القديس إغناطيوس برينتشانينوف
تعريب: ماهر سلّوم
في إنجيل اليوم، تُظهِر صلاة العَشّار أنها تجلب له رحمة الله. تتألّف هذه الصلاة من الكلمات التّالية: اللهمّ ارحمني أنا الخاطئ (لوقا 13:18). نُلاحِظ أن الله سمع صلاة قصيرة كهذه وأنها تُلِيَت في الهيكل خلال خِدَم العبادة حين تُقرَأ وتُرَتَّل المزامير مع صلوات أخرى. هذه الصلاة ممدوحة في الأناجيل؛ وهي تُقَدَّم كمثال للصلاة ويصبح من واجبنا المقدَّس أن نتأمّل بها بِتَقوى.
لماذا لم يَختَر العَشّار مزمورًا مَهيبًا ومُؤَثِّرًا كي يعبّر لله عَمّا في قلبه، لكنه لجأ إلى صلاة مُقتَضَبة كهذه؟ لماذا ردّد فقط هذه الصلاة خلال كامل الخدمة؟ الجواب هو بحسب الآباء القدّيسين[1]. عندما تبدأ التوبة الحقيقية بالظهور في النفس، عندما ينبعث التّواضع والنّدم في الرّوح بسبب انفتاح الأعين على حالة الخطيئة التي في النفس، عندها يصل اختلاج الأفكار في النفس إلى حد مستحيل ولا يُطاق. وإذ تركّز النفس على ذاتها وتحوّل انتباهها إلى حالتها المأساويّة، تُباشِر بمناجاة الله بشكل صلاة قصيرة ومُقتَضَبة.
عندما يمنح الله رؤية شاملة لحالة الخطيئة الحاصلة في الشخص، فلا يمكن وَصفُها بخطاب بَليغ وكلمات كثيرة؛ أكثر تحديدًا، يعبّر الشخص عن إحساسه بأنين وتَنَهُّدات في النفس، تُرافِقُها كلمات بسيطة وقصيرة. مَن يُريد أن يفتتح توبة عميقة في ذاته يستخدم صلاة قصيرة للوصول إلى تلك الحالة، وينطقها بكل ما أمكنه من تركيز وخشوع. بالتَّخَلّي عن الكلمات الفائضة، حتى ولو كانت كلمات مقدَّسة، يتسنّى للذّهن أن يتحرّر بشكل كامل من التَّشَتُّت وأن يُجاهِد بكل قوّته للعودة إلى ذاته. يقول القدّيس يوحنا السُّلَّمي: “لا تتبع الإكثار في الكلام، كيلا يتشتّت فكرُك في إيجاد الألفاظ. كلمة واحدة من العَشّار استغفرت الله، وعبارة واحدة صادقة خلّصت اللِّص (لوقا 42:23). فكثرة الكلام في الصلاة كثيرًا ما تجعل العقل يتخيّل ويتشتّت، أمّا ’المونولوجيا’ (أي ترديد عبارة واحدة مثل ’أيّها الرب يسوع المسيح ابن الله ارحمني’) فمن شأنها أن تجمع الذِّهن”[2].
بسبب المنفعة العظيمة التي تجلبها تلك الصلاة القصيرة اليَقِظة والمُرَكَّزة، توعِز الكنيسة المقدَّسة لأبنائها بأن يتعلّموا شكلًا من صلاة قصيرة. مَن يتعلّم صلاة كهذه يملك قدرة وجُهوزيّة للصلاة في أي مكان وأي وقت. بإمكانه أن يصرخ لله خلال السَّفَر، في غرفة الطَّعام، خلال الأعمال اليدويّة، أو في رِفقة الآخرين. إن كانت الصلاة بالشَّفَتين غير ممكنة فبالإمكان الصلاة في الذِّهن. الصلاة القصيرة هي مُناسبة ومُلائمة: فمن السَّهل خسارة معنى وتسلسل الصّلوات الطويلة إذا كنّا مشغولين بأمور أخرى، فيما الصلاة القصيرة تُحافظ على استقامتها دائمًا. إن توقّفت لوقت قصير فيمكن العودة إليها بجُهد ضئيل. حتى خلال الخِدَم الكنسيّة. من النّافِع تَرديد صلاة قصيرة في الذهن – فهي لا تجعلنا نتشتّت خلال الصلوات التي تُتلى أو تُرَتَّل في هيكل الله فحسب، لكنها تحديدًا تُسَهِّل الإنتباه لها، وتمنع تَشَتُّت الذِّهن. عندما لا يُضبَط الذِّهن في ذاته من خلال صلاة قصيرة تملأ النفس بشعور التوبة فيصبح من السَّهل أن يتشتَّت، يضيع انتباهه عن القراءات والتّراتيل في الكنيسة وينجذب للأفكار والتخيُّلات.
هذا ما حصل مع الفَرّيسي المَذكور اليوم، الذي أعار انتباهًا سطحيًّا للخِدَم وسقط في أفكار الخطيئة. لم تنزع أفكارُ الخطيئة قيمةَ صلاته الضعيفة فحسب، بل جَعَلَتْها عُذرًا لإدانة إنسان يُصلّي. لقد شجب الله صلاة الفرّيسي – خرج الفرّيسي من الهيكل مَختومًا بغضب الله، غير مُدرِكٍ أو مُبالٍ لمشكلة نفسه لأن قلبه الخالي من التوبة كان مملوءًا بالخِداع والإكتفاء الذّاتي. عندما تصبح الصلاة القصيرة عادة من خلال الممارسة المتواترة، فهي تصبح أمرًا طبيعيًّا.
عندما ننصت لما يشغل انتباهَنا، يمكننا النُّطق بالعديد من الأقوال العجيبة التي لا تضبط انتباهنا فحسب، بل تشدّده أيضًا. يحصل الأمر ذاته عندما نحظى بعادة الصلاة القصيرة؛ نعبّر من خلالها عن انسجامنا وانتباهنا للصلوات والمزامير التي تُتلى على مَسامِعنا.
خلال الصّوم الأربعيني، وفي جميع الخِدَم الكنسيّة، تُرّدَّد صلاة ’اللهمّ ارحمني أنا الخاطئ!’ على مَسمع جميع الحاضِرين. لماذا تُعاد الصلاة ذاتها مِرارًا وتكرارًا؟ كي نتعلّم أن نردّدها بتواتر. الصلاة القصيرة ’يا رب ارحم’ تُعاد تكرارًا للسبب ذاته.
عندما أشاد مخلّص العالم بصلاة العَشّار، عاد فسمح ومنح لنا أن نصلّي بواسطة إسمه الكُلّي قُدسه. تُعرَف هذه الصلاة ب’صلاة يسوع’ بسبب إسم الرب يسوع ولأنه هو الذي أسّسها. في العهد القديم، توجّه الإنسان في الصلاة إلى إله لم يكُن يعرفه بشكل كامل. عندما بدأ العهد الجديد، قُدِّمَت إلى الإنسان تَكمِلة شاملة للصلاة – وسيلة جديدة للصلاة إلى الإله-الإنسان كوسيط بين الله والبشر؛ طريقة جديدة للصلاة إلى الوَسيط الذي اتّحد به الله بالبشريّة؛ إلى الوَسيط الذي أعلنه الله (يوحنا 18:1)، الذي بيّن الألوهة للإنسان بأقصى دِقّة وكمال للفهم البشريّ.
صلاة العهد القديم ’اللهمّ ارحمني أنا الخاطئ’ تشبه صلاة العهد الجديد ’أيّها الرب يسوع المسيح ابن الله ارحمني أنا الخاطئ’. إستخدم خُدّام الله في العهد القديم الصلاة الأولى؛ أمّا خُدّام العهد الجديد، فيما استعملوا الصلاة الأولى، لكنّهم استعملوا الصلاة الثانية أكثر، لأنه سُرَّ بالإله-الإنسان أن يُقرِن قوة روحية عجائبيّة خاصة بإسمه البشري. تُستَخدَم أيضًا صلاة ’يا رب ارحم’ بلا انقطاع. هي صياغة مختصَرة لصلاة يسوع وتَنوب عنها في الأوقات التي يصعب فيها تلاوة صلاة يسوع كاملة؛ على سبيل المثال: حين ينتابُنا الخوف، في أوقات الفرح غير المُتَوَقَّع، في أوقات المرض الشديد أو خلال الرُّؤى الرّوحيّة. في الحالة الأخيرة، صرخة ’يا رب ارحم’ هي ردّة فعل الذِّهن للمعرفة المملوءة بالنعمة التي تنسكب عليه حين يتطهّر – معرفة تفوق إدراك الذّهن ولا يمكن التعبير عنها بالكلمات[3].
ما المعنى الذي تحويه الجُملَتين الفِعليَّتَيْن ’إرحمْ’ أو ’كُن رحيمًا’ في هذه الصلوات؟ إنه إدراك الإنسان بأنه يهلك؛ إنه الإحساس بالرحمة والشَّفَقة التى أمَرَنا الرب أن نشعر بها تجاه أنفسنا، لكن الذين يشعرون بها قليلون؛ إنه رفض رأينا بأنفسنا؛ إنه طلب لرحمة الله، بدونها لا رجاء لخلاص الهالِكين. ليست رحمة الله إلّا نعمة الروح القدس، وعلينا نحن الخطأة أن نطلبها من الله بِتَواتُر وبلا كَلَل.
إرحم يا رب حالتي البائسة التي سقطتُ فيها، وحُرِمتُ من نعمتك، واسبغ عليّ نعمتك مُجَدَّدًا.
شَدِّدني بروحك الرِّئاسيّ (مزمور 12:50)، روح نعمتك كي أستطيع الصُّمود أمام التجربة التي يواجهني بها الشيطان، والتجربة الآتية من طبيعتي السّاقِطة.
أرسِل إليّ روح عِفَّة كي أخرج من حالة الهذيان[4] هذه، وسَدِّد خطواتي الخُلُقيّة.
أعطِني روح مَخافتك كي أملك مَخافة مقدَّسة لك، كما يليق بمخلوق ضعيف أن يخاف إلهه خالقه العظيم، كي أحفظ قُدسيّة وصاياك بِمَهابة أمامك.
أغرسْ في قلبي حُبًّا لك كيلا أنفصل عنك أبدًا، ولا أغفل مُنجَذِبًا إلى الخطيئة البَغيضة.
هَبني سلامَك كي يحفظ نفسي في هدوء غير مُتَقَلقِل مانِعًا أفكاري من الزَّيغ في العالم بلا سبب من أجل ضرر نفسي؛ كي يجمع أفكاري في داخلي وينقلها إلى العُلى نحو عرشك.
أعطِني روح الوداعة، كي أنقطع عن الغضب والمكر، كي أبقى دومًا ممتلئًا بالصَّلاح تجاه أخي.
أعطِني روح تواضع الذِّهن كيلا أستكبر أو أحلم بذاتي أو أسعى لكسب المديح والمجد البشري؛ لكن بالأحرى، كي أتذكّر أنني أرض ورماد وكائن ساقط، مطروحٌ على الأرض لعدم استحقاقي، ويجب أن ينتشلني الموت من هذا الجسد فأظهر أمام دينونتك الرَّهيبة والعادِلة[5].
اللهمّ ارحمني أنا الخاطئ! ربّي يسوع المسيح، يا ابن الله، إرحمني! يا رب ارحم!
كثيرون يلفظون هذه الصلوات القصيرة بِعَجَلة كبيرة، ما يَهُمُّهم فقط هو قول العدد المطلوب منها. بهذه الطريقة في الصلاة، لا يسمحون للصلوات بالوُلوج إلى القلب وإنتاج مفعولها الجوهري، وهو الشعور بالهدوء. يُشير الآباء القديسون بِحَقٍّ أن الذي يصلّي هكذا فهو يصلّي للهواء وليس لله[6]. لماذا نضجر في الكنيسة؟ لأننا لا نشعر بمفعول الصلاة. لماذا نسرع إلى مائدة غنيّة بالطعام؟ لأننا نعرف ماهيّة الطّعام من خلال الخبرة. لماذا لا نسرع إلى الكنيسة بل نحاول أن نأتي مُتَأخِّرين بعد مُضِيّ قسم كبير من الخدم الإلهيّة؟ لأننا لا نعرف من خلال الخبرة ماهيّة الصلاة، التي هي غذاء للنفس والتي تمنحها قوة روحيّة. لا نعرف ماهيّة الصلاة من خلال الخبرة لأننا نصلّي بِعَجَلة وبلا انتباه وبشكل سطحيّ. تأثير الصلاة الطويلة العديمة الإنتباه على النفس كتأثير المطر الغزير على سطح مَعدِنيّ، تسيل عنه كل المياه، بِغَضّ النظر عن كمّية المطر الهاطلة، من دون أي تأثير عليه. بالمقابل، الصلاة اليَقِظة تشبه مطرًا نافعًا يُرَوّي حقلاً مزروعًا، يغذّي ما ينبت فيه مُهَيِّئًا لحصاد وفير.
إن تلامذة الصلاة الذين يَتَّئكون على صدرها – الآباء القديسون – يُصَحِّحون خطأً كبيرًا يحرم النّاسك المُصَلّي من جميع ثمار عمله النُّسكي. يعلّموننا أن نتلفّظ بكلمات الصلوات القصيرة وجميع أنواع الصلاة من دون عَجَلة، منتبهين بِتَمَعُّن شديد إلى كلمات الصلاة[7]. عندما تُقرأ الصلوات من دون تَسَرُّع، يمكن الوصول إلى انتباه كهذا بينما القراءة السريعة لا تترك مَجالاً للإنتباه. الصلاة بدون تركيز هي كجسدٍ خرجت منه النفس: خالية من عطر التواضع الزكيّ، لا تصعد نحو الله. تنتابُها أفكار التَّشَتُّت وتُميتُها، فَتَزحَفُ في أرض الفساد والروائح الكريهة، وتجلب هذا الفساد لمن يُصَلّون بِتَهاوُنٍ وبُرودَة. ينعكس التَّركيز الذِّهني في القلب من خلال تَفَجُّع مبارَك على الخطايا، أي التوبة بذاتها التي يوصينا بها الله. عندما يمتلئ القلب بإحساس التوبة، تقوم بِدَورِهِ بإجتذاب الذِّهن نحو تركيز أفضل. حالما يوجد التَّركيز والشعور بالهدوء، تدخل جميع مواهب الروح القدس في النفس وتجعلها هيكلاً لله.
فلتكن صلاتُنا مميّزة بِهاتين الصِّفَتَين: الإنتباه والتوبة. فلتُحَلِّق إلى السَّموات مُتَّخِذةً إيّاهما كجناحَين، لتظهر أمام وجه الله كي نحصل على رحمته. تتحلّى صلاة العَشّار بِهاتين الصِّفَتَين. إستحوذ عليه الإدراك بحالة خطيئته، ولم يكن له أي رجاء بأعماله لِنَيل الخلاص؛ لقد وضع رجاءه فقط برحمة الله، التي تدعو جميع الخطأة للتوبة وتمنحهم الخلاص لأجل التوبة وحدها. كخاطئٍ بلا صلاحٍ ذاتيّ، وقف العَشّار من بعيد في آخر مكان في الهيكل. كخاطئٍ غير مستحق للسماء، لم يشأ أن يرفع عينيه نحو السماء. كانت عَيناه مُوَجَّهتان صوب الأرض؛ وفيما كان يقرع صدره بالتوبة من عمق قلبه، لفظ بكل نفسه الصلاة الممزوجة بإعترافه: اللهمّ ارحمني أنا الخاطئ.
كانت صلاته فَعّالة وصلبة لدرجة أن الخاطئ غادر الهيكل مُبَرَّرًا. الرب فاحص القلوب، مخلّص البشر، قد شهد بذلك – وتَمّت كلمات النّبي بهذا الخاطئ التّائب (مزمور 16:101-18):
“لأن الرب سَيَبْني صهيون”، نفس الإنسان التي تهدّمت بسبب السقوط،
"ويظهر فيها بمجده. نظر إلى صلاة المُتَواضِعين ولم يرذل طِلبَتَهم. فليُكتَب هذا للجيل الآخر”، فليُكتَب هذا كي تعرفه كل البشريّة، فليُكتَب هذا كي تعرفه جميع القبائل والأجيال المسيحيّة القادمة!
“والشعب الذي يُخلَق” من خلال التوبة والصلاة اليَقِظة، إذ تيقّنوا بتجديدهم بواسطة النعمة الإلهيّة،
“يسبّح الرب” الذي سُرَّ أن يتجسّد ليخلّص البشر بِرأفته الجزيلة وتعاليمه العجيبة. آمين.
المصدر: http://orthochristian.com/44704.html
[1]القديس تيخون زادونسك، الجزء 14، الرسال 4.
[2] القديس يوحنا السلّمي، "السلّم إلى الله”، المقالة 28، رقم 9، تعريب الأب إسحق عطالله الآثوسي، 1998.
[3] الفيلوكاليا، القديس بطرس الدمشقي، الرّؤى الذّهنيّة السبعة 3:1.
[4] Умоисступления حالة إضطراب قُصوى أو إنفعال عصبيّ مع انعدام القدرة على ضبط النفس والتصرّف بطريقة صحّية وعقلانيّة (المُتَرجِم)
[5] مُقتَبَس من تفسير القديس باييسيوس فيليتشكوفسكي لصلاة ’يا رب ارحم’، كتابات الشّيخ باييسيوس، دير أوبتينا 1847.
[6] القديس نيل من سورا، مقدّمة كتاباته.
[7] "إلزم الصمت، كي تهدأ جميع الحَواس، ثم إبدأ، بدون عَجَل وبدون كَسَل، لكن بإحساس هادئ واتّضاع في القلب، بتلاوة "طوبى للرجل” (مزمور 1:1) وصَلِّ ما تبقّى بِسُكون وتَعَقُّل من دون تَسَرُّع، كي يستطيع الذّهن فهم ما يُقال.” من التعليمات قيل قراءة المزامير.