الأرشمندريت لوقا رئيس دير سيدة البشارة في كندا
ترجمة نديم سلوم
إنَّ كلّ من ينظر إلى صور الإكليروس في اليونان وروسيا ورومانيا والبلدان الأرثوذكسيّة الأخرى التي صُوِّرَت في أوائل القرن العشرين، يلاحظ أنّه تقريبًا من دون استثناء جميع الإكليروس من رهبان ومتزوجين، كهنة وشمامسة، لحاهم وشعرهم غير مقصوص. فقط بعد الحرب العالمية الأولى بدأنا نعاين منظر جديد، ألا وهو قصّ الإكليروس لشعرهم ولحاهم. وقد استمرّت هذه الموضة بين بعض الكهنة إلى يومنا هذا. إذا أراد أحد أن يحقق في هذه الظاهرة من خلال رجل واحد من الإكليروس أمضى أغلب حياته في هذا القرن سيلاحظ المرء كيف "تعصرن" من أول الى آخِرِ صورة له.
هناك سببان في التغيير في هذا الموقف. يقولون: "يجب الإندماج في الموضة، لا يمكن أن نبدو قرويين" أو حتّى أكثر سخافة "زوجتي لا تسمح لي". هذه الأسباب هي بمثابة خط "عقائدي" للمتجديدين الذين إمّا يتبعون الموضة (إن كانت الموضة هي الحلاقة فيحلقون وإن كان بالعكس فيدعون شعرهم ينمو) أو التفكير بطريقة مسكونية التي هي عدم جرح مشاعر الذين لا ينتمون إلى الكنيسة الأرثوذكسيّة. أمّا السبب الثاني فهي الآية الكتابية لبولس الرسول: "أَمْ لَيْسَتِ الطَّبِيعَة نَفْسُهَا تُعَلِّمُكُمْ أَنَّ الرَّجُلَ إِنْ كَانَ يُرْخِي شَعْرَهُ فَهُوَ عَيْبٌ لَهُ؟"(1كور 14:11). في الردّ على الحجة الأولى، التقليد الأرثوذكسيّ يشجب العصرنة والمسكونية. لذلك سنناقش المسألة الثانية التي تتعلق بالكتاب المقدس.
يبدأ تقليد الكنيسة الأرثوذكسيّة من العهد القديم. علاقتنا مع الربّ من عبادة وتقديس وفضيلة نشأت منذ العصور القديمة في الكتاب المقدس. عندما تأسس الكهنوت أعطى الربّ وصايا للكهنة العازمين على الخدمة "لاَ يَجْعَلُوا قَرْعَةً فِي رُؤُوسِهِمْ، وَلاَ يَحْلِقُوا عَوَارِضَ لِحَاهُمْ، وَلاَ يَجْرَحُوا جِرَاحَةً فِي أَجْسَادِهِمْ." (لاويين 21: 5) ولباقي الرجال "لاَ تُقَصِّرُوا رُؤُوسَكُمْ مُسْتَدِيرًا، وَلاَ تُفْسِدْ عَارِضَيْكَ." (لاويين 19: 27). المقصود من هذه الوصايا هو أنّ الكهنة مكرّسون بالكامل لخدمة الربّ. أمّا العلمانيّون فهم أيضًا مدعوون لخدمة الربّ ولكن من دون القيام بالمهام الكهنوتيّة. تتكرر هذه الوصية في سفر العدد "كُلَّ أَيَّامِ نَذْرِ افْتِرَازِهِ لاَ يَمُرُّ مُوسَى عَلَى رَأْسِهِ. إِلَى كَمَالِ الأَيَّامِ الَّتِي انْتَذَرَ فِيهَا لِلرَّبِّ يَكُونُ مُقَدَّسًا، وَيُرَبِّي خُصَلَ شَعْرِ رَأْسِهِ." (عدد 6: 5-6).
المقصود بهذا النذر هو علامة من قوة الربّ التي تستقر على هذا الإنسان. قصّ الشعر يعني وقف قوة الله، مثلما حصل مع شمشون (قضاة 16: 17-19). قوَّة هذه المشاهد التُّقوية، التي انتقلت الى كنيسة العهد الجديد، لوحظت من دون أدنى شك حتّى أيامنا هذه مع ما نتج عنها من عناد وإلحاد. يسأل المرء لماذا الكهنة الأرثوذكس يرفضون هذه الممارسات التقيّة عن الشعر ولكن بالمقابل يقبلون بوضع القلنسوة مع أنَّ هذه الممارسة لها أيضًا جذورها في الممارسات القديمة في العهد القديم (خر24: 4-6) وفي تقليد الكنيسة المبكر.
نستنتج من خلال الآية الواردة في أعمال الرسل (أع 19: 12) أنّ بولس الرسول كان شعره طويلاً. يرد في الآية 12 أنَّ بولس الرسول كان يلبس المآزر. المآزر هي من اللباس التقليديّ للذين لديهم شعر طويل. تذكر المؤرخة إيثيريا أنّ يعقوب الرسول، أول أساقفة أورشليم، لم يقص شعره أبدًا.
إذا كنّا سنتّبع وصايا العهد القديم بخصوص الشعر واللحى، كيف نفهم كلام بولس الرسول الى أهل كورنثوس (1كور 11: 14)؟ يشير هنا بولس الرسول إلى الرجال والنساء الذين يُصلّون (1كور 11: 4-7). كما أنَّ بولس الرسول يشير بكلماته الى العلمانيين وليس الى الكهنة. في مقاطع أخرى يميّز الرسول الفرق بين الكاهن والعلمانيّ (1كور 4: 1، 1تيم 4: 6، كو 1: 7 ...). لم يعارض الممارسات بشأن اللحى والشعر الواردة في العهد القديم بما أنّه هو بنفسه كان شعره ولحيته طويلان، كما أنّ الربّ يسوع المسيح هو أيضًا شعره ولحيته طويلان بما أنّه الكاهن الأعظم للكهنوت المسيحيّ الجديد.
في الآية السابقة "أَمْ لَيْسَتِ الطَّبِيعَة نَفْسُهَا تُعَلِّمُكُمْ أَنَّ الرَّجُلَ إِنْ كَانَ يُرْخِي شَعْرَهُ فَهُوَ عَيْبٌ لَهُ؟"(1كور 14:11) يستعمل بولس الرسول كلمة "شَعْر" باليونانية (Koma~) وتأتي هنا بمعنى السخرية وليس كلمة "thrix" التي تعني الشعر الطبيعي الذي ينمو. ينتقد بولس الرسول الزخرفة في تربية الشَعْر الذي هو مخالف للتقاليد اليهودية والمسيحية. يؤكد على هذا القول القانون 96 الوارد في المجمع المسكوني السادس: "...لذلك فالذين يزينون شعور رؤوسهم بضفائر متداخلة متشابكة بصورة خلابة فتصير شركًا ومعثرة للنفوس الضعيفة..."
في مصدر آخر، The Eerdmans Bible Dictionary، نقرأ ما يلي بشأن الممارسة في العهد القديم: "إلى حدِّ ما، كانت تسريحة الشعر متعلّقة بالموضة، على الأقل بين الذين من الطبقات العليا، الذين كانوا منفتحين على الحضارات الوثنية المجاورة. ولكن بالرغم من ذلك، يبدو أن الشعر الطويل كان العادة عند اليهود، نساءً ورجالاً". الشعر المزخرف أو المقصوص هو الموضة عند الوثنيين، وهذا أمرٌ غير مقبول عند الكهنة الأرثوذكس منذ العصور القديمة إلى يومنا هذا. المثير للإنتباه أنّ هذه الموضة قد وجدت طريقها الى العالمين الكاثوليكي والبروتستانتي. هذه العادات الوثنية أصبحت مهمة عند الكهنة الكاثوليك ابتداءً من القرن الحادي عشر. فلقد كانت إحدى أسباب الحرومات التي أعلنها الكاردينال "هامبرت" في 15 تموز 1054 ضدَّ بطريرك القسطنطينية "ميخائيل" مما أدّى الى إنفصال الكنيسة الغربية نهائيًا عن الكنيسة الأرثوذكسيّة: "بما أنكم مستمرّون في تربية شعركم ولحاكم، ترفضون رباط الأخُوَّة مع اللاتين الذين يحلقون ويقصون شعرهم".
المرجع: http://orthodoxinfo.com/praxis/clergy_hair.aspx