رَدٌّ أرثوذكسيٌّ على الأنبا بيشوي

إعداد مجموعة القديس غريغوريوس بالاماس

ليس من الغريب أن يتعرض آباء كنيستنا الأرثوذكسيَّة للإنتقادات والإتهامات بالهرطقة من قبل جماعات "مسيحيَّة" أخرى تدَّعي أنها هي الأرثوذكسيَّة الحقيقيَّة والمحافظة على تعليم الربِّ يسوع المسيح. آخر هذه الإتهامات صادرة من إحدى الجماعات اللاخلقيدونية، وهي الجماعة القبطية. يُتحفنا الأنبا بيشوي، مطران دمياط ورئيس قسم علم اللاهوت بمعهد الدراسات القبطية، بمواقفه المعادية لعقيدتَيْ تألُّه الإنسان وقوى الله غير المخلوقة. بالإضافة لآرائه المغلوطة، لا يستثني أي مناسبة أو مقابلة ليجدد هجومه على القديس غريغوريوس بالاماس بشكل خاص وعلى باقي الآباء القديسين أمثال القديس نيقوديموس الآثوسي والقديس مكسيموس المعترف والقديس يوحنا الدمشقي وغيرهم من الآباء بشكل عام. بالنسبة للأنبا بيشوي، كل من يقبل بتعاليم القديس غريغوريوس بالاماس هو أرثوذكسي متعصِّب ومتطرف، وكل من يرفضها هو أرثوذكسي معتدل. وبما أنَّ القديس غريغوريوس بالاماس عاش وتنسَّك في جبل آثوس، يشمل الأنبا بيشوي بهجومه رهبان الجبل المقدس معتبرًا إياهم السبب الرئيسي لانتشار هذا التعليم "الهرطوقي". لم يقتصر الأمر فقط بهذا، بل أيضًا بحسب قوله للأنبا بيشوي أنَّ هناك بعض الأساقفة الأرثوذكس يوافقونه بالرأي وأنهم، أي أنَّ هؤلاء الأساقفة الأرثوذكس، يعتبرون أنَّ عقيدتَيْ تألُّه الإنسان وقوى الله غير المخلوقة هي مجرد رأي عند بعض الأرثوذكس ضاربين عرْضَ الحائط مجامع القسطنطينية الثلاث في الأعوام 1341 – 1347 – 1351، التي وافقت على تعاليم القديس غريغوريوس بالاماس، الذي بدوره لخَّص كل تعاليم الآباء من القرن الأول، والتي تبنَّتها كل الكنائس الأرثوذكسيَّة.

لن ندخل في تفاصيل عقائدية قد تضيِّع القارئ بل سنعرض أهم أقوال القديسين أمثال أثناسيوس الكبير وباسيليوس الكبير وغريغوريوس النيصصي وغريغوريوس النزينزي وكيرلس الإسكندري، الذي بالنسبة للأنبا بيشوي يرفضون عقيدة التألُّه. يقول القديس أثناسيوس جملته الشهيرة التي لا يعطيها الأنبا بيشوي أي أهمية: "تجسَّد الإله، ليتألَّه الإنسان" (في التجسد، 54). يستعمل القديس أثناسيوس كلمة "التألُّه" أكثر من خمسين مرَّة في كتابَيْه "في التجسد" و"ضد الآريوسيين". يركِّز القديس في استعماله لهذه الكلمة على الإرتباط الوثيق بين الخلاص والتألُّه. بالطبع لا يقصد القديس أثناسيوس أنَّنا مدعوُّون أن نكون فقط على شبه الله بل أن نتَّحد به. هذا الإتِّحاد ليس اتحادًا أخلاقيًا وإلاَّ سنقع في النسطورية، بل إتحاد حقيقيًّا من خلال قوى الله غير المخلوقة. في شرحه للآية "شركاء الطبيعة الإلهية" (2بط1: 4)، يكتب القديس كيرلس الإسكندري "أننا متَّحدون بالآب من خلال الإبن كوسيط. الإبن متَّحد مع الآب بما أنَّه إلهٌ بالطبيعة ومن ناحية أخرى متَّحد مع البشر بما أنَّه إنسان". يستعمل القديس كيرلس في كتاباته فعل "المشاركة" والذي يحمل أيضًا معنى التألُّه. ويتابع القديس نفسه أنَّ هذا الإشتراك يحصل من خلال سري المعمودية والإفخارستيا. بالنسبة للقديس باسيليوس الكبير، يستعمل المصطلح "التألُّه" خاصةً في كتابه "ضد إفنوميوس": "هؤلاء المدعُوُّون أن يصبحوا آلهة، هم الكاملون في الفضيلة". بالطبع لا يقصد القديس هنا آلهة بالطبيعة بل بالنعمة. أما القديس غريغوريوس النزينزي فلا يستعمل كثيرًا عبارة "التألُّه" ولكن يكتب في عظة فصحية عن غاية الحياة المسيحية: "لنتشبَّه بالمسيح لانَّه تشبَّه بنا. لنصِر آلهة معه لأنَّه صار إنسانًا لأجلنا." (عظة فصحية لسنة 362). هذا بالإضافة إلى العديد من العظات الفصحية التي يدعو فيها القديس المؤمنين أن يصبحوا آلهة. أخيًرا، يعتقد البعض أنَّ القديس غريغوريوس النيصصي ليس لديه تعليم عن تألُّه الإنسان. هنا لا بد من الإشارة أن المصطلح "اختلاط" الذي يستعمله القديس يعني "تألُّه". طبعاً وهذا الإختلاط أو التألُّه لا يعني مشاركة في الجوهر الإلهي لكن فقط في القوى الإلهية (الأمر الذي لم يكن سهل الفهم آنذاك). تمحور اهتمام القديس غريغوريوس حول كيف يمكن للإنسان أن يشترك في القوى الإلهية وليس أنَّه تألَّه بحسب الطبيعة، فهذا مستحيل.

خلاصة تعليم الآباء الكبادوكيِّين: ألَّهَ المسيح الطبيعة البشرية التي اتَّخذها، وغاية التجسد هو إمكانية العودة إلى المثال الذي فقدناه. طبعًا التشبه بالله ليس بالبساطة أمرًا خارجيًّا. يشترط هذا الأمر المشاركة في الأسرار الكنسيَّة. نتشبَّه بالله بالفضيلة ونلبس المسيح في المعمودية. ونتَّحد به ونتألَّه من خلال الإفخارستيا. هذا لا يحصل من خلال الإتحاد بجوهر الله بل من خلال قواه الإلهية.

خلاصة عقيدة التألُّه: كلمة تألُّه غير مذكورة في الكتاب المقدس، بل هي كلمة آبائية. ولكن هناك كلمة مرادفة لها وهي "التمجيد". أن يتمجَّد إنسانٌ ما في الكنيسة يعني أن يشترك في مجد الله غير المخلوق، أي أن يتألَّه. إذًا، هدف الحياة المسيحيَّة هو التألُّه. أخذ المسيح طبيعتنا البشرية وضمَّها إلى أقنومه وهكذا سمح للإنسان أن يتَّحد به ويُصبح إلهًا بالنعمة، أن يشترك الإنسان بجسده وحواسه كلها في هذه الخبرة. يحصل هذا الإتِّحاد من خلال الإشتراك بالقوى الإلهية وليس بالجوهر. لذلك نشدد في الكنيسة الأرثوذكسيَّة أنَّ المسيح أخذ طبيعة بشرية كاملة لكي يشفيَها. من خلال هذا التعريف، ندرك أهميَّة خبرة التألُّه المرتبطة بخلاص الإنسان وليست هرطقة كما تعتبرها بعض الجماعات "المسيحية". أخذ القديس غريغوريوس بالاماس كل تعاليم الآباء الذين سبقوه ووضعها في قالبٍ جديد وواجه بها إدعاءات الهراطقة. إنَّ تعليم هذا القديس هو استمرار لتقليد الكنيسة منذ نشأتها.

بعد عرضنا لأقوال القديسين عن التألُّه، نسأل الأنبا بيشوي وأتباعه عن جدوى تحريف أقوال الآباء القديسين. يستعمل الأنبا بيشوي آيات من الكتاب المقدس لتدعيم نظريته ولكن نعلم أنَّه خارج الكنيسة الأرثوذكسيَّة كل تفسير كتابي هو مشكوك بأمره إذ لا يعود يُفسَّر بحسب تقليد الكنيسة الواحدة الجامعة الرسولية. على سبيل المثال لا الحصر، يشرح الأنبا بيشوي الآية التالية: "فقال الرب لموسى إنظر أنا جعلتك إلهًا لفرعون" (خر7: 1)، بأنَّ الله جعل موسى سيدًا على فرعون ولا علاقة له بعقيدة التألَّه. يجيبه القديس غريغوريوس النيصصي: "من ارتقى إلى إدراك هذه الأسرار يصبح في الحقيقة إلهًا بالنسبة إلى البشر الذين يقاومون الحقيقة، تستويهم أوهام الدنيا المادية الفارغة..." (حياة موسى). الإنسان الذي وصل إلى مرحلة "الإدراك" (أو الإستنارة) يصبح إلهًا بطريقة مشابهة، كما أصبح موسى إلهًا لفرعون. وأمَّا بالنسبة لآية يوحنا 10: 34، يجيب يسوع الشعب بشكل مباشر أنَّهم آلهة. بشرحه لهذه الآية، يتسائل القديس أثناسيوس الكبير، أنَّ يسوع المسيح قبل أن يصبح إنسانًا دعا الشعوب قديمًا أبناء وآلهة. فكيف يُدعى (يسوع المسيح) إبنًا وإلهًا؟ يجيب القديس أثناسيوس أنَّه ليس هناك تبنِّي من غير الإبن الحقيقي وليس هناك تأليه بمعزل عن الكلمة. لم ينل المسيح الألوهة كمكافآة على فضيلته بل هو إله بالطبيعة والجوهر أمَّا البشر فنالوا التبنِّي وصاروا متألِّهين بالكلمة، وإذا كان الإبن نفسه هو الكلمة، فبيِّنٌ أنَّ الجميع صاروا به (مناظرات ضد الآريوسيين 1. 11. 39).

في النهاية، نتوجَّه بسؤال إلى الأرثوذكس وخاصةً الأساقفة الذين هم في حوار مع الجماعات اللاخلقيدونية. هل هم مقتنعون بكلام الأنبا بيشوي أنَّه يجب أن نلغي عقيدة التألُّه لكي نكون معتدلين. هل هذا التعليم هو عقيدة أم رأي في الكنيسة. إن كانوا يوافقون على أنَّه مجرد رأي، إذًا أرثوذكسيَّتهم موضع "شك". هل سنذهب إلى المزيد من التنازلات كما حصل في مطلع التسعينات عندما وافقت الكنائس الأرثوذكسيَّة على عدم التكلُّم بالطبيعتين في المسيح بالإتفاقات الموقعة بين الكنيسة الأرثوذكسيَّة والجماعات اللاخلقيدونيَّة. ما جدوى اللقاءات المرتقبة في الأشهر القادمة طالما هم مصرُّون على اعتبار آبائنا هراطقة. لننتظر ونرى...