أن يكون الأسقف صاحيًا وممتحِنًا للأرواح

عن نشرة الكرمة عدد 40

في 7 تشرين الأول 2018

الأرشمندريت المتوحّد غريغوريوس إسطفان

 

لقد أعطى الله الأسقف للكنيسة كرأس للجسد ومكمِّل لعمل الرّسل. إنّه في مكان يسوع المسيح، وينبغي له أن يستنير بواسطة موهبة الحقّ التي تُعطى له في شرطونيّته، ليقود المؤمنين إلى هذا الحقّ، الّذي يُعطي الخلاص الأبديّ بيسوع المسيح.

 فالأمر العظيم والجوهريّ الّذي يحصل في شرطونيّة الأسقف ليس عظته أو وعوده أو كثرة تطلّعاته، إنّما، أوّلاً، هذا الاعتراف المجيد بكلّ عقائد الإيمان الأرثوذكسيّ، أمام الله والكنيسة، ووعده بأن يكون أمينًا على هذا الإيمان ويُبسل الهرطقات التي أبسلتها مجامع الكنيسة، وأيضًا أن يحفظ القوانين المقدّسة. 

 وبناءً على هذا الاعتراف المقدّس يأخذ الأسقف في شرطونيّته أعظم درجات النعمة أو ملء موهبة الرّوح القدس. 

 كلّ نعمة ينالها الأسقف ينالها أوّلاً لأنّه أسقف أرثوذكسيّ، لا لأنّ أعماله مجيدة وأفكاره حسنة وجهاداته عظيمة، إنّما لأنّ إيمانه أرثوذكسيّ مستقيم. لكنّ نعمة الرّوح القدس تنسحب من الأسقف بمجرّد تهاونه في حفظ هذا الإيمان الأرثوذكسيّ المقدّس. والتهاون لا يعني عدم الإيمان بهذه العقائد، إنّما يكفي أن يقبل إيمانًا آخر إلى جانب إيمانه حتّى يكون ناقضًا للعقائد. 

 هذا القبول يُعتبر زنى. 

 بحسب المجامع المسكونيّة، الإيمان بالعقائد الأرثوذكسيّة يعني حتمًا رفضًا كاملاً لكلّ العقائد الأخرى المخالفة. انسحاب النعمة قد لا يتمّ حالاً إنّما بعد حين، لأنّ الله يُعطي فرصة للأسقف ليرى انحرافه ويتوب.

 موضوع الأسقف اهتمّ به المسيح نفسه في الإنجيل من خلال تعليمه للرّسل، الأساقفة الأوائل للكنيسة. وتابعه بولس الرّسول في رسائله متكلّمًا عليه بشكل عمليّ رعائيّ، وكان شغل الكنيسة على مدى التاريخ. 

 يوصي بولس الرّسول الأسقف بأن يتزيّن بفضائل سامية، منها ما يتعلّق بالكنيسة ومنها ما يتعلّق بكماله الشخصيّ. 

 في ما يتعلّق بوظيفة الأسقف الكنسيّة، يطلب الرّسول منه، من بين الفضائل العديدة، أن يكون "صاحيًا" و"صالحًا للتعليم" (1تيم2:3). 

 يُحدّد القدّيس الذهبيّ الفمّ، في تفسيره الرّسالة إلى تيموثاوس، معنى صفة "صاحيًا"، بقوله: 

 إنّ الأسقف ينبغي له أن يكون صافي الرؤيا، يقظًا، ساهرًا على قطيع المسيح، مميِّزًا، بحدّة ذهنه، الأمورَ ومعتنيًا بالجميع.

 هذا الصحو وهذان اليقظة والسهر، وهي ما يطلبه الرّسول، هي أوّلاً، بحسب الذهبيّ الفم، على مسيرة إيمان قطيع المسيح. 

 لهذا يتطلّب هذا الصحوّ من الأسقف، كالأوّل الّذي أُعطيَ موهبة قطع كلمة الحقّ باستقامة، أن يحكم للقطيع في أمور الإيمان. 

 ففي هذا الزمن الشرّير، الّذي تبعثر فيه الإيمان المقدّس وتبعثرت فيه مقدّساتنا، كيف يحمي الأسقف شعبه من تأثيرات العالم وهذا الدهر الشرّير؟ ألم يَختَرْه الله نبيًّا ومعلّمًا لشعبه؟ 

 فإذا جاع هذا الشعب إلى كلمة الحقّ مَن يُطعمه؟ 

 في زمن العولمة التي تصنع كلّ شيء دنيويًّا من هذا الدهر، مَن يُنبئ المؤمنين بالذئاب المتلبّسة بثياب الحملان؟ من يكشف لهم علامات الأزمنة؟ 

 مَن يميّز لهذا الشعب الأرواح التي يزداد تأثيرها في العالم، هل هي من الله أم من إبليس؟ ألم يوصِ بهذا الرسول الإنجيليّ: 

 "لاَ تُصدّقوا كُلّ روحٍ، بل اِمتحنوا الأرواح هل هي من الله"، ويُكمل قائلاً لماذا، "لأنّ أنبياءَ كذَبَةً كثيرين قد خرجوا إلى العالم" (1يو1:4). 

 البدع والهرطقات وعولمة الإيمان الأرثوذكسيّ التي تفرضها المسكونيّة الجديدة أليست جزءًا من هذه الأرواح التي يبثّها أنبياء إبليس في هذا العالم؟ ها نحن في زمن نامت فيه الكنيسة ولم يعد أساقفتها يُريدون أن يمتحنوا الأرواح. 

 فمَن تُراه يُميّز الأرواح لهذا الشعب، إذا كان الأسقف نفسه قد أسلم ذاته لإحدى هذه الأرواح الكاذبة وصار قاتلاً للحقّ؟

 إنّ الأسقف الّذي لا تهمّه العقيدة يهدم أسس الإيمان المسيحيّ، لأنّه خارج العقيدة تتحوّل مسيرة الكنيسة، تلقائيًّا، من السَّعي إلى معرفة يسوع المسيح وطلب ملكوته إلى الاِكتفاء بالتشديد على المُثل الخُلُقيّة، التي ظاهرها قد يبدو مفيدًا للمجتمع، لكنّ جوهرها يبقى محصورًا في حدود هذا العالم الساقط وهذا الزمن المهشّم بالخطيئة ومعاندة الله. 

 ملكوت الله نبلغ إليه بالإيمان فقط. بالطبع في الأرثوذكسيّة لا يُحسب الإيمان من دون أعمال محبّة تُثبّته. 

 هذا الإيمان الحيّ الّذي نتكلّم عليه هو القائم على عقائد الكنيسة المقدّسة، لأنّه لا يوجد إيمان بالله مُجرّدٌ عقلانيّ. الإيمان يُحسب إيمانًا حين يستند إلى أسس عقائديّة ثابتة.

 في زمن اللّامبالاة بالعقائد وما ينتج عنها من اللّامبالاة الرّوحيّة، كيف تعلم أنّ أسقفًا قد سقط وأصبح من روح هذا العالَم الفاسد؟ الجواب هو: 

 حين تراه ينقض القوانين، خاصّة ما يتعلّق منها بعقائد الإيمان؛ حين يرى العقائد المقدّسة أمورًا نظريّة لا علاقة لها بالخلاص؛ 

 حين لا يرى في قوانين المجامع المقدسّة، المسكونيّة والمحلّيّة التي قبلتها الكنيسة في وجدانها الحيّ، سوى قوانين بالية وُضعت لعصرها، وينبغي لها أن تتطوّر لتلائم عصرنا الحاليّ؛ 

 حين يبدأ الأسقف باعتبار نفسه أبًا للكنيسة ومعلّمًا لها، كباقي الآباء القدّيسين الّذين بذلوا دماءهم لأجل الحفاظ على الإيمان والعقائد والقوانين، وهو ينقض تعليم هؤلاء القدّيسين وكلّ مسيرة جهادهم لأجل الإيمان، ثمّ يُساوي نفسه بهم. 

 والأمر المثير للدَّهش أنّه، من جهة، يزدري فكرهم وتعليمهم، ومن جهة أخرى، يحتفل بذكراهم ويعظ عنهم بفخر. 

 هكذا كان الفرّيسيّون والمراؤون قبله يقتلون الأنبياء ثمّ يتمنّون لو عاشوا في زمنهم.

 ما يميّز الأسقف عن سائر المؤمنين أنّه معلّم صلب للإيمان ومفسّر للعقائد الإلهيّة. 

 أَوَليست هذه وصيّة بولس الرسول إلى تيطس الأسقف: "مُلازمًا للكلمة الصّادقة التي بِحسبِ التّعليم، لكي يكون قادرًا أن يَعِظ بالتّعليم الصّحيح ويُوبّخ المُناقضين" (تي9:1)؟

 هذه هي فضيلته الكبرى: أنّه يُقدّس المؤمنين بالأسرار، لكن يُقدّس الّذين استناروا بالحقّ الإلهيّ. قبل أن يُعمِّد بالماء، يُعمِّد بالرّوح وكلمة الحقّ.

 هذا هو الأسقف في الأرثوذكسيّة، وهاتان هما مكانته وأهمّيّته في الكنيسة. الرعيّة معه تقوم ومعه تسقط؛ معه تعرف الحقّ وتتحرّر ومعه تُستعبد لضلالات إبليس، عدوّ الحقّ؛ معه تخلص ومعه تُدان، لا بل سيُدان عنها كلّها.