المسكونية (الجزء الثّاني)

منشورات دير البراكليت – اليونان

 

ترجمة نديم سلّوم

صفحة القديس غريغوريوس بالاماس

 

 

 

حوارات الماضي

من أجل التَّرويج لِخُطَطِها وأفكارِها، تلجأ المسكونيَّة إلى عدَّة أساليب أهَمُّها الحوار.

لا أحد ينكر أنَّ الكنيسة الأرثوذكسيَّة بطبيعتها مُنْفَتِحة على الحوار. الله في حوار دائم مع الإنسان، وقِدِّيسو الكنيسة لم يرفضوا أبدًا التَّواصل مع العالم.

يحاول القدِّيسون، الذين هم في شركة دائمة مع الله، من خلال الحوار نَقْل خبرة الحقيقة التي يعيشونها. بالنَّسبة للقدِّيسين، الحقيقة ليست موضعًا للبحث. لا يطلبونها ولا يفاوضون عليها، هم فقط يَعْرُضونها. إذا كان الحوار لا يقود غير الأرثوذكس الى رَفْض مُعْتَقَداتِهم الخاطئة وقبول الإيمان الأرثوذكسي، كان القدِّيسون يتوَقَّفون عن الحوار معهم.

بقيَ القديس مرقس الأفسسيّ في حوار مع البابويِّين في مجمع فرارا-فلورنسا لمدة سنتين (1438-1439). عندما رأى القديس غَطْرَسَتَهم وعِنادَهم وإصرارَهم على البقاء في الخطأ، قطع كلّ علاقة معهم وحَثَّ المؤمنين الأرثوذكس إلى "تَفادي البابويِّين كَتَفاديهم للأفعى".

لقد أُطلق حوار لاهوتيّ بين البطريرك المسكوني إرمياء الثاني واللاهوتيِّين البروتستانت من تيبيغن (Tibingen) سنة 1579. وعندما تأكد أنَّ الحوار غير مُثمر، قام بوضع حدٍّ له. كتب البطريرك: "إذًا، من جهتكم، أرجو أن تعفونا من هذه الاهتمامات. وعليه، أمْضُوا في سُبُلِكم؛ لا تكتبوا لنا مُجَدَّدًا عن العقائد، وإذا كتبتم فقط من باب الصَّداقة."

 

حوارات المسكونيَّة

يختلف الحوار المسكونيّ في الوقت الحاضر تمامًا عن الحوارات السَّابقة التي قام بها القدِّيسون لأنَّها تقود إلى أساس مبادئ الكنيسة المُوَسَّعة وتبسيط العقيدة. لذلك فهي عَقيمة وغير قَويمة. ما يُثبِت ذلك هو أنَّه خلال مئة سنة من الحوار، لم يُقَدِّم المُحاوِرون شيئًا قيِّمًا من أجل "وحدة العالم المسيحي". بالعكس، لقد نجحوا في القيام بإنشقاقات في العالم الأرثوذكسي.

 

الجوانب الرئيسيَّة لهذه الحوارات المعاصرة هي:

1-ضُعف الإعتراف الإيمانيّ بالأرثوذكسيَّة: في الحوارات، لا يعبِّر بعض المُمَثِّلون الأرثوذكس عن الإيمان الراسخ للكنيسة الأرثوذكسيَّة التي هي بالحقيقة كنيسة المسيح الوحيدة على الأرض. كذلك لا يُثيرون لهم التَّقليد المُقَدَّس والخبرة الروحيَّة الأرثوذكسيَّة المختلفة عن تقاليد الغرب المسيحيّ وخبراته. فقط مثل هذا الموقف الإعترافي سيكون قادرًا أن يجعل الوجود الأرثوذكسيّ في الحوارات مُثمرًا ومُنْتِجًا.

 

2-الضُّعف في الأمانة: ضُعف الشَّهادة عند الأرثوذكس بالتَّزامن مع نفاق غير الأرثوذكس، يجعل الحوار المسيحيّ أكثر صعوبةً وعاجِزًا. كما في مَرَّات عديدة، تُستعمل إمَّا التَّسويات السَّطحيَّة وإمَّا اللغة والعبارات الملتبِسة للتَّغطيَة على الخلافات.

لو كان الكاثوليك صادقين في بادئ الأمر لأعلنوا بكلّ صراحة في الأوساط المسكونيَّة أنَّ ما يؤكِّدونه لِمُؤمنيهم هو ارتباطهم غير القابل للتَّفاوض بأولويَّة البابا وعصمته. هذا بالطبع سيكشف بوضوح رؤيتهم حول وحدة المسيحيِّين: ليس وحدة في الإيمان بل إخضاع الكلّ لسيادة البابا. بالإضافة إلى هذا، ستؤكِّد النتيجة من جهة أنَّ المؤسَّسة البابويَّة تُشَكِّل أسوأ تشويهٍ للإنجيل ومن جهة أخرى أنَّها تستخدم الحوار لصالح سياستها التوَسُّعِيَّة.

نجد التَّعبير الرئيسيّ لنفاق البابويِّين بإصرارهم ودَعمِهم للأونيا[1](الإتّحاديُّون، الروم الكاثوليك). هذه مؤسسة غادِرة ومدمِّرة اعتادت البابويَّة استخدامَها وما زالت تستخدمها كنموذج للوحدة، بالرغم من كل إعتراضات الأرثوذكس الشديدة وبالرغم من أنَّ الأونيا اليوم تشكِّل العَقَبة الرئيسيَّة للمحادثات الثنائيَّة.

من جهة أخرى، لو كانت الجماعات البروتستانتيَّة المتنوِّعة صادقة، فَعَلَيْها أن تعلن صراحةً أنَّها لم تَعُد راغبة بالتَّنازل عن المبادئ البروتستانتيَّة الرئيسيَّة وأنَّه في الواقع هناك أسباب أخرى تدفعها إلى الحوار. على كل حال، هذا ما يكشفه التَّدَهْوُر الحاصل في "كنائسهم" (كهنوت المرأة، زواج المثليِّين...).

 

3-التَّشديد المفرط على المحبَّة: بما أنَّ التَّضليل ودوافع المصلحة الشَّخصيَّة قد سَمَّما الحوارات، التي قد تمَّ اختزالها إلى نقاشات لاهوتيَّة لا تنتهي ولا جدوى منها، جَرَتْ محاولة لتحويل الأحداث. أصبحت الحوارات الآن تُسمَّى "حوارات المحبَّة"، تَجَنُّبًا لمعضلة الخلافات العقائديَّة. يصرِّح المسكونيُّون ما يلي: "المحبَّة تأتي أوَّلاً"، "المحبَّة تجبرنا على الوحدة بالرغم من الخلافات العقائديَّة".

لهذا السبب، أصبحت اليوم طُرُقُهم في الحوارات هي عدم مناقشة الأمور التي تُقسِّم ولكن فقط الأمور التي تَجمَع من أجل تسهيل المعنى الزائف للوحدة والإيمان المشترك. في المجامع المسكونيَّة التي حصلت في الماضي، كان الآباء دائمًا يناقشون الأمور التي تُفَرِّق. وهذا أيضًا ما يحصل اليوم في أيّ حوار يحصل بين فريقين على اختلاف: يناقشان المسائل التي تفرِّقهما – لأنَّه هذا بالفعل هو هدف الحوار – وليس المسائل التي تَجمَع.

بالنسبة لنا نحن الأرثوذكس، المحبَّة والحقّ مفهومان لا ينفصلان عن بعضهما البعض. حوار عن المحبَّة من دون حقيقة هو خاطئ وغير طبيعيّ. بينما، حوار عن المحبَّة "في الحقّ" يعني: المحاورة مع غير الأرثوذكس للإشارة الى أخطائهم وكيفيَّة إرشادهم الى الحقّ. إذا كنتُ حقًّا أحبُّهم يجب أن أخبرهم الحقّ بالرغم من كَوْنِه صعبًا أو مؤلمًا.

 

4-تهميش المعيار الأرثوذكسيّ: في هذه الحوارات المَريضة هناك نوع من "إماتة" للمعيار اللاهوتيّ الأرثوذكسيّ وقد نشأ هذا بسبب ثقافة "المجُامِلة المسكونيّة"، والعلاقات الشَّخصيَّة والصَّداقات بين غير الأرثوذكس واللاهوتيِّين. لم يَعُد يُعتبر الإيمان الحقيقة التي تُخلِّص بل هو مجموعة من الحقائق اللاهوتيَّة ممكن المساوَمة عليها.

يدَّعي المسكونيُّون الأرثوذكس ما يلي: "نحن فقط نتباحث، لن نغيَّر إيماننا!". بالطبع، الحوار كـ"نهج محبَّة" تجاه الآخر هو مُرضِيٌّ لله. بينما، الحوار المسكونيّ كما يُنجَز اليوم، ليس لقاءً عن الحقّ، بل بالأحرى "إعتراف مُتبادَل". هذا يعني أنّنا نعترف بالجماعات غير الأرثوذكسيَّة ككنائس؛ أنَّنا نسلِّم بأنَّ إختلافاتهم العقائديَّة تشكِّل "مصطلحات شرعيَّة" للإيمان ذاته. بِعَمَلِنا هذا نسقط في فخِّ التَّوفيق بين العقائد: نضع على نفس المستوى الحقيقة والضلال، نساوي بين النور والظلام.

 

5-الصلاة المشتَرَكة: من خلال التَّصدِّي للمعيار الأرثوذكسي، أصبح من الطبيعي جدًّا أن يشترك المسكونيُّون الأرثوذكس من دون تَرَدُّد في العبادة مع غير الأرثوذكس وفي الصلوات المشتركة التي تحصل في اللقاءات المسيحيَّة. يعلمون أنَّه من خلال عملهم المشترك الروحيّ المسكونيّ هذا يخلقون بيئةً نفسيَّة ًضروريَّةً لِتَسْويق جهاداتِهم للوحدة.

تمنعنا القوانين الكنسيَّة المقدَّسة بشدَّة من الصلاة مع غير الأرثوذكس الذين لا يشتركون معنا في الإيمان الأرثوذكسيّ. يؤمنون بمسيح مختلف ومُشَوَّه. يدعوهم القديس يوحنّا الدمشقيّ بالملحدين: "كلّ من لا يؤمن بحسب تقليد الكنيسة الجامعة يكون جاحدًا".

إذًا، الصلاة مع غير الأرثوذكس هي مُحَرَّمة لأنَّك تؤكِّد وتشارك في إيمانهم، وتعطيهم الانطباع الخاطئ أنَّهم ليسوا في ضلال لذلك ليسوا في حاجة للعودة إلى الحقّ.

 

6-المناولة المشتركة: إذا كانت القوانين المقدَّسة تمنع الصلاة مع غير الأرثوذكس، فهي أيضًا تمنع بشدَّة أكبر مُشاركتَنا في "أسرارهم". حتى في هذه النقطة هناك تَبايُن بيننا نحن الأرثوذكس.

في المجمع الفاتيكاني الثاني وضمن إطار "إنفتاحاتِه المسكونيَّة" إقتُرِحَت المناولة المشتركة مع الأرثوذكس حيث يستطيع البابويُّون المناولة في الكنائس الأرثوذكسيَّة والعكس صحيح. بهذه الطريقة يؤمن البابويُّون والمسكونيُّون الأرثوذكس أنَّ الوحدة بين البابويَّة والأرثوذكسيَّة ستحصل بالرغم من كلِّ الخلافات العقائديَّة.

إذا كان هذا الموقف بالنسبة للبابويِّين يبرِّر مفهومَهم للكنيسة وللأسرار (النعمة المخلوقة...)، فنحن الأرثوذكس نعتبره غير منطقيّ ومرفوض. إنَّ كنيستنا لا تنظر أبدًا إلى سرِّ الشكر كتحقيق للوحدة بل دائمًا تنظر إليه كَخَتْم وعهد.

أكثر من هذا، تتطلَّب الكأس المشترَكة إيمانًا مشتركًا. بكلام آخر، إذا تناول المسيحيّ الأرثوذكسيّ في كنيسة بابويَّة فهذا يعني أنَّه يقبل الإيمان البابويّ.

 

التّعاون في الشؤون العمليَّة

يوجد وسائل أخرى من أجل تحقيق أهداف المسكونيَّة هي التَّعاون المسيحيّ في الشؤون العمليَّة. يؤكِّد المسكونيُّون أنَّ المشاكل المعاصرة المختلفة (الاجتماعيَّة والأخلاقيَّة والبيئيَّة...) تُجبرنا على الوحدة.

أظهرت الكنيسة دائمًا إحساسَها الكبير تجاه المشاكل البشريَّة، إلاَّ أنَّ العملَ مع الهراطقة لإيجاد حلول لهذه المشاكل له عدَّة مساوئ:

1- عندما يختلط الصوت الأرثوذكسيّ مع أصوات "مسيحيَّة أخرى" يفقد نقاءه ولن يعود قادرًا على التَّواصل مع أسلوب حياة الإنسان المعاصر. محور الحياة في الأرثوذكسيَّة الله – الإنسان (theanthropocentric). أمَّا عند غير الأرثوذكس فمِحور الحياة هو الإنسان فقط (anthropocentric).

2- تخضع الكنيسة إلى الإغراءات الدنيويَّة وتستخدم في أعمالها الاجتماعيَّة الخيريَّة الممارسات العالميَّة نفسها التي تستخدمها الطوائف الأخرى. ما يحتاجه الإنسان المعاصر ليس تحسين حياته مرتكِزًا على مسيحيَّة دنيويَّة، حتَّى لو كان هذا يقضي على الجِراح الاجتماعيَّة، بل على التّحرُّر من الخطيئة والتألُّه عبر الإتحاد الحقيقيّ بجسد المسيح، أي بالكنيسة الأرثوذكسيَّة.

3- يتولَّد انطباع خاطئ لدى المؤمنين الأرثوذكس، عندما يرَون رُعاتهم يشتركون مع غير الأرثوذكس، أنَّ غير الأرثوذكس ينتمون أيضًا إلى كنيسة المسيح بالرغم من اختلافاتهم العقائديَّة.

 

الزيارات المتبادَلة

منذ سنوات، أصبحت السِّياسة المسكونيَّة للطوائف المختلفة أن يَتَبادَلوا الزيارات الرسميَّة، على أن تحصل بين شخصيَّات إكليريكيَّة رفيعة المستوى. تتضمَّن هذه الزيارات خِطابات مديحيَّة وقُبُلات وتبادل للهدايا ومأدبات طعام وصلوات وإعلانات مشتركة ومبادرات صداقة أخرى.

منذ العام 1969، أصبحت القاعدة هي مشاركة الطرفين الأرثوذكسيّ والكاثوليكيّ في المناسبات الرسميَّة التي تحصل في كلٍّ من روما والقسطنطينيَّة. للأسف، لا يمكن وصف هذه الاجتماعات كإجراءات شكليَّة بسيطة أو مبادرات إحتفاليَّة. يعترف المسكونيُّون أنفسهم أنَّهم يختبرون نوعًا من الوحدة الكنسيَّة في هذه الإحتفالات المشتركة والإعترافات المتبادلة.

مع ذلك، عندما يرى شعبُنا المؤمن هذه المشاهد في وسائل الإعلام يتفاجأ بامتعاض. إنَّه أمرٌ مُرْبِكٌ ومروِّعٌ وصاعقٌ ومحيِّرٌ ويُعطي الشَّك والتَّساؤل عندما يسمع رعاته تارةً يتكلَّمون بلغة أرثوذكسيَّة وآبائيَّة وتارةً يشاهدونهم يتقرَّبون من غير الأرثوذكس بأسلوب اللباقة الدبلوماسيَّة.

 

http://www.thevoiceoforthodoxy.com/ecumenism/

 

 

[1]الأونيا هي مُخَطَّط ديني – سياسي أوجدتها البابوية لِغَرْبَنَة مسيحيي الشرق. استغلَّت الظروف التاريخيَّة الصعبة التي واجهت المسيحيِين وأجبرتهم للخضوع للسلطة البابويَّة. مع ذلك، شجَّعتهم في عدم تغيير ممارساتهم الكنسيَّة (اللباس الإكليريكي، الخدم الليتورجيَّة...)، حتَّى يتمكَّنوا من إحداث تشويش وتعزيز الدعاية البابويَّة.