المجامع الأرثوذكسيّة ما بعد السبعة

الأرشمندريت غريغوريوس اسطفان

تعترف الكنيسة الأرثوذكسيّة بسبعة مجامع مسكونيّة انعقدت في القرون الثمانية الأولى لتاريخها. فالمجامع كانت تُعتبر دائمًا معيار الحقيقة في الكنيسة، السلطة الّتي تعبّر عن ثبات الكنيسة في الإيمان الواحد وضمانة لاستمراريّتها في التقليد الأرثوذكسي الواحد. والمجمع الّذي كان يقطع هذه الاستمرارية، في الإيمان الواحد والتقليد الواحد، كان يُعتبر مجمعًا كاذبًا أو لصوصيًّا.
 
بعد القرن الثامن لم يتوقّف انعقاد المجامع في الكنيسة لمواجهة تحدّيات الإيمان الأرثوذكسي. أحد هذه المجامع كان مسكونيًّا، وإن لم يُعترف بمسكونيّته حتّى الآن، انعقد في القسطنطينيّة سنة 879-880، زمن القدّيس فوتيوس الكبير، بطريرك القسطنطينيّة حينذاك، اشتركت فيه الكنيسة جمعاء، بما فيها كنيسة روما، قبل الإنشقاق، والبطريركيّات الشرقيّة كلها. ومجامع أخرى محليّة أو مناطقيّة عديدة، واحد منها نال قبولاً أرثوذكسيًّا شاملاً، وهو الّذي انعقد في القسطنطينيّة أيضًا، سنة 1351، زمن القدّيس غريغوريوس بالاماس أسقف تسالونيكي.
 
مجمع 879-880، له مكانة هامّة في الكنيسة الأرثوذكسيّة؛ فعمله كان يرتكز على أن وحدة الكنيسة تكمن أولاً في جامعيّة الإيمان الواحد. أُدينت في هذا الجمع عقيدة انبثاق الروح القدس من الابن (Filioque)، وإضافتها على قانون الإيمان، التي كانت قد بدأت تنتشر في الغرب، معتبرًا أن الّذي يتبنّاها "سيُعتبر عدوًّا لله وللحقيقة". وقد وقّع نواب البابا أنفسهم، على منع أيّ "حذف أو زيادة أو تغيير"، في قانون الإيمان. كتب البابا يوحنا الثامن، بعد انتهاء المجمع، رسالة إلى القدّيس فوتيوس يشدّد له فيها على أن كنيسة روما تحفظ قانون الإيمان كما هو: "... نحفظ دستور الإيمان كما تسلّمناه في الأصل، بدون أن نزيد أن نحذف شيئًا منه. لأننا نعلم أن من يتجرّأ على التلاعب به يستحقّ عقابًا قاسيًا". وينعت البابا هؤلاء "بالمغتصبين للكلمة الإلهيّة، ومحرّفي تعليم المسيح الربّ". لكن خلفاء هذا البابا تنكّروا لاحقًا لهذه الحقيقة وغيّروا في دستور الإيمان.
 
القدّيس فوتيوس الكبير كان أول أب ناقش بعمق لاهوتي كل ما أدخلته الكنيسة في الغرب من تغييرات في الإيمان وفي تقليد الكنيسة، كالصوم في السبوت، واستخدام الفطير بدل الخمير في الأفخارستيّا، منع زواج المقدمين على الكهنوت، تأجيل إعطاء سرّ الميرون إلى سنّ متأخرة، وخاصّة موضوع انبثاق الروح القدس من الابن. كتب القدّيس فوتيوس بحثًا طويلاً أسماه "المدخل إلى الأسرار" Μυσταγωγία، تكلّم فيه عن عقيدة الروح القدس، معتبرًا هذه الزيادة ضلالاً عقائديًّا يمسّ إيمان الكنيسة ويقوّض وحدة الله. في هذا الكتاب قدّم الحجج الرئيسيّة الّتي تشكّل أول ردّ على الفكر الأوغسطينيّ من وجهة نظر أرثوذكسيّة. ويعتبر قدّيسنا أن في مسألة انبثاق الروح القدس من الابن تتجمّع كل الأخطاء اللاهوتيّة المختصّة بالثالوث. تاليًا، هذه الزيادة ليست مجرّد مسألة كلمات واصطلاحات وتعابير، كما يحاول اللاهوتيّون الغربيّون اليوم تبرير خطورتها العقائديّة. في إحدى رسائله، يقول قدّيسنا عن هذه الزيادة على دستور الإيمان: "لكن أيضًا هذا التجديف بما يختصّ بالروح القدس، أو بالأحرى بالثالوث القدّوس ككلّ، الّذي لم يتجاوزه شيء، يمكن أن يكفي بذاته، وبدون الإتهامات الأخرى، لرشقهم بألف حُرم".
 
ففوتيوس يرفض زيادة الإنبثاق من الابن، على دستور الإيمان ليس فقط من منظار قانوني، إنما لاهوتيّ أولاً، مستندًا على تعليم يوحنّا الإنجيلي: إن المسيح نفسه يعلّمنا أن الروح ينبثق من الآب (يو26:15). إن اعتبار الابن مصدرًا آخر لإنبثاق الروح القدس يحوّل المونارخيّة في الثالوث إلى ألوهة مزدوجة . ويتساءل: لماذا ينبغي للروح أن ينبثق من الابن كما من الآب، "إذا كان انبثاق الروح من الآب هو تامّ وكامل... ماذا يمكن للإنبثاق من الابن أن يزيد"؟ . وإذا كان الروح يأتي من مصدرين أو علّتين ألا ينتج من هذا أن البساطة في الثالوث تتأثّر سلبًا.
 
بالنسبة للقدّيس فوتيوس، هذه العقيدة تجعل الابن أعظم من الروح، لأنهم يعتبرونه كمصدر واضعين إياه مع الآب. إضافة إلى أن اعتبارنا أن الابن يساهم في انبثاق الروح، فإن بنوّة (الابن) تتأذّى، ومعها تتأذّى الصفات الأقنوميّة للثالوث (الصفات الخاصّة بكل أقنوم)؛ "إن صفات الآب تتحوّل لتصير صفات الابن، حينها يمكن بوضوح لصفات الابن أن تتحوّل لتصير صفات الآب".

بالنسبة لمجمع 1351، انعقد في القسطنطينيّة، في زمن كان الصراع بين الشرق والغرب حول عقيدة انبثاق الروح القدس، قد عاد وتجدّد في القرن الرابع عشر. لكنه امتدّ هذه المرّة إلى أمور تمسّ بالعمق إيمان الكنيسة وخبرة حياتها الروحيّة، كالتمييز بين الجوهر والقوى الإلهيّان، أهميّة الجسد الإنساني ودوره في الجهاد النسكي، الإعتماد على الحكمة البشريّة وحدودها والحكمة الإلهيّة التي من فوق، النور الإلهي غير المخلوق، الحياة الهدوئيّة والصلاة الذهنيّة أو صلاة القلب . وكان القدّيس غريغوريوس بالاماس الشخصيّة الّتي لعبت الدور الأهمّ في هذا الصراع.

وضع مجمع 1351 ستّة نقاط عقائديّة أساسيّة، كان أهمّها التمييز في الله بين جوهره وقواه، وأن هذه القوى هي غير مخلوقة. إضافة إلى التأكيد على عدم إمكانيّة الشركة في الجوهر الإلهي، الاشتراك الحقيقي هو في الحياة الإلهيّة أو القوى الإلهيّة.
جاهد القدّيس بالاماس في حياته على صعيدين: عن عقائد الإيمان الأرثوذكسي؛ وعن خبرة الحياة الهدوئيّة، ضدّ الّذين أسماهم "أصحاب الفكر اللاتيني". فعقيدة التمييز بين الجوهر والقوى كانت أساسيّة في لاهوت تأله الإنسان عند بالاماس، وشكّلت دحضًا للتيار الفلسفي العقلاني، المتأثر بعصر النهضة الغربي، الّذي شكّك بطريقة الحياة الرهبانيّة الهدوئيّة الأرثوذكسيّة. فكان صراعًا ضدّ عقلنة الإيمان وتحويله إلى إيديولوجيا فلسفيّة. تعليم القدّيس بالاماس أتى ليعطي للتقليد الهدوئي الأرثوذكسي بُعدًا عقائديًّا، إذ أثبت أن الإنسان قادر أن يعاين الله غير المخلوق ويتألّه، وذلك عبر اشتراكه في قواه الإلهيّة غير المخلوقة، فيما يبقى جوهر الله في بساطته الكليّة غير مقترب منه.
 
عقيدة "تأله" الإنسان، الآبائيّة، شكّلت حجر عثرة للفكر الغربي العقلاني. لكن هذه العقيدة، في الأرثوذكسيّة، هي غاية كل حياة الإنسان على الأرض. التأله، بالنسبة للقدّيس غريغوريوس بالاماس، هو غاية خلقنا، غاية كل الوجود البشري، لهذا السبب صنعنا الله، لكي نصير "شركاء الطبيعة الإلهيّة" (2بط4:1) .
 
هذا التأله، في الفكر الأرثوذكسي، هو شركة شخصيّة مباشرة للإنسان مع الله، إنها إمتلاء الكائن البشري من قوى الله أو من نعمة الله غير المخلوقة. هذه القوى الإلهيّة، أو النعمة الإلهيّة، الّتي تصدر مباشرة عن جوهر الله، الّذي لا يُقترب منه ولا يُدرك، رغم أنها متميّزة عن الجوهر الإلهي، إلا أنها متّحدة به بدون انفصال. الله في جوهره يبقى غير مقترب إليه، لكن في علاقته مع خليقته وفي سرّ الخلاص يعمل عبر قواه الإلهيّة. لهذا ما نقوله عن صلاح الله غير المخلوق، أو المجد الأزلي، أو الحياة الإلهيّة، وما يماثلها، تحصل عبر اشتراك الإنسان في القوى غير المخلوقة، الّتي هي الله نفسه، وليس في "جوهر الله الفائق الجوهر" . هذه القوى هي مشتركة بين أقانيم الثالوث الثلاثة.
 
وبعمل النعمة في النفس البشريّة، كما يصف بالاماس: "الله كلّه يأتي فيسكن في كيان المؤهّلين كلّه، والقدّيسون بكليّتهم يسكنون بكلّ كيانهم في الله كلّه، ممسكين بالله كلّه" .
مجمع 1351، كان هامًّا جدًّا من الناحية العقائديّة، تبنّت فيه الكنيسة رسميًّا عقيدة التمييز بين الجوهر والقوى، حتّى أنها أبسلت من يُنكر هذا التمييز. وقد دخلت حروماته (أناثيما) في خدمة أحد الأرثوذكسيّة.