عظة الأرشمندريت غريغوريوس إسطفان، رئيس دير رقاد والدة الإله - بكفتين

أحد الغفران 10/3/2019

 

بإسم الآب والإبن والروح القدس، الإله الواحد، آمين.

 

اليوم، هو الأحد الأخير قبل الصوم الكبير الذي يبدأ غدًا. لقد هيّأتنا الكنيسة في الأسابيع الماضية للدّخول إليه عبر مسيرةٍ ارتكزت على التّوبة. بدأت هذه المسيرة بأحد الفرّيسي والعشّار، ثم أحد الإبن الشّاطر، وأحد الدّينونة. رتَّبَت الكنيسة هذه المسيرة لتحثّنا على التوبة، لكي ندخل هذا الصوم تائبين. إنّ نتيجة التوبة هي المسامحة والمصالحة مع الله والبشر. لذلك سُمِّيَ هذا الأحد الأخير قبل الصَّوم ب"أحد الغفران" أي المصالحة. بالتّالي، يجب على الإنسان أن يدخل هذا الصَّوم بمصالحة وغفران.

 

لا بدّ أنّ كل إنسان منّا له شيءٌ ما على إنسانٍ آخر، وبالتّالي على كلٍّ منّا أن يعرف كيفيّة تنقية قلبه كلّيًّا. إن كان لأحد شيء ما على الآخر، وجب عليه أن يعرف كيف يتصالح معه، حتّى ولو كان يعتبر أنّه هو المحِقّ، حتّى ولو كان هذا الآخر هو المُذنِب، هذه تكون مبادرةً أمام الرّبّ وهو يحسبها كبيرة إذا ما بادرنا نحن وصالحنا هذا الإنسان. إذا اتّصلنا به على الهاتف وتكلّمنا معه، أو توجّهنا إليه شخصيًّا وعرفنا كيف نخاطبه بقَولِنا: "نودّ أن ندخل الصَّوم بضميرٍ نقيّ". يصبح صومنا كلّه بلا قيمة إن لَم نجاهد بهذه الطريقة. بالطَّبع، من أجل أن نكون متصالحين مع الله، علينا أوَّلاً أن نكون متصالحين مع بعضنا البعض، لأننا لا نستطيع الوصول إلى الله إلا من خلال الآخًر. لذلك نحن نحيا حياة شركة في الكنيسة ، كأعضاءٍ في الجسد الواحد، الذي هو جسد المسيح.

 

التوبة أساسيّة جدًّا للولوج في الصّوم. الإنسان الذي يتوب توبةً صحيحةً، لا يستطيع أن يحزن من أحد، ولا أن يكون معاديًا لأحد. التّائب لا يعرف إلّا خطاياه، لذلك هو قادرٌ على أن يُبادر إلى مصالحة الآخر مهما كان مخطئًا بحقّه، يقوم بواجبه وينقّي قلبه تجاهه. لكنَّه بحكمته، يضع حدودًا بينه وبين هذا الشخص. المهمّ هو أن ندخل الصّوم بقلب صافٍ ونقيّ تجاه كلّ إنسان.

 

نسمّي هذا الأحد "أحد الغفران"، لكننا نركّز في صلواتنا على موضوع مهمّ أيضًا، وهو"طرد آدم من الفردوس". عندما خَلَقَنا الربّ، خلقنا في الفردوس، ولكن بسبب الخطيئة، طُرِدنا منه، وخلال فترة الصوم ننوح خارجًا على بيتنا الأبويّ الذي خُلِقْنا فيه. خلال الصوم، نُطَهِّر ذواتنا من الدّاخل، من كلِّ أهواءها وشهواتها، لكي نستحقّ العودة إلى الفردوس.

 

جُرِّب آدم من الحيَّة وانغلَبَ من شهوته، إذ أكل ما هو محرَّمٌ أكله، فسقطَ. أحبَّ آدم نَفْسَهُ أكثرَ منَ الله بمخالفته لوصيته. هذه هي حالتنا اليوم، يجرّبنا الشيطان بما نشتهيه فنشابه آدمَ المغلوب، هذا يقتل محبّة الله فينا. كلُّ شهوةٍ تغلبنا في هذا العالم تقتل هذه المحبّة الإلهيّة، وتغذّي أنانيّتنا. مَن أحبَّ الله، يضبط شهواته بالصوم.

 

علينا أن نلتزم بالصوم رغم كل ما يعترضنا، فالإنسان الذي يجاهد بشكل صحيح يحافظ على صومه. لكن في حالات المرض يُباح للإنسان أن يكسر صومه تدبيريًّا. الصّوم مقدَّس، أوصى به الله لآدم عندما نهاه عن الأكل من شجرة المعرفة.

 

الإنسان المسيحي، بجهاده وصومه الجديّ، يغلب شهواته وأنانيتّه ويخرج من ذاته. يجب أن نصوم حسب المبادئ التي حدّدتها الكنيسة، وألّا نبتكر صومًا جديدًا. من أراد أن يجاهد أكثر في صومه، عليه أن يستشير الأب الروحي قبل إتخاذ أيّة مبادرة.

 

بالصوم تزهر محبّة الله في الإنسان وتنمو فيه. لا يمكن أن تنمو هذه المحبة فينا إذا كنّا خاضعين لِشَهواتنا. ليس كل ما نشتهيه علينا أن نشتريه. كانت الثمرة شهيَّةَ النّظر فاشتهاها آدم وسقط، هكذا كلّ ما يبدو لنا شهيَّ النّظر يغلبنا، فنسقط. هكذا على الإنسان أن يبدأ بضبط نفسِه، بضبطِ شهواته وأهوائه.

 

يركّز الإنجيل اليوم على كيفيّة الصّوم بطريقة صحيحة، بألّا نفتخر بِصَومنا. علينا أن نصوم ونحن مدركون أنّنا بحاجة إلى ذلك. الصّوم بالنّسبة إلى الكنيسة هو دواء يُعطى للإنسان المريض بالأهواء. لذلك لا يجب أن "نربّح الله جميلة" كما يقول المثل الشعبيّ، بل أن نصوم ونحن مدركين أنّنا مهما فعلنا نبقى مقصّرين أمامه.

 

كما يعلّمنا كيف نكنز كنوزًا في السّماء. عمل الإحسان في الصوم هو أمرٌ مهمٌّ لأنه يساعد الإنسان على الخروج من أناه. بالعطاء تُقاوَم الأنانيّة، لأنّ كلّ عملٍ صالحٍ يقوم به الإنسان هو لمجد الله لا لمجده الخاص. هكذا تكون قلوبنا مع الله ، لا مع الأشياء الأرضيّة التي نعيش بينها، كما يقول المقطع الإنجيلي: "حيث تكون كنوزكم، هناك تكون قلوبكم".