الأرثوذكسيَّة والترويج للمسكونيَّة

إعداد مجموعة القديس غريغوريوس بالاماس

ما زال العديد من معلِّميّ أنطاكية الجدد، يدَّعون المعرفة ويعلِّمونَّها، لا استنادًا إلى خبرة الكنيسة التي يشهد لها كلّ آبائها القدِّيسين، إنَّما استنادًا إلى مبادئ الحركة المسكونيَّة التي ترى في كلِّ دين وفي كلِّ بدعة خلاصًا وخبرات روحيَّة تقود إلى معاينة الله. والهدف واضح، الترويج لمسكونيَّة تحطِّم خصوصيَّة الإيمان الأرثوذكسي وخبرة الحياة الروحيَّة الأرثوذكسيَّة. هؤلاء المعلِّمون الجدد، لا بل كلّ المبتدعين الجدد، مصرِّون على اتِّهام المتمسِّكين بالحفاظ على نقاوة إيمانهم الأرثوذكسيّ بشتَّى الاتِّهامات الباطلة، والتي هدفها الإساءة إلى شخصهم وإلى تعليمهم. من هذه الإساءات اتِّهامهم بإدانة الآخرين، وأنَّهم ضدَّ المحبَّة التي أوصانا بها الرب يسوع المسيح، وأنَّهم يقولون إنَّهم وحدهم يخلصون.

تعليم كنيستنا واضح. لا ندين غير الأرثوذكسيِّين بأنَّهم ذاهبون إلى الهلاك ولا خلاصَ لهم. لا نأخذ دور الله ونحكم من سيَخْلُص من الناس. ننظر في الأرثوذكسيَّةِ، إلى العقائد الغريبة ونقول: ليست هذه الطريقة القويمة لعبادة الله. وذلك لأنَّ الكتاب المقدَّس نفسه يُعلِّمنا أنَّ العقائد المنحرفة والتعاليم الكاذبة تقود إلى الهلاك (2بط1:2)، (1يو1:4). على الأرثوذكسي الحقيقيّ أن يعتبر نفسه دائمًا خاطئًا (1تيمو 1: 15)، لكن، في الوقت ذاته، أن يعتبر أنَّ الإيمان الذي ينتمي إليه هو الصحيح والكامل. لقد جاهد آباؤنا القدِّيسون حتَّى بذلوا دماءهم حفاظًا على خبرة الكنيسة الروحيَّة، وكانوا يقظين أمام محاولات البعض في تغيير عقائد الإيمان وإدخال روحانيَّات كاذبة فلسفيَّة إلى الإيمان الأرثوذكسي.

الوتر الثاني الذي يُحاول أصحاب العمل المسكونيّ الدوران حوله هو أعمال المحبَّة والخدمة، العمل الاجتماعيّ وخدمة الفقراء، ويدَّعون أنَّها كافية للخلاص وللكمال ولمعاينة الله. يذكر بعضهم الأمّ تريزا كمثال لمثل هذه الأعمال. الكنيسة الكاثوليكيَّة هي رائدة في أعمال الخدمة الاجتماعيَّة ومؤسَّساتها التي تطال كلّ المجالات الحسنة التنظيم والمنتشرة في كل مكان، لكنَّها أيضًا كانت السبَّاقة في انحرافاتها الإيمانيَّة والتي بنتيجتها حصل انحراف كبير في روحانيِّتها. لا تقود هذه الأعمال إطلاقًا إلى تطهير القلب ومعاينة الله، إنَّما هي ثمرة تطهير القلب والإيمان الحيّ بالمسيح يسوع، حينها فقط تُصبح أعمالنا مقبولة من الله. إن لم يرافق أعمالَنا نسكٌ لأجل مقاومة أهواء المجد الباطل والعُجب والمنفعة، تصبح أعمالاً تُقدَّم للشيطان لا لله. نقاوة القلب والمحبَّة هما ثمرة اللاهوى، واللاهوى يُقتنى حتمًا بأعمال النسك حسب الخبرة الأرثوذكسيَّة. يعني اللاهوى اقتلاع جذور الخطيئة من أعماق القلب، والمحبَّة الحقيقيَّة تعني أن تسكنَ النعمة الإلهيَّة مكانها.

وَضْعُ الإيمان جانبًا والتركيز على المسائل الإجتماعيَّة وإعطائها "نكهة" مسيحيَّة يقود إلى تمييع الإيمان واعتبار الحقيقة الأرثوذكسيَّة مسألة ثانويَّة يمكن الإستغناء عنها. يشرح،على سبيل المثال، الإشتراكيُّون والليبراليُّون واليساريُّون المسيحيُّون إنجيل أحد الدينونة وكأنَّه درسٌ أخلاقيٌّ واجتماعيٌّ محاولين بتلك الطريقة تطبيق مفهوم العدالة الإجتماعيَّة على الإنجيل بدلاً من تطبيق روحانيَّة الكتاب المقدَّس على الوضع الإجتماعي. يقولون إنَّ الله سيحاسبنا على أعمالنا بغضِّ النظر عن ما هو إيماننا. هكذا يسقطون في نهج الحركة المسكونيَّة التوفيقيّ بين الأديان. يتعاطون مع هذا المقطع الإنجيلي كأنَّه لا ينتمي للكتاب المقدَّس بل كاتبه كارل ماركس أو تشي جيفارا أو أحد الثوريين الإجتماعيين. أعمال الرحمة هذه لا تنفصل عن الإيمان الحيّ بالله، لأنَّ الإيمان يكتمل بالمحبَّة.

الأرثوذكسي المتغرِّب عن تقليد كنيسته الروحيّ سيتأثَّر حتمًا بكل الخبرات الآتية من الخارج، حتَّى من خبرات البدع والهرطقات، لأنَّه سيفقد نعمة التمييز بين ما هو من الله وما هو من إبليس، بين ما هو روحيّ وما هو نفسانيّ. لقد شوَّه الفكر المسكونيّ كلّ الخبرة الروحيَّة الأرثوذكسيَّة؛ وبسبب الإختلاط الكنسي مع غير الأرثوذكس، تحوَّلت الروحانيَّة، التي هدفها رصد الأهواء وغلبتها، إلى تقوى عاطفيَّة تغذِّيها الأحاسيس البشريَّة، الأمر الذي أدَّى إلى إفساد نقاوة الصلاة الأرثوذكسيَّة. هذا سبب مباشر يدعونا لكي نوقف هذه اللقاءات المدمِّرة مع غير الأرثوذكس (خاصةً في أسبوع الصلاة من أجل وحدة المسيحيين)، كما هو حجَّة قويّة لكهنتنا لكي ينبِّهوا الشعب على خطر مشاركتهم في الصلوات غير الأرثوذكسيَّة.

خبرة الصلاة الأرثوذكسيَّة هي أساس الخبرة الهدوئيَّة وهي تُمارس من الرهبان والعلمانيّين. ليس من الغريب ألاَّ يفهم المسكونيّ ما المقصود بالهدوئيَّة، فيعتبر من تلقاء نفسه ومن دون العودة إلى تقليد الكنيسة أنَّ الهدوئيَّة هي حكرًا على الرهبان. هذا بالطبع غير صحيح. كلّ أرثوذكسيّ مطالبٌ باتِّخاذ الهدوئيَّة مسلكًا لحياته. "الهدوئيَّة هي محاولة الشخص كي يطهِّر قلبه من الأهواء، ويحرِّر نوسه من طغيان العقل والأهواء والعالم المحيط، ويحوِّله نحو الله. الهدوئيَّة هي "السكن في الله’" (الميتروبوليت إيروثاوس فلاخوس). تشهد كتابات القديس نيقولاوس كاباسيلاس (1322 – 1392) -الذي مع كونه علمانيًّا- على الروح الهدوئيَّة التي كانت تغمر نفسه، لهذا يُعدُّ أبرز خليفة للقديس غريغوريوس بالاماس في دفاعه عن الحياة الهدوئيَّة الأرثوذكسيَّة.

من أكثر الآيات المحبَّبة على قلب المسكونيين هي الآية الواردة في إنجيل يوحنا "الروح يهبّ حيث يشاء" (يو3: 8). "بالطبع الروح يهب حيث يشاء، ويمكن أن يهبَّ، قبل المعمودية، في الذين يؤمنون، لكن هذا الهبوب للروح إنَّما هو لكي يقود هذا الذي آمن إلى الكنيسة وإلى الشركة الحقيقية في حياتها الإلهيَّة. حيث هناك، ما اختبره المؤمن من هبوب الروح عليه تدبيريًا يصير خبرة ثابتة" (من كتاب "سرّ الكهنوت"). لدينا نموذج واضح لهذه الآية في الكتاب المقدَّس وهو القديس كورنيليوس قائد المئة الوارد في أعمال الرسل (أع10: 1-48). يُعتَبر القديس كورنيليوس من النماذج الحيَّة الأولى لهذه الآية الإنجيليَّة "الروح يهبُّ حيث يشاء" (يو3: 8). اختبر هبوب الروح عليه تدبيريًا لكي يصير خبرة ثابتة.فالروح يهبُّ خارج المسيحيَّة ولكن لكي يهدي الإنسان إلى المسيحيَّة وإلى معرفة الحقّ، وإلاَّ يكون عمل الروح القدس "باطلاً".

إن "اعترف" المسكونيُّون الأرثوذكسيُّون، ظاهريًّا، بأنَّ الكنيسة الأرثوذكسيَّة هي الكنيسة المقدَّسة الجامعة الرسوليَّة، فإنَّ تصرفاتهم وأقوالهم تفضحهم. فالأرثوذكسيَّة بنظر المسكونيين ليست الكنيسة بل فرعٌ من الكنيسة. آمن جميع آبائنا القدِّيسين، القدماء والمعاصرين، بأنَّ الأرثوذكسيَّة هي الكنيسة. يقول الأب جورج فلورفسكي: "الكنيسة الأرثوذكسيَّة هي الوحيدة التي هي نفسها في عقائد إيمانها وفي حياتها، متماهية مع كنيسة كلّ العصور. لهذا الأرثوذكسيَّة ليست كنيسة، إنها الكنيسة". لا تستطيع الأرثوذكسيَّة إلاّ أن تصطدم مع الفكر الذي تروِّج له الحركة المسكونيَّة، القائل ليس هناك طريق واحد إلى الخلاص. شعار "العصر الجديد" القائل: "آمن بما تريد، فقط لا تزعم أنك تملك حَصْرًا الحقيقة وطريق الخلاص".

الحوار المسكونيّ كما يُنجَز اليوم، ليس لقاءً للوصول إلى الحقّ، بل بالأحرى "إعتراف مُتبادَل". هذا يعني أنَّنا نعترف بالجماعات غير الأرثوذكسيَّة ككنائس؛ أنَّنا نسلِّم بأنَّ إختلافاتهم العقائديَّة تشكِّل "مصطلحات شرعيَّة" للإيمان ذاته. بِعَمَلِنا هذا نسقط في فخِّ التَّوفيق بين العقائد: نضع على نفس المستوى الحقيقة والضلال، نساوي بين النور والظلام. يختلف الحوار المسكونيّ في الوقت الحاضر تمامًا عن الحوارات السابقة التي قام بها القدِّيسون لأنَّها تقود إلى أساس مبادئ الكنيسة المُوَسَّعة وتبسيط العقيدة. لهذا، هذه الحوارات عَقيمة وغير قَويمة. ما يُثبِت ذلك هو أنَّه خلال مئة سنة من الحوار، لم يُقَدِّم المُحاوِرون شيئًا قيِّمًا من أجل "وحدة العالم المسيحي". لكن العكس، لقد نجحوا بقيام انشقاقات في العالم الأرثوذكسي. لسنا بحاجة في الأرثوذكسيَّة أن نتوحَّد مع الآخرين لكي نصل إلى كنيسة واحدة إلى "ملء قامة المسيح" (أف4: 13). مضمون هذه الآية هو وحدة الإيمان داخل الجماعة. فالمسيحي لا يسير كفرد وحيد إلى الكمال بل كعضو في الجسد الواحد. وحدة أعضاء جسد المسيح ترتكز على وحدة الإيمان ومعرفة ابن الله. يقول القديس نيقوديموس الآثوسي: "إلى متى علينا أن نعمل أن نتعب. وأن نبني المسيحيين، إلى أن نصل إلى وحدة الإيمان في العقيدة وفي الحياة والأعمال. عندئذٍ سوف نتعرَّف حقيقةً على ابن الله عندما تكون عقائدنا قويمة ومحبتنا كاملة على مثال محبة المسيح".

ندعو أخيرًا القارئ إلى التمييز بين الكلام الأرثوذكسي والكلام المسكوني الذي وإن بدا في بعض الأماكن كلامًا حلوًا إلاَّ أنه يحمل سمًّا قاتلاً يُبعد المؤمن عن الخلاص. البحث عن الحقِّ يحتاج إلى فضيلة التواضع، لهذا قال القديس يوحنا السلمي، "لا يمكن أن يسكن التواضع في غير المستقيمي الرأي".