الفرق بين الروحانيّة الأرثوذكسيّة والتقاليد الأُخرى

الميتروبوليت إيروثيوس فلاخوس

ترجمة ماهر سلوم

 

إنّ الروحانيّة الأرثوذكسيّة تختلف بشكل بارز مع أي روحانية أُخرى، شرقية كانت أم غربية. لا يوجد أي التباس ما بين الروحانيات المتعدّدة إذ إنّ الروحانيّة الأرثوذكسيّة محورها الله أمّا الأُخرى فمحورها الإنسان.

يظهر الفرق في التعليم العقائديّ بشكل خاص. لهذا السبب نقول "الكنيسة" ونصفها ب"الأرثوذكسيّة" كي نميّزها عن أي دين آخر. إنّ كلمة "الأرثوذكسيّة" يجب أن تكون مقرونة بمصطلح "الكَنَسِيّة"، لأنّ الأرثوذكسيّة لا يمكن أن تكون موجودة خارج الكنيسة ولا يمكن للكنيسة أن توجد خارج الأرثوذكسيّة.

إنّ العقائد هي نتاج قرارات اتُّخِذَت في المجامع المسكونية بشأن عدة مسائل تتعلّق بالإيمان. إنّنا نستخدم  كلمة "عقائد" لأنّها تفصل بين الحقيقة والضلال، ما بين المرض والصحة. تعبّر العقائد عن الحقيقة المُعلَنة. إنّها تصيغ  حياة الكنيسة. بالتالي هي من جهة تعبّر عن إعلان إلهيّ ومن جهة أُخرى تعمل ك"علاج" كي تقودنا إلى شركة مع الله، إلى قصد وغاية وجودنا.

إنّ الفروقات العقائديّة تعكس فروقات في علاج النفس. إنّ الشخص الذي لا يتبع "الطريق المستقيم" لا يمكن له أن يبلغ هدفه. وإذا لم يتّبع "العلاج" الصحيح لا يمكن له أن ينال الصحة، بتعبير آخر، لن يختبر أي منافع شفائيّة. وإن قُمنا بمقارنة الروحانيّة الأرثوذكسيّة بأيّ تقليد مسيحيّ آخر، نجد الفروقات في الأسلوب والمنهج بشكل أوضح.

يوجد تعليم أساسيّ عند الآباء القدّيسين يقول إنّ الكنيسة هي "مستشفى" تَشفي وتُعافي الإنسان الجريح. إنّ هذه اللغة والتعابير موجودة في مواضع كثيرة في الكتاب المقدّس. على سبيل المثال، يَرد في نصّ مثل السامريّ الصالح:

«وَلكِنَّ سَامِرِيًّا مُسَافِرًا جَاءَ إِلَيْهِ، وَلَمَّا رَآهُ تَحَنَّنَ، فَتَقَدَّمَ وَضَمَدَ جِرَاحَاتِهِ، وَصَبَّ عَلَيْهَا زَيْتًا وَخَمْرًا، وَأَرْكَبَهُ عَلَى دَابَّتِهِ، وَأَتَى بِهِ إِلَى فُنْدُق وَاعْتَنَى بِهِ. وَفِي الْغَدِ لَمَّا مَضَى أَخْرَجَ دِينَارَيْنِ وَأَعْطَاهُمَا لِصَاحِبِ الْفُنْدُقِ، وَقَالَ لَهُ: اعْتَنِ بِهِ، وَمَهْمَا أَنْفَقْتَ أَكْثَرَ فَعِنْدَ رُجُوعِي أُوفِيكَ». (لوقا 33:10-35)

في هذا المثل، يرمز السامريّ إلى المسيح الذي شفى الإنسان الجريح وأوصله إلى الفندق أي "المستشفى" الذي هو الكنيسة. يتّضح هنا أن المسيح يظهر أنّه الشافي، الطبيب الذي يشفي  علل الإنسان، وأنّ الكنيسة هي المستشفى الحقيقيّ. يتميّز القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفمّ باظهاره هذه الحقائق المؤكّدة أعلاه حين يُفسّر هذا المثل. إنّ حياة الإنسان "في الفردوس" قد انحدرت إلى مستوى يحكمه الشيطان بمكائده.

"وسقط بين اللصوص"، أي في أيدي الشيطان وقواه المعادية. الجراح التي تألّم بها الإنسان هي خطاياه الكثيرة، كما يقول النبي داود: «لقد أنتنت وقاحت جراحاتي بسبب جهالتي» لأن كلّ خطيئة تسبّب رضّة وجرحاً.

إنّ السامري هو المسيح بذاته الذي انحدر إلى الأرض من السماء ليشفي الإنسان الجريح. لقد استعمل زيتاً وخمراً  كي "يعالج" الجراح، بتعبير آخر، "لقد أنهض الإنسان إلى الحياة عندما مزج دمه بالروح القدس". بحسب تفسير آخر، يُشير الزيت إلى الكلمة المعزّية والخمر إلى الكلمة الحازمة. فحين تُمزج معاً تكتسب قوة لتجمع الذهن المُشَتّت.

"وَأَرْكَبَهُ عَلَى دَابَّتِهِ"، أي أنّه اتّخذ جسداً بشريّاً على عاتق ألوهيّته وصعد متجسّداً إلى أبيه في السماء.

بعد ذلك، أخذ السامري (أي المسيح) الإنسان إلى الفندق العظيم والعجيب والواسع، إلى الكنيسة. وسلّم الإنسان إلى صاحب الفندق أي لبولس الرسول، ومن خلال بولس الرسول إلى جميع الأساقفة والكهنة قائلاً: "إعتنِ بالأمم الذين سلّمتهم إليك في الكنيسة. إنّهم يشكون من مرض ومُجَرّحون بالخطيئة، فاشفِهِم، مستعملاً كلام الأنبياء وتعاليم الإنجيل كدواء. إجعلهم مُعافين من خلال النصائح والكلمة المعزّية في العهدين القديم والجديد." بالتالي، بحسب القديس يوحنّا الذهبيّ الفمّ، بولس هو الذي يحافظ على كنيسة الله، "شافياً جميع الناس بنصائحه الروحيّة ومقدّماً لكلّ واحد منهم ما يحتاجه".

يتّضح في تفسير القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفمّ لهذا المثل أنّ الكنيسة هي مستشفى تداوي الناس المُجَرّحين بالخطايا، وأنّ الأساقفة والكهنة هم أطبّاء شعب الله.

وهذا بالضبط عمل اللاهوت الأرثوذكسيّ. عندما نشير إلى اللاهوت الأرثوذكسيّ، نحن لا نتكلّم على تاريخ اللاهوت فحسب. إنّ هذا الأخير هو بالتأكيد جزء من اللاهوت لكن ليس بشكل كُلّي ومطلق. إنّ اللاهوتيّين في التقليد الآبائي هم معاينو الله. فالقدّيس غريغوريوس بالاماس يدعو برلعام (الذي حاول أن يأتي باللاهوت السكولاستيكيّ الغربيّ إلى الكنيسة الأرثوذكسيّة) "لاهوتيّاً"، لكنّه يُشدّد بوضوح أنّ اللاهوت العقلانيّ يختلف كثيراً عن خبرة معاينة الله. إنّ اللاهوتيّين بحسب القدّيس غريغوريوس هم معاينو الله، هؤلاء الذين اتّبعوا "نهج" الكنيسة وأحرزوا كمال الإيمان واستنارة الذهن (النوس) والتألّه (theosis). إنّ اللاهوت هو ثمر شفاء الإنسان والطريق  لاقتناء معرفة الله.

أمّا اللاهوت الغربيّ فقد جعل نفسه مختلفاً عن اللاهوت الأرثوذكسيّ الشرقيّ. عوض أن يكون شفائيّاً، هو عقلانيّ وعاطفيّ بالطبع. في الغرب (بعد "النهضة" الكارولنجيّة[1])، تطوّر اللاهوت السكولاستيكيّ، وهذا ما يتعارض مع التقليد الأرثوذكسيّ. إنّ اللاهوت الغربيّ مبنيّ على الفكر العقلانيّ بينما الأرثوذكسيّة مبنيّة على الهدوئيّة. لقد حاول اللاهوت السكولاستيكيّ فهم الإعلان الإلهيّ استناداً على المنطق والتكيُّف مع المنهجية الفلسفيّة. مثل بارز للمنهج السكولاستيكي هو هذا القول ل"أنسلم" (Anselm) (رئيس أساقفة كانتربري 1093-1109، وهو من أوائل الذين ظهروا بعد الغزو النورماندي وتدمير الكنيسة الأرثوذكسيّة الإنكليزية): "أنا أؤمن من أجل أن أفهم". لقد أقرّ السكولاستيكيّون بدايةً بوجود الله لكنّهم اجتهدوا أن يثبتوا وجوده بالحجج المنطقيّة والتصنيفات العقلانيّة. في الكنيسة الأرثوذكسيّة، وبحسب الآباء القدّيسين، إنّ الإيمان هو إعلان الله ذاته للإنسان. إنّنا نقبل الإيمان عند سماعه ليس من أجل فهمه بعقلنا، لكن من أجل أن نُطهّر قلوبنا وأن نبلغ الإيمان بالتألّه ومن أجل أن نختبر الإعلان الإلهيّ.

بلغ اللاهوت السكولاستيكيّ ذروته في شخص توما الأكويني الذي يُعتبر قدّيساً في الكنيسة الكاثوليكيّة. زعم أنّ الحقائق المسيحيّة تنقسم ما بين طبيعية وبين ما يفوق الطبيعة. يُمكن إثبات الحقائق الطبيعية فلسفيّاً، كحقيقة وجود الله على سبيل المثال. أما الحقائق ما فوق الطبيعة (كالوحدانيّة الثالوثية لله، تجسّد الكلمة، قيامة الأجساد، ألخ.) فلا يمكن إثباتها فلسفيّاً، لكن لا يُمكن إنكارها ودحضها. لقد ربطت السكولاستيكيّة اللاهوت مباشرةً بالفلسفة، لا بل بالميتافيزيكية (الماورائيات - metaphysics). نتيجة لذلك، حصل تشوّهٌ للإيمان وسقط اللاهوت السكولاستيكيّ وفقد اعتباره حين انهار "إله" الغرب الزائف (أي الميتافيزيكيّة). إنّ السكولاستيكيّة تتحمّل مسؤوليّة كبيرة للحالة المأساويّة التي وُجِدَت في الغرب في ما يتعلّق بالإيمان ومسائله.

يُعلّم الآباء القدّيسون أنّ الفصائل الطبيعيّة والميتافيزيكيّة هي غير موجودة، هم بالأحرى يتحدّثون عمّا هو مخلوق وغير مخلوق. لم يقبل الآباء القدّيسون أبداً ميتافيزيكيّة أرسطو. لكن، ليس هدفي هنا أن أسترسل في شرح هذه النقطة. في القرون الوسطى، اعتبر لاهوتيّو الغرب اللاهوت السكولاستيكيّ أنه تطويرٌ لتعليم الآباء القدّيسين، ومن هذه النقطة، بدأ تعليم الإفرنج أن اللاهوت السكولاستيكيّ يتفوّق  على لاهوت الآباء القدّيسين. بالتالي، إنّ السكولاستيكيّين، المنهمكين بالعقل، يحسبون أنفسهم متفوّقين على آباء الكنيسة القدّيسين. إنّهم يؤمنون أيضاً أنّ المعرفة البشريّة، التي هي نتاج العقل، أسمى من الإعلان والخبرة.

وفي هذا السياق، نجد اختلافًا بين القدّيس غريغوريوس بالاماس وبرلعام.  كان برلعام بالأساس لاهوتيّاً سكولاستيكيّاً قد حاول إيصال اللاهوت السكولاستيكيّ إلى الشرق الأرثوذكسيّ.

إنّ آراء برلعام -أنّنا لا نستطيع حقّاً معرفة من هو الروح القديس بالتحديد (وهذا نتاج تعاليم الغنوصيّة)، وأنّ الفلاسفة اليونان القُدامى هم متفوّقون على الأنبياء والرسل (إذ أن العقل أسمى من معاينة الرسل)، أن نور التجلّي هو شيء مخلوق ويمكن إبطاله، أن الحياة الهدوئية (أي تنقية القلب والصلاة الذهنيّة غير المنقطعة) هي ليست أساسيّة- هي آراء تعبّر عن وجهة نظر سكولاستيكيّة وبالتالي علمانية للاهوت. لقد سبق القدّيس غريغوريوس بالاماس ورأى أخطار هذه الآراء على الأرثوذكسيّة من خلال قوّة الروح القدس والخبرة الروحيّة التي اكتسبها بذاته كخليفةٍ للآباء القدّيسين، لقد جابه هذا الخطر العظيم وحفظ الإيمان والتقليد الأرثوذكسيّ  بلا عيب.

بعد تحديد إطار الموضوع الذي نحن في صدده، تنكشف للحال الفروقات بين الروحانيّة الأرثوذكسيّة بالنسبة للكاثوليكيّة والبروتستانتيّة.

لا يملك البروتستانت تقليد "علاج شفائي". يفترضون أن الإيمان بالله عقليّاً يشكّل الخلاص. لكن الخلاص ليس مسألة قبول عقلي للحقيقة؛ هو بالأحرى تجلّي الإنسان وتألّهه بالنعمة. يتأثّر هذا التجلّي بنظيره "علاج" شخصيّة الإنسان كما سنرى في الفصول القادمة. يظهر في الكتاب المقدّس أن الإيمان يحصل بسماع الكلمة واختبار "الثاوريا" (رؤيا الله). إنّنا نقبل الإيمان أوّلاً بالسماع من أجل شِفائنا، ومن ثم نبلغ الإيمان بالثاوريا التي تخلّص الإنسان. بما أنّ البروتستانت يؤمنون بقبول حقائق الإيمان والقبول النظري للإعلان الإلهيّ أي الإيمان بالسماع يخلّص الإنسان فهم لا يملكون أي تقليد "علاج شفائي". يمكن القول إنّ هكذا مفهوم للخلاص هو سطحيّ جدّاً. لا يملك الكوثوليك بدورهم  كمال التقليد الشفائيّ الذي تملكه الكنيسة الأرثوذكسيّة. إنّ عقيدة ال Filioque أي انبثاق الروح القدس من الإبن التي يؤمنون بها تظهر ضعف لاهوتهم واستيعابهم للعلاقة الموجودة بين الأقنوم وبين وحدة الأقانيم. يسيئون التمييز ما بين الصفات الأقنوميّة: صفة الآب "غير المولود"، صفة الإبن "المولود"، مع انبثاق الروح القدس. إنّ الآب هو سبب "ولادة" الإبن وانبثاق الروح القدس.

إنّ ضعف اللاتين في الفهم وفشلهم في التعبير عن عقيدة الثالوث يظهران غياب لاهوت الخبرة عندهم. لقد عاين تلاميذ المسيح الثلاثة (بطرس ويعقوب ويوحنا) مجد المسيح على جبل ثابور؛ سمعوا معاً صوت الآب قائلاً: “هذا هو ابني الحبيب"، ونظروا ولوج الروح القدس في غمامة، فالغمامة هي وجود الروح القدس بحسب القدّيس غريغوريوس بالاماس. بذلك لقد نال تلاميذ المسيح معرفة الإله المثلّث الأقانيم بالثاوريا (رؤيا الله) وبالإعلان الإلهيّ. لقد أُعلِن لهم أن الله واحد في ثلالثة أقانيم.

هذا ما يُعلّمه القدّيس سمعان اللاهوتيّ الجديد. يُذيع في  كتاباته مراراً وتكراراً أن الإنسان المُتَألّه ينال إعلان الله الثالوث حين يعاين النور غير المخلوق. عندما يكون القدّيسون في حال الثاوريا (رؤيا الله) فهم لا يُسيئون التمييز بين الخصائص الأقنوميّة. إنّ حقيقة التقليد اللاتينيّ قد بلغ درجة سوء التمييز ما بين الخصائص الأقنوميّة والتعليم أنّ الروح القدس ينبثق من الإبن أيضاً يُظهر غياب لاهوت الخبرة عندهم. يتكلّم التقليد اللاتينيّ أيضاً عن النعمة المخلوقة، ما يعني أنّ نعمة الله لا يمكن اختبارها. فعندما ينال الإنسان خبرة الله حينها يفهم جيّداً أنّ هذه النعمة هي غير مخلوقة. ما من"تقليد شفائيّ" أصيل من دون هذه الخبرة.

وبالفعل، لا يمكننا أن نجد قط في التقليد اللاتينّي ما هو مُوازٍ للنهج الشفائيّ الأرثوذكسيّ. ما من كلام كلام عن الذهن (Nous) وما من  تمييز بينه وبين العقل. إنّ الذهن المظلم لا يُعتَبر مرضاً ولا الإستنارة تُعَدُّ علاجاً ودواءاً. إنّ العديد من النصوص اللاتينيّة الأصل التي يتم الترويج لها هي مثيرة للعواطف ومُستَنزَفة بأخلاقيّة غابرة. أما في الكنيسة الأرثوذكسيّة فعلى العكس، هناك تقليد عظيم في ما يختص بهذه المسائل ينجلي فيه وجود النهج الشفائئ الحقيقيّ.

إنّ الإيمان يكون حقيقيّاً بقدر ما يحوي من منافع شفائية. إنّ كان قادراً على الشفاء فهو إيمان حقيقي. إن كان لا يشفي فهو إيمان غير حقيقيّ. الأمر ذاته ينطبق على الطبّ: إنّ العالم الحقيقيّ هو الطبيب الذي يعرف كيفية العلاج وذو النهج الحاوي منافع شفائيّة، أما الدجّال فهو غير قادرٍ أن يشفي. هذه الحقيقة سارية أيضاً فيما يتعلّق بالنفس البشرية. الفرق بين الأرثوذكسيّة من جهة والتقليد اللاتينيّ مع  الشِّيَع البروتستانتيّة من جهة أُخرى يتّضح بدرجة أولى في طريقة علاج وشفاء النفس البشريّة. إنّ هذا الفرق بارز في عقائد هذه الشِّيَع. العقائد ليست فلسفة، كما أنّ اللاهوت والفلسفة هما أمران مُختلفان.

بما أنّ الروحانيّة الأرثوذكسيّة تختلف بوضوح عن "روحانيات" الإعترافات الإيمانية الأُخرى، هي تختلف بشكل أكبر بكثير عن "روحانية" الديانات الشرقية التي لا تؤمن بالمسيح الإله المُتَأنِّس ولا بالروح القدس. هذه الديانات مُتأثّرة بالجدليّة الفلسفية التي قد تخطّاها الإعلان الإلهي. هذه التقاليد تجهل مفهوم الشخص تالياً المبدأ الأقنومي. إنّ المحبة، كتعليم جوهريّ، هي غائبة تماماً من هذه الديانات. بالتأكيد يمكن إيجاد بعض الإجتهاد عند أتباع هذه الديانات الشرقيّة في نزع الصور والأفكار العقلانية من أنفسهم، بَيد أن هذا بالفعل هو اتجاه نحو العدميّة واللاوجود. لا يوجد أي سبيل ل"تلامذة" وأتباع هذه الديانات لتأليه (أنظر الحاشية أدناه) الإنسان بكُلِّيته.

لأجل ذلك توجد هوّة كبيرة بين الروحانيّة الأرثوذكسيّة وهذه الديانات الشرقيةّ، بالرغم من وجود بعض المصطلحات المشابهة. على سبيل المثال، تستخدم الديانات الشرقية أحياناً عبارات: النشوة، اللاهوى، الإستنارة، الطاقة الذهنية، إلخ، لكن هذه العبارات تحمل معنىً مختلفاً عما هو موجود في الروحانية الأرثوذكسيّة.

 

حاشية:

* الثاوريا هي رؤيا مجد الله، هي معاينة النور غير المخلوق والأفعال الإلهية غير المخلوقة بالإضافة إلى اتحاد الإنسان بالله وتأليه الإنسان (أنظر الحاشية أدناه). وبالتالي، إنّ الثاوريا والمعاينة والتأليه هي مترابطة ببعضها البعض. للثاوريا عدّة درجات: الإستنارة، رؤيا الله والمعاينة الدائمة (لساعات وأيام وأسابيع وحتى لعدة أشهر). الصلاة الذهنية هي أول مرحلة في الثاوريا.  إنّ الإنسان المعاين لله هو الموجود في هذه المرحلة. في اللاهوت الآبائيّ، يمتاز الإنسان المعاين لله بأنّه راعي الخراف.

 

* التألّه هو الإشتراك في النعمة الإلهيّة غير المخلوقة، هو مرتبط بالثاوريا أي معاينة النور غير المخلوق (أنظر الحاشية أعلاه). يُطلَق عليه إسم: التأله بالنعمة، لأنه يُحَقّق بواسطة فعل النعمة الإلهية. إنّه العمل المشترك لله بالإنسان، إذ أن الله هو الذي يعمل والإنسان هو المشارك.

 

المصدر: 

مدخل إلى الروحانية الأرثوذكسيّة، الفصل الثاني، منشورات دير ميلاد السيدة، ليفاديا، اليونان.

 


[1]     نسبةً للملك كارولوس العظيم المعروف بإسم شارلمان