بيتر صليبا
عن نشرة الكرمة
الأحد 9 أيلول 2018
العدد 36
تفتخرُ الكنيسةُ الأرثوذكسيّة بأنَّها كنيسةُ الآباء، كنيسةُ التَّقليدِ الشَّريفِ والإيمان المستقيم. نجدُ هذا في كلِّ مقالاتنا ومنشوراتنا. حتّى صرنا نذيع هذا على صفحات التّواصل الإجتماعيّ.
نحنُ كنيسةُ آباءِ الكنيسة! لا بل نستعمِلُ هذه الحجّة لدحض الهرطقات والدِّفاع عن الإيمان.
هل نعرف حقًّا من هم آباء الكنيسةِ أو ماذا كتبوا؟ أو إنَّنا نفاخِرُ بهم عن جهلٍ أو بمّا لقَّننا إيّاه عنهم بعضُ المطَّلعين؟ عندما نأتي على ذكر الآباء، أوَّل من يأتي على ذاكرتنا هم بعض المشاهير منهم كالقدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم، أو القدّيس غريغوريوس النّيصصيّ (اللّاهوتيّ)، والقدّيس باسيليوس الكبير، وربَّما القدّيس غريغوريوس النَّزينزيّ.
حتّى إنَّنا نسمعُ في عظات الكثيرين من كهنةِ رعايانا تعابير مثل "يعلِّمنا آباءُ الكنيسة"، "يقولُ آباءُ الكنيسة"، "لقد حكم آباءُ الكنيسة"، وما عرفنا يومًا على مَن يتكلَّمون، ومَن هم الآباء الذين يَعنُون، وماذا قالوا بالتَّحديد.
فمَن هم، إذن، آباءُ الكنيسةِ؟
في صفوف اللّاهوت في السنوات الماضية القديمة كانوا، في مادّةِ "المدخل إلى آباء الكنيسة"، يعلِّمون خمسَة معايير أو سِـتَّة تستعملها الكنيسة لتحدِّدَ بها من هم آباءُها.
من تلك النِّقاط، مثلاً، أن يكون الأبُ كاهنًا أو رئيس كهنة، ومعلِّمًا وواعظًا خطيبًا، وكاتبًا نبراسًا، ومدافعًا عن الإيمان، وداحضًا للهرطقات. وبعضُ الأساتذةِ كانوا يعلِّمون الفكرةَ التي أتتنا من الغرب، أنَّ الأقدميّة هي معيارٌ من تلك المعايير.
هذه جميعها، ما عدا الأخير، هي صحيحة، ونضيف: تسميةُ "أب" وجمعها "آباء" تعني أنَّ الشَّخصَ يَلِدُ، أي له خصوصيّة الوالِد، أي يلِدُ إلى الحياة. فبالنسبةِ للكنيسةِ الولادةُ تتمُّ في المسيح ومن أجلِ المسيحِ.
ولكي يتحقَّق هذا يجب على الذي يلد أن يكون هو أيضًا مولودًا من الرّوح القدس. إذا كان الرّوح يلد بواسطة الآباء فعملُ الولادةِ هذا أبديّ أزليّ لا يتوقّف، إذ إنَّ الله، والرّوح القدس الأقنوم الثّالث من أقانيم الألوهةِ، أزليٌّ أبديٌّ في عمله، ما يفيدُ أنَّ فكرة الأقدميّة، أي أن يكون الأب في الكنيسة قد عاش في القرون السّالفة، هي بعينها فكرةٌ خاطئةٌ بل مجدِّفة، إذ نكون قد حدَّدنا عمل الله ومفاعيله فقط في القرون الثمانية الأولى (هم يزعمون أنّ الحقبة الآبائيّة انتهت عند القدّيس يوحنّا الدِّمشقيّ في القرن الثامن).
فالأبُ إذن يلدُ الأبناء في المسيح، أعضاءَ الكنيسةِ. إذن فهم يولدون من الكنيسةِ ويلدونها، ويجدِّدونها بالمسيحِ في الإيمان الذي لا يتزعزع.
رويدًا رويدًا يعود النشاطُ في الكنيسةِ الأرثوذكسيّة النّاطقةِ بالضّاد لإعادةِ إحياء التراث الآبائيّ القديم، إمّا من خلال مركز الدراسات الآبائيّة في مطرانيّة طرابلس وإمّا من خلال المنشورات، إذ صدر حديثًا كتابٌ لقدس الأرشمندريت المتوحّد غريغوريوس (اسطفان)، آبائيٌّ، من سلسلة كتبٍ آبائيّة، عنوانه "أعمدة الإيمان الأرثوذكسيّ".
يعرِّفنا هذا الكتاب بثلاثة من آباء الكنيسةِ من المرحلة التي تلي عصر القدّيس يوحنّا الدّمشقيّ، فهو يتكلّم على سيرة حياة وأعمال كلٍّ من القدّيس فوتيوس الكبير (القرن 9) والقدّيس غريغوريوس بالاماس (القرن 14) والقدّيس مرقس (إفيينيكوس) الأفسسيّ (القرن 15).
وهذا دليل قاطعٌ على أنَّ الروح عمل في الكنيسةِ ما بعد القرن الثامن وما يزال يعمل. هؤلاء الآباء دافعوا عن الإيمان بوجه اللّاتين. أترك لكم قراءة الكتاب لتكتشفوهم. تنقصنا بعد، في كنيستنا، أعمالٌ جدّيّةٌ مثل هذا الكتاب الفريد من نوعه.
نحن نحتاج إلى أن تصير بين أيدي المؤمنين نصوص هؤلاء الآباء، المعلومين منهم والمجهولين، مترجمةً إلى العربيّةِ من النَّص اليونانيّ الأصليّ، لا ترجماتٌ من ترجماتٍ إنكليزيّة أو فرنسيّة.
وهناك الكثر مِن مَن هم قادرون على القيام بهذا العمل الرّياديّ. فما ينقصنا هو دعمُ الكنيسةِ الإداريّ والتنظيميّ وتَبَنّيها هذا المشروعَ كعمليّةِ إعادةِ الحياة إلى التراث الكنسيّ الآبائيّ.