مكانة العذراء مريم في الأرثوذكسية

الأرشمندريت غريغوريوس اسطفان

إكرام والدة الإله مريم الكبير، في الأرثوذكسيّة، لا يعني إطلاقًا أنّنا نضع شخصًا آخر كمركز خلاصنا، غير يسوع المسيح، إنّما ليعكس أوّلاً صورة المسيح الإله الكامل والإنسان الكامل الذي لَبِس منها جسدًا لأجل خلاصنا، وصلواتنا الأرثوذكسيّة تشهد بوضوح على هذه الحقيقة.

فمريم ولدت إلهّا متأنّسًا من جسدها، لهذا قد أصبحت أمًّا للإله، وتملك بالطبيعة دالّة الأم لدى ابنها؛ اتّحدت به وأعطته لحمًا من لحمها ودمًا من دمها. فالعذراء هي صورة الأمّ الحقيقيّة التي أرادها الله لخليقته الجديدة، أمًّا انتصرت على محبّة الذات وبلغت أقصى درجة ممكنة لبشر في محبّة الله. فذاك الذي أعطى الشريعة قديمًا على جبل سيناء وأوصى بإكرام الأب والأمّ، ألا يُكرم أمّه ويستجيب لصلواتها وشفاعتها ببني جنسها. هذه الدالة واضحة في عرس قانا الجليل (يوحنّا 2: 4)، فرغم أن ساعته لم تكن قد أتت بعد، فإنّ إكرام والدته جعله يتجاوز ساعته، يتجاوز الساعة التي عيَّنها الآب لبدء سرّ تدبير خلاص البشر.

أحداث الكتاب المقدّس، بخاصّة العهد الجديد، ليست فرديّة، إنّما لها أبعاد خلاصيّة؛ وما حصل مع العذراء في قانا الجليل وعند الصليب يستمرّ في الكنيسة إلى الأبد. هي مع المسيح في عرس لا يتوقّف، تشفع بكلّ أولئك الذين أمست أمّه أمّهم. فالمسيح، أعطانا بالعذراء، أمًّا حقيقيّة لنا في السماء. حين قال لحبيبه يوحنّا، «هوذا أمّك»، فهو كان قد أعطاها أمًّا، لكلّ من اتّخذهم يسوع أحبّاء وأخوة له. كلّ أرثوذكسيّ يجاهد بحقّ في الحرب الروحيّة، يعرف بعمق وبالخبرة معونة والدة الإله السريعة في التجارب الصعبة وفي الحروب ضدّ الشياطين.

فكم كانت قوّة النعمة الإلهيّة عظيمة في العذراء مريم، حتّى إنّ هذه النعمة انتقلت إلى أليصابات حين سمعت سلام مريم، فارتكض الجنين في بطنها وتنبّأت. ونحن نسأل، هل من الممكن لتلك التي حوت الإله الحقيقي في بطنها، وتنبّأت بها اليصابات بالروح، أنّها «مباركة بين النساء»، «وممتلئة نعمة»، وهي تنبّأت عن نفسها بالروح عينه قائلة: «ها منذ الآن تطوّبني جميع الأجيال» (لوقا 1: 48)، أن تعود إلى حياة دنيويّة عاديّة، حياة ليست سوى استمرار لحالة السقوط الأولى التي تحيا فيها البشريّة. لا يُذكر في الكتاب المقدّس إطلاقًا أنّ مديحًا كهذا قيل في إنسان أو في ملاك قطّ. فهل من الممكن للمرأة التي تألّهت عبر اتّحاد الإله بها، أن تعود إلى ممارسة حياة الجنس والولادة عبر الشهوة[1]. هل يجرؤ يوسف البارّ على أن يلمس الحشا الذي منه خرج ربّ الخليقة بأسرها. شدّد آباء الكنيسة على موضوع، أنّ تكاثر الجنس البشريّ عبر الاتّصال الجنسيّ والشهوة قد أُعطي للإنسان تدبيريًّا بعد السقوط. أمّا قبل السقوط فكان على البشر أن يتكاثروا بطريقة روحيّة، على طريقة الملائكة. فكما «أنهم في القيامة لا يُزوِّجون ولا يَتزوَّجون، بل يكونون كملائكة الله في السّماء» (متّى 22: 30)، هكذا كان ينبغي أن يكونوا قبل القيامة، مع فارق التكاثر. لهذا تعتبر الكنيسة الأرثوذكسيّة أنّ القول بأنّ بطن العذراء الذي حمل الإله الأزليّ، قد عاد ليُنجب أولادًا على طريقة هذا الدهر الساقط، هو تجديف ليس فقط على العذراء، إنّما أيضًا على كلّ تدبير الإله الذي وُلد منها.

تعاطي الإنجيليّين المعمدانيّين، والبروتستانت بعامّة، مع العذراء مريم على هذا الشكل، إنّما يشير إلى أنّ لاهوتهم لم يستطع أن يرفعهم فوق فكر هذا العالم الساقط، فتعاطوا الإلهيّات بحسب روح هذا الدهر. أتباع هذه البدع لم يختبروا حالة تألّه الإنسان، الحالة التي يُمكن لكلّ معمَّد أرثوذكسيّ أن يختبرها: يؤمن فيجاهد في تنقية القلب فيعاين الله. وهكذا، فقَدَ هؤلاء كلّ حسّ روحيّ تجاه المسيح، الإله والخالق؛ وأصبحت نظرتهم إليه لا تتعدّى كونه إنسانًا متألّهًا، لا إلهًا متأنّسًا؛ أو ببساطة ليس أكثر من مصلح اجتماعيّ.

منذ بدء المسيحيّة، فهمت الكنيسة بتوليّة مريم العذراء الدائمة وشدّدت عليها، وذلك عبر كتابات آبائها القدّيسين الذين حفظوا هذا التعليم. لكنّ ظهور المصلحين البروتستانت، ومن بينهم الإنجيليّون المعمدانيّون، أتى ليشوّه هذه الحقيقة البتوليّة. لم يذكر أحد من الرسل كلّهم، أو الآباء الذين خلفوهم والذين أتوا بعدهم، أيّ شيء عن ولادة العذراء لأولاد آخرين غير الربّ يسوع. فهل ممكن للكنيسة الأولى كلّها أن تصمت عن أمر كهذا. لا بل شهادات القرون الأربعة الأولى التي وصلتنا، كما رأينا، تؤكّد كلّها على بتوليّتها الدائمة. هل ممكن أن نستند إلى تفسير البروتستانت، والإنجيليّين المعمدانيّين، الذين أتوا في القرن السادس عشر وما بعد، ليفسّروا لنا مقاطع الإنجيل التي تتكلّم على إخوة يسوع. التشكيك في بتوليّة العذراء مريم لا يتعلّق بها وحدها بل يطال أيضًا لاهوت سرّ العهد القديم وانتظاره حلول «ملء الزمان» (غلاطية 4: 4).

رأت الكنيسة في العديد من صور العهد القديم، رموزًا إلى العذراء وإلى مولدها البتوليّ للمسيح، وحتّى إلى بتوليّتها الدائمة. العلّيقة التي كانت تتوقّد بالنار من دون أن تحترق، وكان الله في وسطها (خروج 3: 2-4)، كانت رمزًا إلى حشا البتول الذي حوى الله فيه ولم يحترق أو تنفكّ أختامه. يذكر حزقيال النبيّ هذا القول: «ثمَّ أرجعني إلى طريق باب المَقدِس الخارجيّ المُتَّجه لِلمشرق، وهو مُغلَقٌ. فقال ليَ الربّ: هذا الباب يكون مُغلقًا، لا يفتحُ ولا يدخل منه إنسان، لأنّ الربّ إلهَ إسرائيل دخل منه فيكونُ مُغلقًا» (حزقيال 44: 1-2). الكنيسة منذ القديم فهمت هذا القول على أنّه نبوءة عن ولادة المسيح من فتاة عذراء، وأنّها تبقى عذراء دائمًا، «لا يدخل منه إنسان، لأنّ الربّ إله إسرائيل دخل منه، فيكون مغلقًا»، إلى الأبد.

أيجرؤ أحد على أن يفتح هذا الباب الذي دخل منه إله إسرائيل وبقي مُغلقًا.

كرامة العذراء ودورها في سرّ التدبير تكلّم عليه آباء القرون الأولى. يقول القدّيس إغناطيوس الأنطاكيّ (30-107): «لم يدرك رئيس هذا الدهر لا بتوليّة مريم ولا ولادتها ولا موت السيّد. أسرار ثلاثة فعلها الله بصمت وهدوء»[2].

القدّيس إيريناوس (130-202)، يقابل بين عذرائين: حواء، التي بعصيانها، صارت سبب الموت، لنفسها ولكلّ الجنس البشريّ، ومريم، التي بطاعتها، أصبحت سبب الخلاص، لنفسها ولكلّ الجنس البشريّ[3].

المجمع المسكوني الثالث في أفسس (431)، حدّد عقيدة العذراء أنها والدة الإله Θεοτόκος؛ لكن هذه العقيدة كانت متجذّرة في فكر آباء الكنيسة القدّيسين حتّى قبل هذا التاريخ. القدّيس غريغوريوس اللاهوتي يقول: «إن لم يعتقد أحد أن القدّيسة مريم هي والدة الإله Θεοτόκος، فهو مفصول عن الألوهة»[4].

توجد وثيقة من القرن الثالث، وهي أقدم صلاة معروفة وصلتنا تدلّ على مكانة العذراء مريم في حياة الكنيسة؛ وهي لا تتوجّه إليها كوالدة الإله فقط، إنّما تطلب أيضًا بحرارة كبيرة شفاعتها: «إليكِ نهرع كملجأ ورحمة، يا أمّ الله القدّيسة. أنت الدائمة الطهارة والمباركة، لا تتغاضي عن صلواتنا في ساعة الاحتياج هذه، لكن خلّصينا من الخطر»[5].

 


[1] لا تنظر الكنيسة الأرثوذكسيّة إطلاقًا نظرة سلبيّة إلى العلاقات الزوجيّة، أو أنّه تنقصها العفّة والطهارة، بل هي إكمال للاتّحاد الروحيّ والمحبّة بين الزوجين؛ وذلك عكس النظرة الكاثوليكيّة التي تعتبر العلاقات الزوجيّة مسموحة فقط لأجل إنجاب الأولاد. إنّما يشدّد آباؤنا على أنّ الذي استعاد بهاء الصورة الإلهيّة الأصليّ في ذاته، كوالدة الإله، وأصبح وهو على الأرض، يحيا حياة الملائكة، من المستحيل أن يعود إلى تلك الحياة الدنيويّة، التي أعطيت تدبيريًّا للإنسان بعد السقوط.

[2] إلى أفسس، 19، 1، ص 114.

[3] القدّيس إيريناوس، ضدّ الهرطقات، 3، 32، 4.

[4] القدّيس غريغوريوس اللاهوتيّ، رسالة 101، 4.

[5] From a Papyrus in the John Rylands Library, Manchester, England, Transl. W. Mitchell; in Hamman, ed., Early Christian Prayers, Cicago 1960, p. 76; See: Boniface Ramsey, Beginning to Read the Fathers, p. 228. 

المرجع: من كتاب الإيمان الأرثوذكسيّ والإنجليّون المعمدانيون. منشورات القديس غريغوريوس بالاماس 2015.