الأرشمندريت المتوحّد غريغوريوس رئيس دير رقاد والدة الإله بكفتين
عن نشرة الكرمة الأحد 7 تموز 2019 عدد 27
نقل الرّسل تعليم الرّبّ يسوع المسيح إلى العالَم، ونقلوا معه أيضًا واجب الطّاعة المطلقة لهذا التعليم. ومن هذه الطّاعة الأمينة للوصيّة، المتناقَلة من جيل إلى جيل، نشأ التّقليد وسمّي الرّسوليّ، وأصبح حاويًا كلَّ إيمان الكنيسة. لهذا مدح بولس الرّسول طاعة أهل كورنثوس قائلاً: "فأمدحكم أيّها الإخوة على أنّكم تذكرونني في كلّ شيء وتحفظون التّقليدات كما سلّمتها إليكم". فالتّقليد في الفكر الأرثوذكسيّ هو معيار فهم الإيمان. عكس التّقليد هو الهرطقة، كما عكس الطّاعة هو العصيان. كلّ خروج على التّقليد هو هرطقة.
لا يمكن لأحد أن يفهم الإيمان إلّا كما سلّمه الرّسل القدّيسون للكنيسة. يقول كليمندس الإسكندريّ عن أمناء الكنيسة: "إنّهم يحفظون تقليد الإيمان المبارَك المأخوذ مباشرة من الرّسل القدّيسين". ويقول أفسافيوس القيصريّ عن القدّيس إغناطيوس الأنطاكيّ إنّه كان مدافعًا عن المؤمنين ضدّ الهرطقات، "وكان يثبّتهم بقوّة في التّقليد الرّسوليّ"
إذًا، من الطّاعة نشأ التّقليد المبارَك. الطّاعة في الأرثوذكسيّة هي جزء لا يتجزّأ من حياة المؤمن الّذي يُجاهد بثبات في مسيرة خلاص نفسه. فطبيعتنا البشريّة فقدت، بالسّقوط، المقدّرة على التّمييز بين الصّالح والسّيّئ، بين الخير والشرّ، واحتاجت إلى الطّاعة المباركة، لتستطيع أن تواجه تأثير فساد حالة السّقوط عليها. لهذا، عدم الطّاعة أصبح علامة التّعظّم المقيت والضّلال، وأصبحت الطّاعة علامة التواضع المبارَك وإنكار الذّات. الطّاعة يُعاندها التّكبّر ومحبّة الذّات، اللّذان هما أصل كلّ الأهواء وكلّ السّقطات. وقد نما مفهوم الطّاعة عَبر الشركات الرّهبانيّة التّقليديّة، حيث تُشكّل الطّاعة أساس كلّ مسيرة الرّاهب. من الطّاعة تأتي الصّلاة النّقيّة وإمكان كلّ نموّ روحيّ.
الرّاهب الّذي يُطيع تتطهّر حواسّه الداخليّة، يستنير ذهنه وتتطهّر مشيئته، ويمكنه أن يرجو، وهو في هذه الحياة الحاضرة، معاينة شيء من إعلانات الله الأبديّة. أمّا الرّاهب الذي لا يُطيع فهو يفتح بابًا لإبليس ليدخل ويخرج متى شاء، حاكمًا على نفسه بذهن مشوّش، تضطرب فيه الأفكار وتتصارع فيه الأهواء.
فأن يعمل الإنسان مشيئته الذّاتيّة ويتمسّك بأفكاره الخاصّة يُشكّل أصل كلّ سقطة والتصاق أكبر بعصيان آدم. فالمسيح أتى ليشفي فينا الإرادة أوّلاً، أي ليعلّمنا الطّاعة عبر إخضاع مشيئتنا الذّاتيّة لمشيئته الإلهيّة، كما أخضع هو نفسه مشيئته البشريّة، طوعًا، لمشيئته الإلهيّة.
لقد حرّرنا المسيح من إثم مشيئتنا السّاقطة المتعظّمة، حرّرنا بصليبه وقيامته، لكن، أيضًا، بطاعته ومثاله الحيّ. لهذا يَعِد الرّاهب، في رسامته، بالحفاظ على نذوره الرّهبانيّة الثّلاثة، وأهمّها الطّاعة. على هذا المبدأ تحصل طاعة المؤمنين العلمانيّين لآبائهم الرّوحيّين الذين يحفظون التّقليد المقدّس ويعملون به.
أهمّ صفة لِ "الأب" في الكنيسة هي طاعته المطلقة للتّقليد الأرثوذكسيّ. لهذا تأخذ الكنيسة من الأسقف، في شرطونيّته، وعدًا واعترافًا بأن يقبل ما تقبله الكنيسة ويحرّم ما تحرّمه. فهل يحقّ له، بعد هذا، أن يَقبل ما حرّمته الكنيسة؟
هذه الطاعة وحدها تحفظ نعمة الرّوح القدس في الكنيسة، لأنّها تقطع جذر كلّ هرطقة وتعليم مخالف للتّقليد، وهما اللّذان منهما يأتي انسحاب النّعمة والموت الرّوحيّ.
الطّاعة في الأرثوذكسيّة ليست لأشخاص، وإلّا تُصبح تحزّبات دنيويّة. لا يهمّ المتحزِّبَ تقليدُ الإيمان والعقيدة إنّما الشّخص الّذي يتحزّب له، بغضّ النظر عن كون هذا الشّخصُ مستقيمًا أو مبتدعًا. من هذه التحزّبات حذّر بولس الرّسول الكورنثيّين.
لهذا، الطّاعة، عَبر الأسقف والأب الرّوحيّ، هي للكنيسة وللإيمان الأرثوذكسيّ المقدّس الذي تقوم عليه الكنيسة.
هذا ما سمّاه آباؤنا القدّيسون الطّاعة للتّقليد المقدّس، الّذي ينبغي أن يكون متجسّدًا بملئه في شخص الأسقف، لأنّه ينقل، في التقليد، كلّ ما علّمه الرّوح للكنيسة من البدء وبغير انقطاع. هكذا يصير التّقليد، لا مجموعة عقائد وممارسات من الماضي، إنّما مسيرة خلاص أو تاريخ خلاص.
الأسقف الحقيقيّ يولد من الطاعة، من إخضاع مشيئته الذّاتيّة لله وللكنيسة. يخضع الأسقف للمسيح عَبر حفظه وصاياه، وللكنيسة عَبر حفظه قوانينها. المسيح والكنيسة ليسا حقيقتَين منفصلتَين، إنّما حقيقة واحدة. الأسقف غير الأمين على قوانين الكنيسة غير أمين على كلّ إيمانها، ويُصبح معاندًا لله وللكنيسة.
فللعالَم وسائله ليُقنع العديدين ممّن اؤتمنوا على خلاص المؤمنين، وبحجج كثيرة، أنّهم لا يُخالفون الإيمان، ويعملون مشيئة الله، في الوقت الذي يعملون فيه مشيئتهم الخاصّة ويُقاومون بعنفٍ من يُخالف أفكارهم.
يقول القدّيس دوروثاوس أسقف غزّة إنّه، إذا لم يبتغِ إنسان مشيئة الله بصدق، فحتّى لو سأل نبيًّا، فإنّ الله سوف يضع في قلب النبيّ جوابًا يُلائم ضلالة قلب السّائل، كما يقول الكتاب: "إذا ضلّ النبيّ وتكلّم كلامًا فأنا الرّبّ قد أضللت هذا النّبيّ" (حز9:14).
لا يضلّ إلّا أولئك الّذين نبذوا الطّاعة للرّوح الأرثوذكسيّة التي سارت عليها الكنيسة من زمن الرّسل إلى اليوم، وفرضوا أفكارهم الخاصّة المسيئة للإيمان.
وهم كثيرون اليوم في الكنيسة، يخضعون، بإرادتهم، لروح هذا العصر، المملوء شرًّا وفسقًا وتعاليم بدع. يُخالفون ويتجاوزون بحجّة أنّنا في عصر يتطلّب هذا التّغيير وهذا التّجاوز.
بهذه الحجج يُبرّرون أنفسهم ويُخضعون الكنيسة للعولَمة ولمسايرة روح هذا العالَم. يقول القدّيس هيلاريون: "الكنيسة تفتخر بأنّ العالمَ يحبّها، هي التي لا تستطيع أن تكونَ للمسيح إلّا بشرط أن يبغضَها العالَم."
كما أنّ الرّاهب الذي لا يطيع لا يمكنه أن يشعر بسلام في داخله، هكذا، أولئك الذين اؤتمنوا على كنيسة المسيح، الأساقفة والكهنة، لن يجدوا راحة حقيقيّة إلّا في الطّاعة المباركة للإيمان والعقائد والقوانين التي تحدّد قواعد هذا الإيمان.
آباؤنا القدّيسون اضطُهدوا لأجل الإيمان، وفي عمق عذابات النفي والاستشهاد كان سلامهم الدّاخليّ يزداد عمقًا وصفاءً، لسبب واحد وبسيط:
كانت النّعمة الإلهيّة تشهد، بقوّة في داخلهم، على سموّ الحقيقة التي كانوا يُدافعون عنها.
أمّا أعداؤهم فكان شعورهم مملوءًا اضطرابًا وغضبًا ورغبة بالانتقام. يُعبّر القدّيس هيلاريون بواتييه عن حالة السّلام التي عاشها خلال نفي الهراطقة له: "بالنّسبة إليّ، لا يمكنني التشكّي من هذا الوقت الذي أقضيه في السّجن... أفرح لأنّ الظلمَ سوف ينكشف عَبر نفيي. الشّرّ، الذي لا يستطيع احتمال الحقيقة، ينفي كهنة العقيدة الصحيحة ويختار لنفسه معلّمين على حسب أهوائه. إنّي مغتبط في سجني. أنا أتهلّل في الرّبّ".
فَهِم القدّيس هيلاريون، كأسقف، أنّ حفظ الإيمان الأرثوذكسيّ المقدّس لا يتحقّق إلّا برذل كلّ تعليم مُخالف لهذا الإيمان. وكأسقف دافع عن هذا الإيمان معتبرًا أنّه هو إيمان الرّسل نفسه، وكان يقول، كبولس آخر:
"قلتُ ما أؤمن به، أتممتُ واجبي كجنديّ للكنيسة، إذ أسمعتكم صوتَ أسقف، وهذا الصّوت ما هو إلّا صدًى لصوت الكنيسة ولتعليم الرّسل."