رسالة القديس غريغوريوس بالاماس في الزمن الذي نعيش فيه

 

(المتقدّم في الكهنة جورج ميتالّينوس (أيار 2010 

ترجمة ماهر سلوم

 

الهدوئية[1] هي جوهر التقليد الأرثوذكسي، لقد حَدَّدَتْ ما تَعْنِيه عبارة الأرثوذكسية بِكُلّ ما تَشْمُل وتُظْهِر. الأرثوذكسية غير موجودة ولا يمكن فَهْمُها خارج التقليد الهدوئي. علاوة عن ذلك، إن مُمارسة الهدوئية هي المعيار من أجل التسليم بالمسيحيّة الصَّحيحة. بِمُمارسة الهدوئيّة من خلال الصوم والسهر والصلاة، تُكتَسَب العطايا الإلهية بحسب التقليد الآبائي الأرثوذكسي.  يجب أن نوضح منذ البداية أن الهدوئية تعني بشكل خاص السبيل للتأليه (الإتحاد بالله) واختبار التأليه. ومن ناحية ثانويّة، تعني الهدوئية دِراسة وصِياغة هذا السبيل وهذه الخبرة، وهذا هو المعنى الأكاديمي لكلمة "لاهوت”.

 

الهدوئية هي قاعدة وأساس القرارات اللاهوتيّة والعقائديّة للمجامع المسكونية، كَوْنُها الطريق بالروح القدس إلى التطهير والإستنارة والتأليه، وليس أنها عَمَليّة فكرية-تأمّلية-عِلميّة. لذلك، معرفة الله من خلال التأليه هي مَعْنِيّة بالجميع، المُتَعَلِّمين والأُمّيّين، للحكماء والبسطاء، ليس فقط للفلاسفة كما أصرّ برلعام الكالابري الإتّحادي (1290-1359) في القرن الرابع عشر. لقد دَحَضَهُ القديس غريغوريوس بالاماس (1296-1359)[2] بشكل خاص، إذ هو مِثال رفيع وبطل في التقليد الهدوئي، وهو أعظم لاهوتي في زمنه وأب عظيم للكنيسة الأرثوذكسية.

 

لقد درس القديس غريغوريوس اللاهوت في مدرسة اللاهوت الحقيقيّة، في الأرثوذكسية، بحسب 1 كورنثوس 12-14 (الإصحاحات التي تُؤَسِّس الكنيسة على المواهب الروحية)، تحديداً من خلال النُّسك والتوبة. صار بالاماس لاهوتيّاً في الدير حيث عاش مع جماعة من الرهبان. لم يَكُن مرجع لاهوته سكولاستيكيّاً ولا أكاديميّاً، رغم أنه حاز معرفة بِأعلى درجة في زمنه، لكن حياته بالروح القدس هي التي جَعَلَتْه لاهوتيّاً. لذلك أصبح خليفةً للأنبياء والرسل والآباء ولاهوتيّاً أصيلاً في تقليده. لقد أُعلِن قدّيساً في الكنيسة الأرثوذكسية عام 1368 بحسب المعيار الكَنَسيّ، أي بحسب عجائبه التي أثبتت أنه هيكل للروح القدس (1 كور 19:6)، وليس بسبب كتاباته الباهرة كما تَظُنّ روح العِلمانيّة[3].

 

لقد تَمّت مُؤَخَّراً أبحاث ومنشورات من قِبَل لاهوتيّينا الأكاديميّين المعروفين: بانايوتيس خريستو، الأب يوحنا رومانيدس، الأب جورج فلوروفسكي، الأب يوحنا مايندورف، الأب القديس يوستينوس بوبوفيتش، الأب ديميتري ستانيلوي، جورج مانتزاريدس، صاحب السيادة الميتروبوليت ايروثيوس فلاخوس، إلخ. هؤلاء جَعَلوا القديس غريغوريوس بالاماس مَعْروفاً على نطاق واسع في القرن العشرين.

 

آباء الكنيسة بمواجهة الهرطقات:

ظهر القديس غريغوريوس بالاماس بنعمة الله أنه اللاهوتي الهدوئي المُتَفَوِّق، الذي حدّد في أوقات عَصيبة تعاليم الآباء القديسين ضد هرطقات الغرب المسيحي واستبدِاده وانسِلاخِه. لقد أعطى القديس فوتيوس الكبير (820-891) أول الإشارات المُهِمّة عن هذه الأخطاء في مجال اللاهوت (عبارة “والإبن”) والإكليزيولوجيا (التسلسل القانوني). لكنها تحدّدت بشكل أوضح وأعمق بفضل القديس غريغوريوس بالاماس. أنشأ فوتيوس وبالاماس طريقة التعاطي والموقف ضد المسيحية الغربية، فصار تقليد الأرثوذكسية الذي تَبِعَه القديس مرقس الأفسسي في أوقات عَصيبة أيضاً. أي انحراف عن هذا الموقف هو غير وارد، طالما اللاتين باقون في أخطائهم وغير مُندَرِجين في الإيمان الأرثوذكسي وقُوَّته الخَلاصيّة.

 

 أكمل القديس غريغوريوس بالاماس هذا الشَّوط الروحي الذي ابتدأ مع القديس فوتيوس الكبير عندما عالج أخطاء الغرب. أدرك فوتيوس الكبير تَبَاعُد المسيحية الغربية التدريجي كما يظهر في عمله اللاهوتي "أسراريّة الروح القدس”[4] الذي يشكّل منذ ذلك الوقت المرجع الأساسي لِفَهْم عبء هرطقة عبارة "والإبن”. لقد ظهر كأب للمجمع المسكوني الثامن (القسطنطينية 879-880)[5] الذي حَكَمَ على عبارة "والإبن” وعلى إضافتها إلى دستور الإيمان المقدّس. أدرك بالاماس مع تعاظُم التحدّيات الغربية في ذلك الوقت، حتى بعد مأساة عام 1204[6]، أن مسيحيّةً من نوع آخر قد نشأت في الغرب، غريبة بشكل كامل عن روح التقليد الآبائي. بَزَغَ بالاماس كأب للمجمع المسكوني التاسع، أي المجامع الهدوئية سنة 1341، 1347 و1351، خاصةً في آخر مجمع بينها[7]، حين أُعلِنَت النعمة الإلهية غير المخلوقة التي حَدَّدت إيمان كنيستنا مقابل تعليم النعمة المخلوقة (gratia creata) السكولاستيكي الهرطوقي الذي رَكَّبَه توما الأكويني. لذا، فالحُجّة القائلة أنه لا يوجد أي مجمع مسكوني يَدين هرطقات اللاتين هي خاطئة. من المُتَوَقَّع أن المجمع الأرثوذكسي الكبير الذي يَتِمّ التحضير له أن يعلن المجمعَيْن الثامن والتاسع، اللذَين حصلا مع القديسَيْن فوتيوس وبالاماس، أنهما مَجْمَعَيْن مسكونيّين كي نعتبر هذا المجمع الكبير مسكونيّاً. إن لم يحصل هذا الإعلان فسيكون هذا المجمع الكبير، للأسف، مجمعاً زائفاً مثل مجمع أفسس (449) ومجمع فيرارا-فلورنسا (1438-1439).

 

الجهاد من أجل الحفاظ على تعليم التمييز بين الجوهر والقوى الإلهية:

لكن ما هو الموضوع المهم الذي قَدَّمَهُ القديس غريغوريوس بالاماس في مجال اللاهوت؟ يمكن تلخيص مُساهمتَه في اللاهوت، التي هي مهمّة خاصةً اليوم بسبب الحوارات المسكونيّة، بالنقاط التالية:

 

أوّلاً، لقد جاهد ليحافظ على التعليم القائل بالتمييز بين الجوهر والقوى الإلهية والنعمة الإلهية غير المخلوقة (قوى الإله المثلّث الأقانيم)، وذلك في إطار اللاهوت الآبائي (مثلاً، القديس باسيليوس الكبير). بحسب هذا التعليم، يملك الله جوهراً وقوة. الذي يُوَلِّد القوة هو الأقنوم والقوة هي الحركة الجوهرية للطبيعة الإلهية. يصف بالاماس هذا التمييز أنه "مُماثِلٌ لله وسِرّي”، أنه شرط بديهيّ لِتأليه البشريّة. إن لم تَكُن النعمة التي تنبعث من الله للعالم (الخليقة) غير مخلوقة، فليس هناك من إمكانيّة لتأليهنا (خلاصنا) وتقديس الخليقة. عندما نقبل النعمة غير المخلوقة، تَدوم خبرة وجود الله في التاريخ. إن الإشتراك بالنعمة الإلهية يَتَفَوَّق على الإرتقاء العَقْلاني في ما يَخُصّ الله للاهوت السكولاستيكي، الذي يصرّ على تعليم "العمل البَحْت" (actus purus)، أي تحديد الجوهر بالقوة. دعوني الآن أعطي مثلاً هدوئيّاً. ينظر اللاهوت الغربي لله كأنه قرص الشمس المُضيء في السماء لكن شعاعه لا يصل إلى الأرض ليعطي الدفء ويُحيي العالم. في هذه الحال، لا يوجد أهمّية عَمَليّة للشمس إن كانت موجودة أو غير موجودة. الحالة معكوسة عند إله الأرثوذكسية (وسائر قدّيسينا)، هو الشمس ذات الشعاع الذي يصل إلى الأرض ويُعطيها الحياة. لأجل ذلك يَهْرَع الناس من كل ما هو "تحت الأرض” من خطيئة وسفاهة للإرتقاء (أي التوبة) نحو سطح الأرض كي يتمكّنوا من اقتبال قوة شمس البِرّ الخَلاصيّة، أي الله، ويَخْلُصوا به.

 

عبارة "والإبن”:

جميع هرطقات وأخطاء المسيحية الغربية مُشْتَقَّة من التعليم الغربي السكولاستيكي القائل بتوحيد الجوهر والقوى في الله. مثلاً، تعني عبارة "والإبن” التي هي تجديف على الثالوث المقدس: أن الله يرسل (بلا بداية ولا نهاية) جوهره للإبن، يرسل (إفتراضيّاً) له أيضاً إنبثاق الروح القدس. هكذا تزول الخصائص الأقنوميّة وغير المُتبادَلة للأقانيم المقدّسة: عدم ولادة الآب، ولادة الإبن وانبثاق الروح القدس. هنا يمكن أن نسأل: هل كل هذه الأمور هي ربما أسئلة فلسفية بِلا أهمّية خَلاصيّة؟ لكن القديس يوحنا الدمشقي (680-754) يقول: “لقد كشف لنا معرفة ذاته لأنها مُمكِنة لنا.” ما نعرفه عن الله هو ما تمّ الكشف عليه لنا. لذا، إذا تَعاطَيْنا مع الإله المثلّث الأقانيم بإنحياز في أفكارنا، عندها نقع في الوثنيّة، لأننا بذلك نُنشِئ إلهاً غير موجود.

 

هناك أخطاء أخرى مهمّة: الإنتقاص من أهمّية العالم المادّي، فهو غير مُتَقَدِّس بالنعمة غير المخلوقة؛ عُزوبيّة الإكليريكيّين القَسْرِيّة؛ الإنتقاص من أهمّية المياه، الذي يتجلّى في الغرب بالرش أو السكب عند إتمام سر المعمودية؛ نَظَرِيّة التجسّد الإلهي أنها كَفّارة عن البشر عِوَضاً عن تأليههم؛ أو أن تضحية صليب يسوع هي إرضاء للعدالة الإلهية[8]؛ علاوة عن ذلك، هناك نظريّة البابا أنه "خليفة المسيح على الأرض” (Vicarius Christi in terra) الذي يَسُدّ الفراغ بين الله والعالم. إن إستقامة رأي قدّيسينا لم تَكُن أبداً بحاجة إلى إنسان بشريّ كَوَسيط، "لِأَنَّهُ يُوجَدُ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ ٱللهِ وَٱلنَّاسِ: ٱلْإِنْسَانُ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ” (1 تيم 5:2)، فهو معنا "كُلَّ ٱلْأَيَّامِ إِلَى ٱنْقِضَاءِ ٱلدَّهْرِ” (متى 20:28)، وهو "ٱلْمَسِيحُ مُخَلِّصُ ٱلْعَالَمِ” (يوحنا 42:4). القديسون لَيْسوا "وُسَطاءنا” أمام الله كالمسيح، لكنّهم يتشفّعون للمسيح من أجلنا.

 

علاوة عن ذلك، فالإيمان بإشتراك العالم مع الله من خلال نعمة مخلوقة، لا يُؤَدّي إلى هرطقات كالتي ذكرناها أعلاه فحسب، بل يؤدّي أيضاً إلى العَلْمَنة. فبحسب هذا التعليم، الأسرار الكنسيّة ليست موجودة فِعْليّاً. الإفخارستيا المقدّسة ليست حقيقية ولا خَلاصيّة لأنها لا تُوَحِّد الشعب بالإله غير المخلوق، بل بنعمته المخلوقة غير الأزليّة، إذ لها بداية ونهاية. نتيجة هذه الإشارة الوثنيّة لله، كما ذَكَرْنا، هي الحُقوقيّة الغربيّة والنظام الإقطاعي الكنسيّ الذي هو التعبير الأساسي للبابويّة (بعد سنة 754). نشأت المؤسسة البابوية (الأوّليّة، العِصمة، حيازة البابا على سلطة سياسية) على قاعدة الإقطاعيّة. يملك البابا مُطْلَق القوة (plenituto potestatis) ولَدَيْهِ سلطتان: روحية وعلمانيّة[9].

 

العلاقة الوجودية بين الله والعالم في الأرثوذكسية:

إن تعليم النعمة الإلهيّة المخلوقة، كما في المذاهب الفلسفية الإسْمانِيّة، له نتائج مؤسِفة على المسيحيّة في الغرب، لأنّه يُؤَدّي (منذ القرن السادس عشر) إلى الرُّبوبيّة: أي أن الله خالق لكن ليس حاكم (Deismus: Deus creator, sed non gubernator)، وهذا ما أدّى إلى "لاهوت موت الله” (في منتصف القرن العشرين). إن وجود الله أو عدم وجوده ليس له أهمّية عَمَليّة وخَلاصيّة، فلا تأثير لوجوده على حياة البشر في العالم. إن هاجس الغرب المسيحي بالمشاكل الأخلاقية والإجتماعية هو ثمرة هذه النَظْرة لله. يَتِمّ استبدال الجهاد من أجل التأليه بالسعي من أجل تَنْمِيَة أخلاق البشريّة. لكن الخلاص يَتِمّ من خلال القوى الإلهية (النعمة) غير المخلوقة التي تُحَوِّل الطبيعة البشرية، ما يعني إستنارة البشر بالنور الثالوثي غير المخلوق، كما يَشِعّ الفولاذ بواسطة النار المادّيّة ويصبح كالنار. الطريق إلى التأليه يشكّل أساساً في الأرثوذكسية (غلا 22:5).

 

إن التعليم الأرثوذكسي عن النعمة غير المخلوقة هو مَبْعَث للتفاؤل. يَعْلَم المؤمن الأرثوذكسي أن الله يتواصل مع العالم من خلال الحياة التي يَسْتَمِدُّها منه. إن العلاقة بين الله والعالم في الأرثوذكسية هي علاقة وُجوديّة، مُباشرة وفَعّالة، ليست علاقة مُتَرَدِّدة وأخلاقيّة. يتحوّل العالم في الأرثوذكسية إلى "خليقة جديدة" (2 كور 47:5) وإلى ما يَتَرَتّب من هذه العبارة. علاوة عن ذلك، الشركة بين الله والعالم هي حَدَث كنسيّ يتميّز بالإشتراك بأسرار الكنيسة.

 

القديسون المتوشّحون بالله هم ذوو سلطة في الكنيسة:

يعود القديس غريغوريوس بالاماس ويؤكّد جوهر وميزة اللاهوت الأرثوذكسي. ليس اللاهوت والتكلّم باللاهوت ثمر عمل تَقَويّ أو فِكريّ مع الله، لكنّه شهادة تغيير يحصل من خلال الروح القدس للذين "يُعانون مع الله”. إن التكلّم بالله يشترط معرفة الله بحسب القديس غريغوريوس اللاهوتي، وهذا ما أوْرَدَه من بعده القديس غريغوريوس بالاماس[10]. الله معلوم من خلال مُنتَهى الثاوريّا (رؤيا الله) والإتحاد بالله. اللاهوتي هو الذي في شركة مع الله، هو قدّيس. قبل اختبار التأليه (الإتحاد بالله)، يتكلّم اللاهوتي الأرثوذكسي بحسب خُبُرات القدّيسين المُمَجَّدين وليس على أساس بعض الأبحاث الفكريّة-الماورائيّة الشخصيّة. اللاهوتي هو نبيّ بالمعنى الحَرفيّ، بحسب خبرة الثاوريّا، في العَهدَيْن القديم والجديد هو "فم لله في العالم”، "يَتَكَلَّمُ أَمَامَ ٱللهِ فِي ٱلْمَسِيحِ” (2 كور 17:2).

 

لقد أصبح النبيّ في العهد القديم راءٍ، أي الذي يرى الله في قِواه أو نوره غير المخلوق. عندما تمّ الفَصل، حتى في الشرق، بين اللاهوت الأكاديمي والخبرة، تشوّهت المسيحيّة، وهذا ما أدّى إلى العَلْمَنَة وفلسفة الإيمان. لقد تمّ هذا أيضاً في زمن القديس غريغوريوس بالاماس مع برلعام وتلميذه أكيندينوس بالإضافة إلى السكولاستيكيّين البيزنطيّين. إن هذا "الأسْر البابليّ” للاهوت الأرثوذكسي، الذي وَصَفَه الأب جورج فلوروفسكي بوضوح[11]، قد تمّ تَجاوُزه في القرن العشرين بإعادة الصِّلة بين اللاهوت الأكاديمي والنسك والحياة الروحيّة المقدّسة بقيادة الآباء بوبوفيتش وستانيلوي ورومانيدس.

 

لقد ثَبَّت القديس غريغوريوس بالاماس ما توصّل إليه القديس إيريناوس (القرن الثاني)، أن سلطة الكنيسة ليست نُصوصاً، بل المتوشّحين بالله، القديسين[12]. علاوة عن ذلك، يندرج اللاهوت، خاصةً التعاليم العقائديّة، في مجال العمل الكنسي الرعائي. هذه هي طبيعة أعمال الآباء القديسين. ليس اللاهوت عملاً يُنْجَز في مكتب أو في قاعة دراسة. يتماشى إثبات الحقيقة والدفاع ضد الهرطقة مع شفاء القلب من أهوائه ومع التعزية وتأليه الروح. ليس الجهاد الآبائي ضد الهرطقة حرباً عالميّة، لكنّه العلاج الرعائي لأعضاء الجسد المريضة، للهراطقة والواقعين في الخطأ والخِداع. إن الجهاد ضد الهرطقة هو عمل محبة وإحسان، من خلال الشفاء من مرض الهرطقة، فلا يمكن للهرطقة أن تخلّص البشر والعالم. لهذا السبب، دَحْضُ الهرطقات بوسائل رعائيّة هو عمل إحسان وصَدَقة. هكذا تصرّف الآباء كالقديس فوتيوس الكبير والقديس غريغوريوس بالاماس والقديس مرقس الأفسسي، الذين يمكننا أن نُسَمّيهم بكل اعتزاز "المُنْعِمين على أوروبا” وعلى المسيحيّة فيها.[13]

 

الحكمة الإلهيّة المٌنحَدِرة من العُلى تؤتي الخلاص:

لقد جدّد القديس غريغوريوس بالاماس النهج الآبائي في التعليم. لقد كان أيضاً، على غرار القديس غريغوريوس اللاهوتي، من المُهْتَمّين بأرسطو ولم يرفض استخدام الحكمة الدهريّة لأهداف تعليميّة بَحْتة. لكنّه كأب روحي، جَعَلها خاضعة لكمال وغنى الأرثوذكسية في مسائل الخلاص. الفلسفة التي رَفَضَ هي الفلسفة التي ادّعت أنها تملك "الْإِيمَانِ ٱلْمُسَلَّمِ مَرَّةً لِلْقِدِّيسِينَ” (يهوذا 3)، أي إعلان المسيح. يرفض في ثلاثيّته للدفاع عن القديسين الهدوئيّين (1.1.12)[14] الحُجّة التي قَدَّمَها برلعام عن مفعول الحكمة الدهريّة الخَلاصيّ، ويُمَيِّز (يعقوب 13:3) بين نوعين من المعرفة: الإلهيّة والبشريّة. الحكمة الإلهيّة (المُنْحَدِرة من العُلى) تُخَلِّص، بينما الحكمة الأرضيّة تُعَلِّم وتُنير العقل ببساطة، وهذا في حال لم تؤدّي إلى شِيْطَنَة الإنسان.

 

القديس غريغوريوس بالاماس هو أيضاً مثال للاهوتي الذي يجاهد من أن أجل الإيمان الخَلاصيّ والذي يحاور الهراطقة وغير الأرثوذكس. إن عَظَمَته وقيمته تَكْمُنان في الواقع أنه لا يقبل بأيّة تسوية في موضوع التقليد الكنسيّ. يعتبر التقليد الأساس الذي لا يتزعزع ونقطة الإنطلاق في مُجابَهة الهرطقة. بمحافظته على كامل التقليد الكنسي والآبائي، يذكّرنا أن التقليد الهدوئي هو العامل الأثْمن في اللاهوت المُعاصر شرقاً وغرباً، من أجل إعادة إكتشاف تأثيره في مَوْجة التحدّيات المُعاصِرة. أظهر القديس غريغوريوس بالاماس في حِواراته أن هذه هي الهيكليّة حيث يبدأ الحوار اللاهوتي. هدفها الوحيد هو الخلاص من خلال التأليه، بِغَضّ النظر عن الشؤون الدُّنْيَوِيّة. يجب أن يهدف الحوار إلى التوبة كي يكون فَعّالاً وخَلاصيّاً. يسلّط القديس غريغوريوس الضوء أيضاً على الأخطاء المنهجيّة في الحوار اللاهوتي في وقتِنا هذا. يقول الأستاذ جورج غاليتس: “إن كان هذا التمييز (بين الجوهر والقوى) هو أساس النقاش، إن قَبِل مُحاوِرونا بهذا التمييز، سوف تُزال الكثير من العواقب وسوف يكون السبيل إلى التوافق سهلاً جداً”[15]. بهذه الطريقة تَتّضح الأخطاء، كالأوّليّة البابويّة، بعكس الذين يحاولون في أيّامنا هذه الإعتراف بها كتعليم كنسيّ.

 

أنَّبَ بالاماس حُكّاماً وغَيارى:

القديس غريغوريوس هو أيضاً مقياس لموقف ومسؤولية الإرثوذكسية في العالم الحديث بِرُمَّتِه، حتى في الواقع الإجتماعي. ليست الهدوئية رُكوداً سياسيّاً (ترد هنا كلمة “سياسة” بمعناها الإرسطويّ الذي أدخله القديس يوحنا الدمشقي إلى المسيحية). هذا يؤكّد تَدَخُّل القديس غريغوريوس بالاماس في الأحداث التي جَرَت في أيّامه. انتقد بالاماس مكائد البطريرك يوحنا كاليكاس الذي تآمر للإنقلاب على الأمبراطور يوحنا كانتاكوزينوس (1295-1383). وانتهرَ أيضا غَيارى تسالونيكي بسبب أعمالهم الجُرميّة كما أنه أنَّبَ الذين اتّخذوا مواقف غير إنسانيّة وحَرَّضوا على العنف. إن تَدَخُّل رُعاة الكنيسة والأساقفة هو ضروري في مجتمع يُسَمّي ذاته مسيحيّاً. أصبح لاهوت القديس غريغوريوس ملح الأرض ونور العالم. كان لحواره مع العالم طابِعاً بِشاريّاً. لم يُسائل أبداً في حَصْرِيّة وفَرادة الخلاص بالمسيح (أعمال 12:4) بحسب خبرة تقليد الآباء القديسين.

 

لم يجعل الإيمان نِسْبيّاً بروح المُساوَمة من أجل تحقيق مصالح شخصيّة في تعامله مع برلعام ومُحيطه، ولا في تَصَدّيه للإسلام رغم الأخطار التي واجهها. يدعونا القديس غريغوريوس جميعاً اليوم إلى سبيل التأليه بالنعمة، حتى إذا رفض العالم هذا النداء وأصرّوا على العيش في أهوائهم وتأليه ذاتهم بأنفسهم.

 

لقد عَظَّم وكَرَّم القديس غريغوريوس بالاماس جبل آثوس المقدس وهذا ما أثبت أن الحضارة الآثوسيّة تبقى أرثوذكسية طالما هي أمينة لتقليد القديس غريغوريوس، ومُحافِظة على إيمانه ولاهوته وجهاده الذي كان ثمرة حُبِّه للمسيح. إنه باعث للأمل بشكل خاص. إن ذلك اللاهوت الغربي الذي احتقر القديس غريغوريوس بالاماس سابقاً ونَعَتَه بالهرطوقي، قد تبدّل موقفه تجاهه بشكل إيجابي. ربما يأتي وقت يقود فيه لاهوتُه الحوارَ المسيحي-المسيحي في مساره الصحيح.

 

http://www.johnsanidopoulos.com/2016/03/the-message-of-teachings-of-saint.html?m=1


[1] مراجع مهمّة عن الهدوئية:

  1. مقال الأب يوحنا مايندورف في: Religious and Moral Encyclopedia, Vol. 6 (Athens 1965) pp. 83-87، مع الحاشية المُرفَقة.
  2. مجموعة الفيلوكاليا.
  3. مجموعة الآبائيات اليونانية (PG).
  4. Fr. John Romanides, Ρωμαίοι ή Ρωμηοί Πατέρες της Εκκλησίας, Thessaloniki 1984
  5. George Mantzarides, Μέθεξις Θεού, Thessaloniki 1979
  6. George Mantzarides, Παλαμικά, Thessaloniki 1983
  7. Archimandrite Hierotheos Vlachos, Saint Gregory Palamas as a Hagiorite, 1992
  8. Metropolitan Hierotheos Vlachos, αλαιά και Νέα Ρώμη - ορθόδοξη και δυτική παράδοση, Levadeia 2009
  9. Monk Theoklitos Dionysiatis, Ο Άγιος Γρηγόριος ο Παλαμάς, ο βίος και η θεολογία του, Thessaloniki 1976
  10. Ο Άγιος Γρηγόριος ο Παλαμάς στην ιστορία και το παρόν, (Πρακτικά Διεθνών Επιστημονικών Συνεδρίων Αθηνών και Λεμεσού), Mount Athos 2000.

[2] أنظر مقال:  Panagiotis Chrestou, ΘΗΕ, τ. 4 (1964) pp. 775-794

[3] قال كاتب سيرته البطريرك فيلوثيوس كوكينوس الذي ترأس مجمع 1368: “أُعلن مُشَرِّفاً أنه قديس بسبب عجائبه، فإن قبره أضحى بعد رقاده ينبوعاً للأشفية.” PG 151:648/9, 711.

[4] PG 102, 263-391

[5]يقرّ لاهوتيّو الكنيسة الأرثوذكسية الكبار أن هذا آخر مجمع مسكوني تمّ بمشاركة روما قبل الإنشقاق. إنه يملك كافّة ميزات المجمع المسكوني. أنظر: John N. Karmiris, The Dogmatic and Symbolic Monuments of the Orthodox Catholic Church, Athens I962, p. 261-2.

[6] سقوط القسطنينية (روما الجديدة) الأول على يد الإفرنج خلال الحملة الصليبية الرابعة.

[7]  Metropolitan Hierotheos of Nafpaktos, Παλαιά και Νέα Ρώμη, pp. 207-210. Cf. Fr. Demetrios Koutsouris, Σύνοδοι και Θεολογία για τον Ησυχασμό, (doctoral thesis), Athens 1997

[8] هذا هو تعليم أنسلم كانتربري (1033-1109). أنظر: Fr. George Metallinos, “Η περί ικανοποιήσεως της θείας δικαιοσύνης διδασκαλία και η νεοελληνική κατηχητική και κηρυκτική πράξη”, in Λόγος ως Αντίλογος, Athens 1992, pp. 85-98. Cf. Fr. Vasilios Kalliakmanis, "Η διδασκαλία περί ικανοποιήσεως της θείας δικαιοσύνης στη νεοελληνική θεολογία", in the magazine Γρηγόριος ο Παλαμάς, τ. 71 (τεύχ. 723), 1988, pp. 529-537.

[9] البابا غريغوريوس السابع (1073-1085) في dictatus papae) PL 148, 10) "البابا هو السلطة المطلقة للكنيسة والدولة"

[10] اللاهوت بالنسبة له هو للذين تحقّقوا وتفحّصوا في الثاوريا (رؤيا الله)، وقد تمّ تطهيرهم نفساً وجسداً، أو أنهم في سبيل التطهير. ("First Theological Oration", PG 36, 13). Cf. Basil the Great, PG 32, 213D

[11] George Florovsky, Ways of Russian Theology

[12] Stylianos Papadopoulos, Πατρολογία, τ. Α;, Athens 1977, p. 300

[13] Fr. George Metallinos, "Αντιδυτικοί; Πατέρες ευεργέτες της Ευρώπης", Ιχνηλασία πνευματικής σχοινοβασίας. Katerini 1999, pp. 45-54

[14] Discourse Regarding the Holy Hesychasts", 1, 1, 12

[15]Θεολογία και εμπειρία. Το μήνυμα του Αγίου Γρηγορίου Παλαμά στην εποχή μας", in Ο Άγιος Γρηγόριος ο Παλαμάς, pp. 481-488