عظة في أحد مرفع اللّحم: المحبّةُ هي التي يطلبها الرّبُّ في يوم الدّينونة

أحد مرفع اللّحم: المحبّة، نعم، لكن أيّ نوع محبّة؟
المتقدّم في الكهنة الأب جورج ميتالّينوس

تعريب: روي صوايا

 

١. نتذّكر في قراءة إنجيل اليوم حقيقةً عظيمةً. في الأحد السّابق، كلّمَنا الإنجيلُ المقدّسُ عن صلاح الله الآب، الّذي ينتظر عودةَ الإنسان الذي خلقه. لكن هذا يجب ألّا يجعلَنا ننسى عدالته. اللّٰه ليس أب محبّ فحسب، لكنه قاضٍ عادل أيضًا.

يقول القدّيس باسيليوس الكبير: "ليست رحمتُه من دون قضاء، ولا قضاؤه من دون رحمة". تخبرنا الأناجيلُ أنّه سيَدِين العالمَ، ليس عشوائيًّا، لكن وفقًا لأعمالنا. بالتّالي، قراءةُ اليوم تَضَعُنا أمام حدث الدّينونة. ونقول "حدث" لأنّ هذه الدّينونةَ العامّةَ هي واقعٌ إسخاتولوجيٌّ مُؤَكَّد وحقيقةٌ لإيماننا المعترف به من خلال دستور الإيمان كجزء من إيماننا الكنسيّ: "وأيضًا يأتي ليدين الأحياء والأموات..."

إذًا نحن مدعوون اليوم لنفهم ثلاثةَ أمورٍ:

أوّلًا، أنّ القاضي سيكون يسوعُ المسيحُ، بما أنّه الله. المسيح هو المخلّص، لكنّه الدَّيّان أيضًا. إذا أتى في المرّة الأولى على الأرض بتواضعٍ "ليخلّصَ العالمَ"، لكنّه الآن سوف يأتي "بمجده" ليدينَ العالمَ. هو الّذي أصبح "لعنةً" من أجلنا على الصّليب، له كلُّ الحقِّ ليَديننا إن سمحنا له أن يسكنَ في داخلنا وفي مجتمعنا لكن بدون أن نعمل نحن بتضحيتُه.

ثانيًا، لن يَدِين المسيحيّين فحسب، ولا الوثنيين فحسب، كما اعتقد اليهودُ عن كيفيّةِ حصول الدّينونةِ. سيَدِين جميعَ الناسِ، المسيحيّين وغير المسيحيّين، المؤمنين وغير المؤمنين.

ثالثًا، قاعدةُ الدينونةِ، المعيارُ، ستكون المحبّةُ أي موقفنا تُجاه إخوتنا البشر. تمامًا كما ستكون الدّينونةُ شاملةً وكَوْنيّةً، هكذا إذًا سيكون المعيارُ أيضًا. هذا هو الناموس الكونيّ للبشريّة الّذي يمكن إيجاده في كلِّ مكانٍ، بين المسيحيّين وغير المسيحيّين، بين الّذين يعرفون المسيح والّذين لم يستطيعوا معرفتَه وكانوا بعيدين عن إنجيله. بهذا الناموس، لا مَجال لأيّ أعذار وتبريرات. لا يمكن أن يظلَّ الجوعُ والعطشُ والعريُ والمرضُ وصُراخ المساجين في الخِفية حتّى لا يتمكنَ أحدٌ ما من تبريرِ نفسِه بأنَّه لم يكن منتبهًا لمشاكل البَشَريّة هذه. لا أحدٌ يستطيع أن يتجاهل هذه المَشاكل بدون أن يكون أوّلاً فاقدًا لأي مَشاعر إنسانيّة، إلّا إذا كان فاقِدًا لصورة الله بشكل كامل في داخلِه.

٢. بهاء ساعة الدّينونة العظيم ومَهابته مصوَّرة بصورةٍ جميلةٍ في أناشيدِ اليوم:

إذا أتيتَ يا الله على الأرضِ بمجدٍ، فترتعدُ منكَ البرايا بأسرها، ونهرُ النارِ يجري أمامَ المِنبر، والكتبُ تفتحُ والأفكار تشَهَّر، فنجِّني من النار التي لا تطفأ، وأهِّلني للوقوف عن يمينِك، أيُّها الدَّيانُ العادِل.

هذه هي الأفكار المروّعة والبسيطة عن ساعة الدّينونة، لأنّها لا تذكّرنا فقط بعدم استعدادنا للمثول أمام عرش الدّينونة للمحاكمة المرهوبة. لكن أيضًا لأنّها تكشف مأساةَ حياتِنا حيث نمضيها في الأعمال التّافهة حيث لن نكون قادرين على تحمّل نورِ الأبديّةِ. لن نتبرّر أمام القاضي بحسب الأهمّية والإعتبار التي يعطينا إيّاها العالم، بمعرفتنا، المراكز، الألقاب، العَظَمة، الثروات والمجد. في الواقع، هذه الأشياء كلّها قد تؤدّي إلى إدانتنا.

سوف نُحاسَب على أساس عملنا التطبيقيّ للمحبّة. ليس كأفراد بل كأعضاء في المجتمع البشريّ. لم يخلقِ اللهُ أفرادًا ليكونوا منفردين ومستقلّين. خَلقَنا لنكونَ أشخاصًا ومجتمعَ مُكَوَّن من أشخاصٍ. إذا بقينا أفرادًا ببساطةٍ، فحتّى أعظم فضائلنا لن يكونَ لها مَردود في الدّينونة العظمى. هذا لأنّها لم تُطَبَّق في المجتمعِ البشريِّ، لم تكن بمرتبة أعمال خيريّة. وهكذا، المعرفة هي بَرَكة إلهيّة، لكن فقط عندما تُتَّبَع من أجل إخوتنا البشر، كوظيفة تجاه الآخرين. يمكن قولُ الشّيءِ نفسِه بالنّسبة للتقَشُّفِ والتّقوى والصّومِ وجميعِ أعمالِ النُّسك الأُخرى. إذا تمّ كلُّ هذا من أجل تبريرنا الشّخصيِّ وليس كعملٍ من أجلِ مصلحة الآخرين، فسيوبّخُنا صوتُ اللهِ على النّحو التّالي: "أريد رحمةً لا ذبيحةً" (مت٩: ١٣). أريد محبّةً لا تَدَيُّنًا مُزَيَّفًا يهدف إلى الإعتزاز والإعجاب بالذّات. تَدَيُّنٌ كهذا يتطلّع إلى الشكليّات كأنّها جوهر التَّقوى.

٣. لقد تعلّم العالَمُ بَيْعَ كلِّ شيء، حتّى ضميرنا. لكن هذا لا يَحِلُّ في مجال الإيمان. لا تستطيع التّقوى الفرديّةُ أن تضمنَ مكانةً في ملكوت الله ما لم تكن كنسيّةً أوّلاً، وما لم تكن مَصحوبةً بأعمال المحبّة. ميدانُ الإنسانِ المسيحيّ هو في المجتمعِ كما في "المستودع". يلجأ الإنسانُ المسيحيُّ إلى مستودعه للتّجديد الروحيّ. لكن يجب ألّا نستنفدَ حالتَنا الوجوديّة في مساحة ضيّقة من الفرديّة. إن كانت روحانيّتُنا صحيحة، سوف تقودُنا إلى محبةِ الآخر. فلنسمع ذلك للمرّة الأخيرة: حُجَجُ المسيحيّين العاطفيّين وعدمُ مسؤوليتِهم و"الحياة الكاذبة" لا قوّة لها. إن مَقولة "إهتم بنفسك" لا تعني إلّا الجُبنَ والتّراجعَ، إذا لم تكن مترافقةً مع العمل في الميدان. "جاهِد لتبنيَ مجتمعَك المسيحيَّ". خلاف ذلك يعني أنّنا موجودون نحن عن طريق الخطأ بين المسيحيّين الآخرين. يجب أن نكونَ بالأحرى في الشّرق الأقصى، في موت النّيرفانا.

٤. أشعر عند هذه النقطة أنّه عليّ أن أطرح سؤالاً: إذا كانت دينونتُنا على أساس محبّتنا الفعليّة، إذًا ماذا عن الإيمان؟ ما هي أهميًّة الإيمانِ ونقاوةُ الجهاد العقائديّ؟ لماذا لدينا إيّاها إن لم يكن لها أبعادٌ أبديّةٌ؟

لن يُستَثنى إيمانُنا في ساعة الدّينونة، كعبادة وكتعليم، كما يعتقد الكثيرون للوهلة الأولى. وجود إيماننا هو فَرَضِيّة، ديّانُنا هو المسيحُ، الّذي سوف يخلّصُنا ويَدينُنا بناءً على سلوكنا وموقفنا تُجاهه. يوضح المسيح هذا الأمرَ عندما يقول إنّ كلّ عمل، خيرًا كان أم شَرًّا، نقوم به تُجاه إخوتنا البشر هو مُوَجَّه لشخصه (متى 45،40:25). لا يوجد أعمال غير مُتَعَلِّقة بالأخلاق. إذا كان المسيح يُشَدِّد على المحبّة كمعيارٍ، هذا لا يعني أنّه يريد إبعادَ الإيمانِ. هو يريد بكلِّ بساطةٍ مَنعَنا من الإعتقادِ أن الإيمانِ هو مجموعةِ حقائقَ نظريّةٍ بدون تطبيقها المناسب في حياتِنا.

تمامًا كما الملحدُ وجاحِد الإيمان علانيّةً يترجمُ إلحادَه وعدمَ إيمانِه من خلالِ أعمال مُتَناسبة مع الإلحاد، كذلك يجب على المؤمنين الإعتراف بالإيمانِ ليصبحَ القوَّةَ الدّافعةَ في حياتِهم. إنّ "الإيمانُ بدونِ أعمال" (يع٢: ٢٠) المحبّة هو ميتٌ. لذلك لا يستثني المسيحُ الإيمانَ، لأنّ الإيمانَ يستلزمُ حياةً قَويمة وخلاصًا. وأكثر من ذلك، ليس فقط هؤلاء الّذين "لا يؤمنون" بالمسيحِ لن يخلصوا، لكن أيضًا أولئك الّذين لا يؤمنون بطريقة صحيحة. الله ليس محبةً فقط، بل هو الحقّ أيضًا (يو١٤: ٦، ١يو٤: ٨، ٥:٦)، وهو الحقّ عينه. كلّ من يرذلُ الحقيقةَ يرذلُ المحبّة أيضًا. محبّةُ المسيحِ "تفرحُ بالحقِّ" (١كور١٣: ٦) الّتي تتعايش معه وتُسَرُّ بالحقيقةِ، وليس لها وجود بِدونِه. قيمة الجهادَ في سبيل نقاوةِ العقيدةِ هي كالتّالي: إنّه جهادٌ للمحبّةِ، وهذه هي أعظم خدمةٍ كنسيّةٍ لنا. إنّه جهاد إجتماعيّ بالدّرجة الأولى، لأنّه يَتِمُّ من أجل شعب الله ليبقى غير متأثّر بالخطأ الذي قد يؤدي إلى انتحار حقيقيّ.

يا إخوتي،

عندما أخبرَنا المسيحُ عن مَثَل الدّينونة، يمكن لكلماته أن يفهمها ليس الذين عاصروه فحسب، بل الذين عاشوا قبله أيضًا . أولئك الّذين لم يعرفوا المسيحَ، قد يكون لديهم أسبابٌ ليُدانوا فقط بناءً على محبّتهم، بالرّغم من أنّ المحبّة من دون إيمان بالله لا يمكن أن توجد. أيّ شخص يعيش المحبّةَ "يقبل" اللهَ، حتّى ولو كان يجهله. لن يكونَ لغير المؤمن سوى محبّة ظاهريّة. فقط حيث يوجد "معمودية" و"الرّوح القدس" ممكن ل"المحبّة الكاملة" أن تكون، المحبّة المسيحيّة.

أظنّ أنّه عليّ أن أطرح السّؤالَ بطريقةٍ أخرى. عندما نسمع هذا المثلَ اليوم، بعد ألفَي سنة من تجسّد إبن الله، كيف يمكن لنا أن نَفصلَ محبّتَنا عن الإيمان المستقيم؟ يقولها الكتابُ بوضوحٍ: "الّذي يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُدَانُ، وَالّذي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ، لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِاسْمِ ابْنِ اللهِ الْوَحِيدِ." (يو٣: ١٨). إن الدّينونةَ، بعد تَجَسُّدِ الله وتَدبيره، هي نتيجةُ حالةِ كلِّ شخصٍ في علاقتِه مع المسيح. تبقى المحبّةُ هي المعيار. لكنّها محبّةٌ تستلزمُ الإيمانَ بالمسيح. لأنّ هذه هي المحبّة الحقيقيّة الوحيدة. هذه وحدها تُبَرِّر وتُخَلِّص.

https://www.johnsanidopoulos.com/2015/02/a-homily-for-meatfare-sunday-love-lord.html