المحبة بالحق (الجزء الثالث)

الجزء الثالث


إعداد قسطنطين زلالاس
ترجمة ماهر سلوم ونديم سلوم

 

انقسام روما عن الكنيسة الارثوذكسية 1054 - 1954

لقد بورِكَت الأبرشية اليونانية الأرثوذكسية في أميركا بشخص ومقام الميتروبوليت مايكل الدائم الذكر، الرئيس الروحيّ العظيم في أيّامِنا هذه. وُجِدَ المقال التالي[1] في مكتبة الأب نيقولا إلياس الراقد بالرب منذ بضع سنوات في بيت لحم في ولاية بنسيلفانيا.

تسعة قرون تماماً قد مضت على الإنشقاق الكبير في المسيحيّة حين انْشَقّ الغرب عن الكنيسة الأرثوذكسية الشرقيّة. مازال كثيرون يبحثون عن السبب الذي أدّى لهذا الإنشقاق المؤسِف. في الحقيقة، يمكننا أن نجد هذا السبب الرئيسيّ في الإختلاف حول "أوَّلِيّة بابا روما".

حتى القرن الخامس لم تكن هناك أيّة خلافات أو نزاعات بين الكنيسة في الشرق والكنيسة في الغرب. وكان أسقف روما يُعْتَبَر المُتَقَدِّم في الرئاسة الكهنوتيّة، وهذا يُعتَبَر نتيجة تَطوُّر الرّتب الكهنوتيّة وتَشَعُّبها. القانون الثالث من المجمع المسكوني الثاني (381) يضع كرامة أسقف القسطنطينية في المرتبة الثانية بعد أسقف روما مباشرة. وهذا لأن القسطنطينية في ذلك الوقت اعتُبِرَت روما الجديدة.  ومنذ ذلك الوقت، دخلت هذه التَّسْمِية (روما الجديدة) في ألقاب البطريرك القسطنطيني.

هذا يَدُلّ على أن الأهميّة السياسية لهذه المدينة أثّرت على كرامة ودرجة رئاسة الكهنوت التي لها. حصل الأمر ذاته وتأكّد مع القانون 28 من المجمع المسكوني الرابع في خلقيدونيا. في ذلك الوقت اُعلِن أسقف القسطنطينية مُساوياً في الكرامة والرتبة لأسقف روما.

في الوقت عَيْنِه، بدأت الإعتقادات الخاطئة بمهاجمة كنيسة روما. والأهمّ بينها هو إضافة كلمة على دستور الإيمان النيقاوي-القسطنطيني التي وافقت عليه الكنيسة الجامعة في الشرق والغرب، وهي كلمة "والإبن" (filioque) بعد جملة "المُنْبَثِق من الآب...".

هنا يجب أن نوضِح أن دستور الإيمان كُتِب على مرحلتين في المجمعَين المسكونيّيَن الأول والثاني. فالمادة رقم 8 فيه والتي تبدأ بجملة "وبالروح القدس..." تَمَّت كتابتُها في المجمع المسكوني الثاني وتَمَّت كتابتُها بشكل واحد وصيغة واحدة "المنبثق من الآب، الذي هو مع الآب والإبن مسجود له ومُمَجَّد". إضافة كلمة "والإبن" في اللغة اللاتينية تَمَّت لأول مرة في التاريخ في أسبانيا وتحديداً في القرن السادس. منذ ذلك الحين، بدأ هذا الإبتكار ينتشر في بقيّة البلدان الغربيّة. لكن الجدير بالذِّكر، أنه في مطلع القرن التاسع، احتجّ البابا ليو الثالث على هذه الإضافة إلى دستور الإيمان. كان مُقتنِعاً أن دستور الإيمان يجب أن يبقى كما كُتِبَ وأُعلِن في المجمعَيْن المسكونيّيَن الأول والثاني. فأمَرَ أن يُدَوَّن دستور الإيمان من دون أي تغيير على لَوْحَيْن من فضة تمّ وَضْعُها في كنيسة القديس بطرس في روما كي يراها الجميع. هذا واقع تاريخيّ مُصادَق عليه من قِبَل جميع المؤرِّخين.

أوّل مَن احتجّ بِشِدَّة لهذه الإضافة على دستور الإيمان ولأخطاء أخرى في الغرب كان القديس فوتيوس الكبير بطريرك القسطنطينية الذي برز في منتصف القرن التاسع. كان فوتيوس عالماً لامعاً ولاهوتيّاً ارتقى مناصب عالية في الأمبراطورية البيزنطية. حاز على شهرة أدبيّة عالية بِعَمَلِه العظيم "Myrio Biblos" الذي فيه لخّص 280 من الكتابات القديمة التي ضاع معظمها لاحقاً. بسبب قدراته الهائلة وفضائله المميّزة، انتُدِبَ إلى الكهنوت وخلال مدة ستة أيام، سِيمَ شمّاساً وكاهناً وأسقفاً. نُصِّب بطريركاً على القسطنطينية يوم عيد الميلاد عام 857.

استمرّ النزاع بين الكنيسة في الشرق والغرب بشكل أقوى حتى بعد البطريرك فوتيوس. احتجّت الكنيسة الشرقيّة برئاسة بطريرك القسطنطينية على الأخطاء العقائديّة التي يَعَلِّمُها الغرب. جرت مُناشَدات متواصلة لروما لرفض جميع الأخطاء والإنصياع لتعاليم المجامع المسكونيّة السبع في القرون الثمانية الأولى. في الوقت ذاته، شدّدت الكنيسة الغربية برئاسة البابا أن الكنيسة المسيحية جمعاء يجب أن تخضع من دون أي نقاش لأحكام الكرسي الروماني. إلتزموا برأيهم أن رأس كنيسة روما هو ممثّل المسيح على الأرض لأنه يُعتَبَر وريث أوليّة القديس بطرس الذي كَرَّسه المسيح الرب رأساً  للكنيسة الجامعة والذي أسّس كنيسة روما.

:لننظر الآن ما يمكن أن نتعلّمه من النصوص الأساسية التي تتحدّث عن هذه المسألة

(1) علينا أن نأخذ بعين الإعتبار المقطع الإنجيليّ بحسب القديس متى الذي يَرْتَكِز عليه الكاثوليك في أوّليّة القديس بطرس. كان رَبُّنا في قيصريّة فيليبي (متى 16) عندما سأله تلاميذه: “مَنْ يَقُولُ ٱلنَّاسُ إِنِّي أَنَا ٱبْنُ ٱلْإِنْسَانِ؟” فقالوا: “قَوْمٌ: يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانُ، وَآخَرُونَ: إِيلِيَّا، وَآخَرُونَ: إِرْمِيَا أَوْ وَاحِدٌ مِنَ ٱلْأَنْبِيَاءِ". فقال لهم: “وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟" وأجابه سمعان بطرس: “أَنْتَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللهِ ٱلْحَيِّ!” فأجابه يسوع قائلاً: “طُوبَى لَكَ يا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، إِنَّ لَحْمًا وَدَمًا لَمْ يُعْلِنْ لَكَ، لَكِنَّ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ. وَأَنَا أَقُولُ لَكَ أَيْضًا: أَنْتَ بُطْرُسُ، وَعَلَى هَذِهِ ٱلصَّخْرَةِ أَبْنِي كَنِيسَتِي، وَأَبْوَابُ ٱلْجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا.” (متى 13:16-18)

من الواضح أن كلمات الرب تعني أنه لم يبنِ كنيستَه على بطرس، فكان بإمكانه القَوْل بوضوح: أنت بطرس وعليك أبني كنيستي، بل على صخرة الإيمان الحقيقي الذي اعترف به بطرس. قال المسيح الرب بكل وضوح أن كنيستَه بُنِيَت على الحقيقة التي أعلنها بطرس أن الرب يسوع المسيح هو ابن الله الحيّ. فقط من خلال تحريف بالغ للنص يمكن استنتاج خلاصة الكاثوليك أن المسيح بنى الكنيسة على بطرس.

(2) واضحٌ أيضاً في الكتاب المقدس أن القديس بطرس لا يملك سلطةً على باقي الرسل. يورِد القديس بولس في رسالته إلى أهل غلاطية أنه صَحَّحَ أفكار القديس بطرس بحضور آخرين، "وَلَكِنْ لَمَّا أَتَى بُطْرُسُ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ قَاوَمْتُهُ مُواجَهَةً، لِأَنَّهُ كَانَ مَلُومًا.” (غلاطية 11:2). يشرح القديس بولس لاحقاً ويقول: “...لَكِنْ لَمَّا رَأَيْتُ أَنَّهُمْ لَا يَسْلُكُونَ بِٱسْتِقَامَةٍ حَسَبَ حَقِّ ٱلْإِنْجِيلِ، قُلْتُ لِبُطْرُسَ قُدَّامَ ٱلْجَمِيعِ: «إِنْ كُنْتَ وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ تَعِيشُ أُمَمِيًّا لَا يَهُودِيًّا، فَلِمَاذَا تُلْزِمُ ٱلْأُمَمَ أَنْ يَتَهَوَّدُوا؟»” (غلاطية 14:2). بناءً على كلمات القديس بولس هذه يمكننا أن نتساءل بِحَق: “هل هناك أي إقرار هنا بسلطة بطرس في التعليم من دون إحتمال خطأ؟"

 

(3) في ما يخصّ تأسيس الكنيسة المسيحية في روما، هناك شهادة ذات سلطة أنها لم تتمّ بواسطة القديس بطرس، بل أسّسها مسيحيّون كانوا قد استقرّوا في روما. علاوةً على ذلك، يعتبرها القديس بولس كنيستَه. ذكر في رسالته إلى أهل روما: “حَتَّى إِنِّي مِنْ أُورُشَلِيمَ وَمَا حَوْلَهَا إِلَى إِللِّيرِيكُونَ، قَدْ أَكْمَلْتُ ٱلتَّبْشِيرَ بِإِنْجِيلِ ٱلْمَسِيحِ. وَلَكِنْ كُنْتُ مُحْتَرِصًا أَنْ أُبَشِّرَ هَكَذَا: لَيْسَ حَيْثُ سُمِّيَ ٱلْمَسِيحُ، لِئَلَّا أَبْنِيَ عَلَى أَسَاسٍ لِآخَرَ…  لِذَلِكَ كُنْتُ أُعَاقُ ٱلْمِرَارَ ٱلْكَثِيرَةَ عَنِ ٱلْمَجِيءِ إِلَيْكُمْ. وَأَمَّا ٱلْآنَ فَإِذْ لَيْسَ لِي مَكَانٌ بَعْدُ فِي هَذِهِ ٱلْأَقَالِيمِ، وَلِي ٱشْتِيَاقٌ إِلَى ٱلْمَجِيءِ إِلَيْكُمْ مُنْذُ سِنِينَ كَثِيرَةٍ، فَعِنْدَمَا أَذْهَبُ إِلَى ٱسْبَانِيَا آتِي إِلَيْكُمْ. لِأَنِّي أَرْجُو أَنْ أَرَاكُمْ فِي مُرُورِي" (رومية 19:15-20 ،22-24)

نرى بوضوح في هذا المقطع أن القديس بولس لم يكن على عِلْم أن القديس بطرس كان في روما أو أنه أسّس الكنيسة هناك. بالعكس، يقول أنه شعر أنه مُضْطَرّ أن يُبَشِّر الإنجيل حيث لم يعلّم أي رسول آخر كَيْلا يبني فوق أساس وضعه آخر. هذه بالتأكيد شهادة أن القديس بطرس لم يكن على أي علاقة بتأسيس الكنيسة في روما. في الواقع، خدم القديس بطرس الكنيسة في أنطاكية لسنين عديدة كما يُثبِت القديس ايرونيموس، ومن ثُمّ ذهب إلى روما كي يستشهد مع القديس بولس.
 

(4) في النهاية، تجدر الإشارة أن تسلسل الصدارة في الكراسي الرسوليّة تَمَّ حصراً بحسب الأهمّية السياسية للمدن. اعتُبِرَ أسقف روما أنه الأول لأن روما كانت عاصمة الأمبراطورية. في بادئ الأمر، عُيِّنَ أسقف القسطنطينية ثانياً في المجمع المسكوني الثاني. بعد ذلك، صارت القسطنطينية روما الجديدة بعد أن أصبحت عاصمة الأمبراطورية البيزنطية. وأعلن المجمع المسكوني الرابع في ما بعد أن أسقف القسطنطينية متساوٍ في الرتبة مع أسقف روما.

عُيِّنَ أسقف الإسكندرية ثالثاً لأن مدينَتَه كانت مركزاً عظيماً في التَّثْقيف والمعرفة، وبعده أسقُفَيْ أنطاكية وأورشليم. إن كانت مرتبة الشرف محسوبة بأهمّيّة المدينة السياسية ولا الدينيّة، ألَيْسَ من المنطق أن تُعطى مرتبة الشرف لأورشليم أُمّ الكنائس المسيحية؟ لا يوجد أي جِدال في ذلك، إذ أن رَبّنا عاش هناك وصُلِبَ هناك وقام من القبر هناك. علاوة على ذلك، أول كنيسة مسيحية قد أُسِّسَت في أورشليم يوم العنصرة.

هذه وقائع حقيقيّة ودقيقة لأنها تستند على وثائق أصليّة وصحيحة هي جزء من التاريخ الكَنَسيّ. من المؤسف أن الكنيسة الغربيّة ما زالت تُصِرّ على رأيها لقرون عديدة.

نحن الأرثوذكس حزانى جِدّاً أن إخوتنا الكاثوليك يشوّهون الحقائق. نحن نصلّي يوميّاً وسوف نُثابر في الصلاة حتى تعود الكنيسة الكاثوليكية إلى الحقيقة، كما فعل العديد من العِلمانيّين المُطَّلِعين على الحقائق. سوف يكون ذلك الحدث من الأكثر جلالاً في تاريخ البشريّة.

المرجع:

http://saintnicodemos.org/articles/loveintruth.php

 

 


[1]  كُتِبَ هذا المقال عام 1954