالث يمتنع بشكل عام عن تناول الطعام. إنَّه مبدأ بسيط: كل الأشياء تَحِلُّ لي لكن ليس كل الأشياء توافق (1كور6: 12).

للكبرياء تَطَرُّفَيْن: كل شيء أو لا شيء. لا يستطيع الكبرياء السير في الوسط. يجب أن يكون كل شيء بقدر ما لكي لا يتدخَّل جسدُنا بصلاتنا الذهنية. هذا هو المبدأ الرئيسي.

لِنَعُدْ إلى فكرتنا الأولى – الانتباه.

لستَ بحاجة لممارسة طُرُق نُسكيَّة تَفوق طاقتك خلال الأسبوع الأول.[3] يُخفَّف الصيام للمرضى والطلاَّب والحوامل. الإرهاق الجسدي المُفرِط من جرَّاء الصيام هو ضارٌّ مثل الإفراط في الأكل. كيف يمكنك أن تصلِّي إذا كنت بالفعل تسقط، وقد تعبت ساقاك من الإرهاق أثناء الصلاة؟ من خلال خبرة التاريخ الكنسي نعرف أنَّ النسَّاك القدماء أدركوا كما يتبيَّن، أنَّ الصوم عن الأكل أسهل من الصِّراع مع الأفكار، والنوم على الأرض أسهل من الغفران. بالفعل منذ تلك الأزمان تغيَّر الموقف تجاه النُّسك، تجاه العمل على نفسك.

إذا كانت المرأة تجلس في المنزل مع الأطفال ولا تستطيع الذهاب إلى الكنيسة للاستماع إلى قانون القديس أندراوس الكريتي، عندئذ يمكنها قراءة القانون في المنزل (هناك ما يكفي من الكتب الآن)، حتى في الليل، كما فعلت جَدَّاتُنا الوَرِعات.

الأمر الأكثر أهميَّة خلال الصوم الكبير ليس أن تُراجِع نفسك بل أن تُصَحِّحَها. يجب ألّا تعاقب نفسك: نحن بعيدون عن الكمال، يمكننا أن نفحص ما الذي "يدفعنا للجنون" في داخلنا، ما نراه في أنفسنا، وبالتالي نحن بحاجة لنحرِّر أنفسنا بسرعة أكبر من خلال الاعتراف. وإلاَّ فاليأس والكآبة سَيَطْغَيان علينا، إذا نظرتَ فقط إلى خطاياك. ظاهريًّا، يجب أن نكون وَدودين، ونتذكَّر أنَّنا أولاد أبينا السماوي.

 

4) الأب بولس غوميروف، كاهن كنيسة القديس نيقولاوس في مقبرة روغوشسكايا، موسكو:

عندما كنتُ أدرس في معهد اللاهوت، كُنّا نستمع في غُرَفِنا إلى أغنية شهيرة للكاهن - الراهب رومان (ماتيوشين). أتذكَّر الآن بعض الجُمَل من إحدى أُغنياته: "الصوم مع الصلاة يُدفئ الروح/ رنين جرس فوق الأرض..."

لإنَّ "الصوم والصلاة يُدفئان الروح" الباردة والفقيرة والحزينة والوحيدة في هذا العالم المعاصر والقاسي. نمتلئ حرارةً في الكنيسة خلال الخِدم، وكأننا نستعيد استقامَتَنا. يُدعى الصوم أيضًا "ربيع الروح"، وليس من الصُّدفة أنَّ الصوم الأكثر أهميَّة دائمًا ما يكون في الربيع. تتحرَّر الطبيعة من الثلج والبرد، وتتفتَّح فيها الأزهار، وتُزهِر روحُنا عبر الصوم. وهكذا، الصوم الكبير ليس زمنًا حزينًا، بل بهجة، بالطبع هذا إذا صُمنا بشكل صحيح ومعتدل. يقول معلِّم الصوم الكبير القديس أفرام السرياني: "يدعو الشَّرِهُ الصومَ زمنًا للبكاء، ولكن المعتدل لا يبدو كئيبًا في الصوم". كم هي السعادة والمنفعة اللتان يمكننا الحصول عليهما عبر الاستماع لقانون القديس أندراوس الكريتي في الكنيسة والصلاة خلال الخدم المسائيَّة!

لقد حصلتُ على كُتَيِّب يحوي نص هذا القانون الكبير وتعليقات عليه، وقد ساعَدَني ذلك حقًا في فهم فكرة هذا العمل الرائع. أعتقد أنَّ هذه الكتيبات يمكن العثور عليها بسهولة في مكتبات الكنيسة. يمكنك أخذها معك إلى الخدمة. القانون الكبير هو مَخزن للحكمة الروحيَّة، وعبر قراءته بإمعان، يمكنك تكرار وتَذَكُّر الكتاب المقدس كُلِّه.

يُقرأ القانون الكبير في معظم الكنائس، عادةً عند الساعة السادسة مساءً، حتى يتمكَّن الناس من المجيء إلى الكنيسة بعد العمل. ولكن هناك حالات حيث لا نستطيع فيها المجيء إلى الكنيسة كل مساء. على سبيل المثال، قد لا يسمح برنامج العمل بذلك، أو رعاية الأطفال الصغار. في هذه الحالة، من المفيد جدًّا قراءة القانون في المنزل. عندما كان أولادي صغارًا، لم تستطع زوجتي دائمًا الذهاب إلى الكنيسة للاستماع إلى القانون، فكانت تقرأه مع الأولاد في المنزل.

ما هي الطريقة المناسبة لقضاء الصوم الكبير؟ لا تقتصر على الصوم الجسدي فقط. إن عدم أكل النقانق والهوت دوغ هو أمرٌ فارغ تمامًا، إن كنتَ تُقَيِّد نفسك بوسائل الراحة المُعتادة (التلفزيون والكمبيوتر والمجلّات والصحف وما شابه) في نفس الوقت. تتضَّح هذه الطريقة أنها منافقة – شكل خارجي من دون محتوى. ليس فقط الجسد، بل الروح يجب أن تصوم أيضًا. ليس لدي تلفزيون الآن، ولكن سابقًا، عندما كان لدي جهاز، توقفتُ عن مُشاهَدتِه أثناء الصوم وكنتُ مندهشًا تمامًا من مقدار الوقت الحر الذي كنتُ أمتلكه. مثلاً، أثناء الصوم الكبير، أتمكَّن عادةً من قراءة كتب أكثر من بقيّة العام، ومن القيام يالعديد من الأمور.

يجب أن نقترب من الأسبوع الأول بانتباه شديد، مثل شوكة التَّنغيم التي تعطي النغمة لكل الصوم الكبير. إن الأسبوع الأول، من خلال صَرامته، يساعدنا في الدخول بإيقاع الصوم ونصنع بدايةً صحيحةً.

نرجو من الله أن يجعل من هذا الصوم القادم مفيدًا لنا، ويساعدنا في النظر لأعماق أنفسنا، لنصبح أفضل، ونتغلَّب على خطايانا. فَلْنَصُم "صومًا مَرْضِيًّا!"

http://orthochristian.com/110822.html

 

[1]منطقة الصعيد في مصر حيث كانت مليئة بالنساك أشهرهم القديس بولس البسيط والقديس أنطونيوس الكبير. (المعرِّب)

[2]نعيش في الكنيسة حياة شركة وبالطبع لا يمكن لكل مؤمن أن يصوم على هواه بل عليه أن يلتزم بالصوم التي وضعته الكنيسة وبموعد الصلوات في رعيّته. (المعرِّب)

[3]بحسب التيبيكون نصوم بشكل كامل من الإثنين الى الأربعاء من الأسبوع الأول والذين يستطيعون فليبقوا صائمين إلى نهار الجمعة. (المعرِّب)