خاريس سكارلاكيديس
تعريب فيرنا جدعون
يَومُ الجُمعَةِ المُقَدَّسِ، هو يَومُ حُزنٍ عَظيمٍ لِلعالَمِ المَسيحيّ، ذلِكَ بِسَبَبِ صَلبِ وقَتلِ الإله-الإنسان فيه. إلّا أنَّ هذا اليَومَ عَينُه، هو بَداءَةُ الرَّجاءِ والفَرَح، لأنَّهُ في السّاعَةِ الَّتي ماتَ فيها المَسيحُ على الصَّليب، في تِلكَ السّاعَةِ عَينِها، ماتَ المَوت. فَورَ مَوتِ الإله-الإنسان، نزَلَتْ روحُهُ إلى الجَحيمِ مُتَّحِدَةً بِلاهوتِه، فَتَبَدَّدَتْ ظُلمَةَ الجَحيم، وفاضَ عالَمُ الأمواتِ بِنورِ المَسيحِ القائِم. هذا النّورُ غَيرُ المَخلوقِ الذي ظَهَرَ ساعَةَ قِيامَةِ الإله-الإنسان، كانَ نورًا مُتَّحِدًا بأُلوهيَّةِ المَسيحِ القائم، إذ إنّنا لا نَستَطيعُ فَصلَ المَسيحِ عن نورِ أُلوهِيَّتِه. إذًا فَإنَّ خِدمَةَ النّورِ المُقَدَّس، هيَ احتِفالٌ بِقِيامَةِ المَسيح، وبِانحِدارِهِ الحامِلِ النّور، إلى الجَحيم.
في مُنتَصَف نَهارِ الصَّلب، حَيثُ كانَ من المُفتَرَض أن يكونَ هناك ضَوءٌ، خَيَّمَ ظَلامٌ مُدَّةَ ثلاثِ ساعات أمّا لَيلة القِيامَة، حيثُ كانَ مِنَ المُفتَرَض أن يكونَ ظَلامٌ، فاضَ القَبرُ وما حَولَهُ بالنّور.
حَدَثَت مُعجِزَةُ النّورِ المُقَدَّسِ عِندَ قَبرِ المَسيحِ أوَّلَ مَرَّةٍ يومَ قِيامَتِه، حينذاكَ فاضَ نورٌ ساطِعٌ لا شَبيهَ لَهُ في المَكان.يقولُ القِدّيس غريغوريوس النّيصصي في كِتابِهِ «عن قِيامَةِ يسوع المسيح»
“الذينَ كانوا مَعَ بُطرُس رأوا وآمَنوا...لأنَّ القَبرَ كانَ فائِضًا بِالنّور، إذ رُغمَ أنَّ الوَقتَ كانَ لَيل، استطاعوا رؤيَةَ داخِلِ القَبر، وذلك بِطَريقَتَين، بِحَواسِّهِم وروحيًّا".
ويَذكُرُ القدّيسُ يوحنّا الدِّمَشقيّ في كِتابِهِ "عِظَة عَن السَّبتِ المُقَدَّس" أنَّ النّورَ الذي امتَلأَ بِهِ قَبرُ المَسيحِ في تِلكَ اللَّيلَة، كانَ النّورُ غَيرُ المَخلوقِ عَينُهُ الذي سَطَعَ خِلالَ تَجَلّي الرَّبّ على جَبَلِ ثابور. ويُضيف:
“هذا النّور عَينُهُ يَسطَعُ مِنَ القَبرِ المُقَدَّسِ كُلَّ سَنَة، يَومَ السَّبتِ المُقَدَّس".
لِلنّورِ المُقَدَّسِ خاصيَّتانِ لا يَحمِلُهُما النّورِ العادِيّ (لا نورُ الشَّمسِ ولا النّورُ الاصطناعِيّ): لا يَنتُجُ عَنهُ أَيُّ ظِلّ، ولا يُغَيّر الظِّلالَ المَعكوسَةِ على القَبر بِفِعلِ النّور الآتي مِنَ القبّة. مِمّا يُذَكِّرُنا أيضًا بِخَصائِصِ النّورِ غَيرِ المَخلوقِ كَما عايَنَهُ قِدّيسونَ أرثوذكسيّون كالقدّيسِ سيرافيم ساروف، يوحنا كرونشتادت، سمعان اللّاهوتيّ الحديث، غريغوريوس بالاماس وسلوان الآثوسي، كما ويُخبِرُنا القِدّيس نكتاريوس بِأنَّ النّورَ غَيرَ المَخلوقِ لا يَنتُجُ عنهُ ظِلال.
وِفقَ شَهادَةِ الكاتِبِ الشَّخصِيَّة، وشَهاداتِ آلافِ الأشخاصِ الآخَرين على مَرِّ القُرون، يَنزِلُ النّورُ مِنَ السَّماءِ فَيَشتَعِلُ قِنديلُ الزَّيتِ المَوجودِ داخِلَ القَبرِ وَحدَهُ، ويَفيضُ داخِلُ القَبرِ بِنورٍ ساطِع، آتٍ لَيسَ فَقَط مِنَ القِنديلِ المَشتَعِل، بَل مِن النّورِ الآتي مِن حَجَرِ القَبرِ نَفسِه. يَنتَشِرُ النّورُ المُقَدَّسُ داخِلَ الكَنيسَةِ على شَكلِ نارٍ مائِلَةٍ إلى الازرِقاق، ويُضيءُ أَقسامًا مِنَ الكَنيسَةِ وإيقوناتِ القِدّيسين، وبَعضَ القَناديلِ والشُّموعِ التي يَحمِلُها المُؤمِنون. بالطَّبع بَعضُ الحاضِرينَ لا يَختَبِرونَ أَو يَرَونَ أيَّ شَيئٍ مُمَيَّز. إنَّ اختِبارَ وإدراكَ النّورِ المُقَدَّسِ الحِسِّيّ، مِن قِبَلِ بَعضِ المَوجودينَ هناك، لا يَعتَمِدُ فَقَط على إيمانِهِم، بَل هو أيضًا نَتيجَةَ العِنايَةِ الإلهِيَّة، الَّتي لِسَبَبٍ ما، تُخَوِّلُ كُلَّ فَردٍ لاختِبارِ النّورِ بِطَريقَةٍ مُختَلِفَة.قَد يُقَدِّمُ المَسيحُ مَجدَهُ المُضيء إلى شخصٍ ما بِغَضِّ النَّظَرِ عن دَرَجَةِ تَقَدُّمِهِ الرّوحيّ، قَد يُقَدِّمُهُ حتّى إلى شَخصٍ غَيرِ مُؤمنٍ، لأَسبابٍ هو وَحدَهُ يَعلَمُها.
شهادَة إبن القَسّ العَرَبيّ (القرن التّاسِع)
شَهادَةُ إبنِ القَسِّ العَرَبيّ ذاتُ أهَمِيَّةٍ كَبيرَةٍ إذ إنَّهُ باحِثٌ مُتَدَيّن في الشَّريعَة الإسلامِيَّة. مِن بَينِ أعمالِه، كِتاب "دلائِل القِبلة"، الذي يَذكُرُ فيهِ وَصفًا هامًّا لِطَقسِ النّورِ المُقَدَّس، فيقول:
“فإذا كانَ فِصحُ النَّصارى وهو يَومُ السَّبتِ الكَبير، وذلك يَومَ يَخرُجُ النّاسُ مِن مَوضِعِ القَبرِ إلى الصَّخرَة، وحَولَ الصَّخرَةِ داربزينات، يتَطَلّعونَ إلى مَوضِعِ القَبر، يَبتَهِلونَ كُلُّهُم ويَتَضَرَّعونَ إلى الله تَعالى، ويَحضُرُ الأَميرُ وإمامُ المَسجِد. ويُغلِقُ السُّلطانُ البابَ الذي على القَبرِ ويَقعَدُ على الباب، فَهُم على هذا حتّى يَرَون نورًا كأنَّهُ نارٌ بَيضاءٌ تَخرُجُ مِن جَوفِ القَبر. فَيَفتَحُ السُّلطان البابَ عَنِ القَبرِ ويَدخُلُ إليها وفي يدِهِ شَمعَةٌ فَيُشعِلُها مِن ذلك النّور، فَيُخرِجُها والشَّمعَةُ تَشتَعِلُ ولا تَحتَرِق. فَيَدفَعُها إلى الإمامِ فَيأتي الإمامُ بِتِلكَ الشَّمعَةِ فَيُشعِلُ قَناديلَ المَسجِد. فإذا تَداوَلَت تلك الشَّمعَةُ ثَلاثَةَ أيدٍ احتَرَقَت بَعدَ ذلكَ وصارَت نارًا. ويَكتُبُ الخَبَر إلى السُّلطان ويُعلِمهُ أنَّ النّارَ نَزَلَت في وقت كذا من يوم كذا. فإذا نَزَلَت وَقتَ الصّلوات الأولى مِن ذلك اليَوم كانَت دَليلاً عِندَهُم أنَّ السَّنَةَ لَيسَت بِخَصبة ولا قَحطة، وإذا نَزَلَت وَقتَ العَصر دَلَّت على أنَّ السَّنة قَحطة. ”
يتّضِحُ لنا ممّا كَتَبَهُ، أنَّ قادَة أورشَليم المُسلِمينَ كانَت لَهُم السُّلطَةُ الكامِلَةُ على الخِدمَة. خِلالَ الاحتِفال، يُقيمُ البَطريَركُ الأرثوذكسيُّ خِدمَةَ النّورِ المُقَدَّسِ الاعتِيادِيَّةِ وخَلفُهُ الشَّعب، خارِجَ القَبر. يُشاركُ المُسلمونَ في الخِدمَةِ بِحُضورٍ رسميٍّ إلى حدٍّ يبدو وكأنّ الطَّقسَ طَقسُهُم الخاصّ. إضافَةً إلى أنّ الإمام يأخذُ النّورَ المُقَدَّس "ويُشعِلُ بِهِ قَناديلَ المَسجِد" أي "قُبَّة الصَّخرَة" الذي يُشَكِّلُ ثالِثَ أهمَّ مَعلَمٍ إسلاميٍّ بَعدَ مكَّة والمَدينة. حَدَثَ كُلُّ هذا في النِّصفِ الأوَّلِ مِنَ القَرنِ العاشِر، في وَقتٍ كان فيهِ العالَمُ المسيحيّ والمُسلِم في صِراعٍ كَبير.
الأمرُ البالِغُ الأهميَّةِ هو الشّهادَةُ التي قَدَّمَها ابن القَسّ بأنَّ النّورَ لا يَحتَرِق. لَقَد مَيَّزَ بينَ النّورِ الذي ظَهَرَ داخِلَ القَبرِ وبينَ الشُّعلَةِ التي تَلَقّاها المُؤمنونَ على شُموعِهِم بَعدَ لَحَظات. تَقريرُهُ فائقُ الدِّقَّةِ إذ إنَّهُ يَستَخدِمُ تَعابيرَ "نور" و"نار"، عِندَما بَزَغَ النّورُ المُقَدَّسُ وَصَفَهُ المُسلِمونَ بأنّه نورٌ إلهيٌّ أبيَضٌ لَيسَ لَهُ أيّةُ صِلَةٍ بالنّارِ المادِيَّة. إلا أنّه ُعِندَما انتَقَلَتِ الشُّعلَةُ مِن شَمعَةٍ إلى شَمعَة، "بَعدَ ثَلاثَةِ أيدٍ" كما يَقول، أي بِمَعنى آخر، بَعدَ بِضعَةِ ثَوانٍ، أَصبَحَت النّارُ الإلهيَّةُ ماديَّة. تَحَوَّلَت من "نور" إلى "نار". كما أنَّ ابن القَسّ استَخدَمَ تَعبيرَ "لا تحترق"، ويؤكِّدُ "جمال الطاهر" بأنَّ التَّعبيرَ يَعني بأنَّ الشُّعلَةَ لا تَحرُق. وهذه ظاهرةٌ مألوفَةٌ لا نَزالُ نَراها حتّى يَومِنا هذا. عِندَما يَشتَعِلُ القِنديلُ داخِلَ القَبر، يَكونُ النّورُ أبيضٌ مُزرَقٌّ وغيرُ حارِقٍ أبدًا. بَعدَ بِضعَةِ ثَوانٍ يَتَحَوَّلُ إلى شُعلةٍ -كما يؤكّدُ الكاتِبُ وآلافُ المؤمِنون- تُحرِقُ ولكن لَيسَ بِنَفسِ شِدَّةِ النّارِ العادِيَّة.
شهادَة العالِم الفارِسيّ إبن البيَروني (973-1048(
كَتَبَ ابن البيروني في فَصلٍ مِن كِتابِهِ "الآثار الباقِيَة"، كُلّ ما يَعرفُهُ عَن طَقسِ النّورِ المُقَدَّس، وجاءَ فيه:
“ويُحكى لِسَبتِ القِيامَةِ حِكايَةٌ يبهَتُ لها صاحِبُ العِلمِ الطّبيعيّ بَل لا يوجَدُ مُقِرًّا بها، ولَولا إطباق الخُصوم على الأخبارِ عَنهُ ذاكِرينَ مشاهَدَتَهُ، وتَخليد الفُضَلاء العُلَماء وغَيرِهِم إيّاه في كُتُبِهِم، لَما يَسكُنُ القَلبُ إلَيه، وقَد عَرَفتُهُ مِنَ الكُتُبِ وأخَذتُهُ سَماعًا عَن الفرج بن صالح البغدادي أنَّ في وَسَطِ كَنيسَةِ القِيامَة بِبَيت المقدس قَبر المَسيح مَنقورٌ في صَخرَةٍ واحِدَةٍ مطبَقَةٍ وعَلَيهِ قُبَّة تُشرِف عليها أُخرى عَظيمَة وحوالي الصَّخر دار برمات يُشرِف مِنهُ المًسلِمون والنَّصارى ومَن حَضَرَ إلى مَوضِعِ القَبر في هذا اليَوم، مُتَضَرِّعينَ إلى الله تَعالى وداعينَ إيّاهُ مِن نِصفِ النَّهارِ إلى آخِرِه. ويَجيءُ مُؤَذِنُ الجامِع والإمام وأميرُ البَلَد، فَيَقعَدونَ عِندَ القَبرِ ويَجيئونَ بِقَناديل يَضَعونَها عَلَيهِ وهو مُعَلَّق، وقَد أطفَأت النَّصارى سِرجَهُم وقَناديلَهُم قَبلَ ذلكَ ويَمكُثونَ إلى أن يَروا نارًا صافيَةً بيضاءَ قَد أشعَلَت قِنديلاً، فَمِنها سِرجُ القَناديل في الجامِعِ والبيع. ثمّ يَكتُبُ إلى حَضرَةِ الخُلَفاءِ بِوَقتِ نُزولِ النّار ويَستَدِلّونَ بِسُرعَةِ نُزولِها وقُربِهِ مِن نِصفِ النّهار على خضب السَّنة وبتأخُّرِها إلى العَشاء وبَعدَهُ على جُدبِها. وحَكى هذا المُخبِر أنَّ بَعضَ السَّلاطينِ وَضَعَ في مَوضِعِ الفَتيل نُحاسًا كَيلا يَتَّقِد فَيُفسِد ذلك، فإنّها إذا نَزَلَت اتَّقَدَ النُّحاس.”
أمّا عَن حادِثَةِ اتِّقاد النُّحاس في القَناديل فَقَد وَرَدَ ذِكرُها أيضًا في رِسالَة الإكليركيّ "نيكيتاس" إلى الإمبرطور قسطنطين السّابع بورفيروجينيتوس.
رِسالَة الإكليركيّ نيكيتاس إلى إمبرطور بيزنطية، قسطنطين السّابع بورفيروجينيتوس
حَدَثَ ذلكَ عام 947، إذ بَعدَ انتهاء خِدمَة النّور المُقَدَّس، كَتَبَ نيكيتاس رِسالَةً إلى الإمبرطور وَصَفَ فيها ما اختَبَرَهُ يَومَ السّبتِ العَظيم. جاءَ في المَخطوطَة أنَّه صَباحَ السَّبتِ المٌقَدَّسِ في 7 نيسان سنة 947، وَصَل أميرٌ من بَغداد إلى أورشليم. التَقى أوَّلاً بحاكِمِ أورشليم ثمَّ تَوجَّها معًا لِلِقاءِ البَطريَركِ الأرثوذكسيِّ في الكَنيسة. هناكَ أعلَنَ الأميرُ عن قَرارِهِ بِمَنعِ إقامَةِ خِدمَةِ النّورِ المُقَدَّسِ نَظَرًا لِتَأثيرها الكَبيرِ على العالَمِ الإسلاميّ، إذ إنَّ سوريا كلّها قد امتلأت حَسبَ قَولِهِ بالمسيحيّين بسَبَبِ هذه المُعجِزة التي وَصَفَها بالسِّحر. إلّا أنَّ إكليركيًّا مَسيحيًّا كان يَعمَلُ في مَكتَبِ أميرِ المَدينة، أخبرَ الأمير بأنّ مَنعَ إقامَة الخِدمَة سَيَجعَلُ مِنَ المُستحيلِ جَمعَ الضَّرائبِ المَفروضَةِ على المسيحيّين. كان نيكيتاس واقِفًا بِالقُربِ منَ البطريرك آنذاك، أمّا البَطريَركُ فقد أجابَ بِصَوتٍ هادِئٍ أنَّه على أيّامِ البَطرِيَركِ السّابِقِ (أثناسيوس الأوّل، 929-37)، أمَرَ المُسلِمونَ بِوَضعِ فتيلَةٍ نُحاسيَّةٍ في القِنديلِ المَوضوعِ قُربَ القَبر، لكَي لا تُتَمَّمَ المُعجِزَة، لكن رُغمَ هذه الخدعة اشتَعَلَ القِنديل. أخيرًا بعدَ المُفاوضات وافَقَ على أن يَدَعَهُم يُجرون الخِدمَة مُقابِلَ دَفع 7000 قِطعَة نَقدِيَّة ذَهَبيَّة على أن يُدفَع 2000 منها في اليومِ نَفسِه. إلّا أنَّه خِلالَ الاتِّفاقِيَةِ حَدَثَ شيءٌ غَيرُ مُتَوَقَّعٍ، اشتَعَلَ قِنديلانِ مَوضوعانِ في كَنيسَةِ القِيامَةِ مِن تِلقاءِ نَفسَيهِما. فَخَتَم البَطريركُ والحُرّاسُ المُسلِمونَ القَبرَ وبَدأت الخِدمَةُ فَورًا. وفي السّاعَة السّادِسَة من النّهار، عايَنَ البطريركُ القَبرَ المُقَدَّسَ فائِضًا بالنّور إذ إنَّ ملاكًا قَد سَمَحَ لَهُ بالدُّخولِ إلى داخِلِ القَبر، وفيما كانَ يستَعِدّ للخروج لإضاءَة شُموعِ الجَمعِ المُنتَظِرِ خارِجًا، رأى الكَنيسَة كُلّها تَفيضُ بِنورٍ إلهيٍّ غامِضٍ وَصفُه… وحقًّا امتلأ الجمعُ غَيرُ المؤمِنِ من المُسلِمينَ إعجابًا وخَجَلاً.
أوَّلُ شخصٍ عايَنَ النّور المقدَّس
يَقولُ متّى الإنجيليّ: “جاءَت مَريَمُ المَجدَلِيَّةُ ومَريَمُ الأُخرى لِتَنظُرا القَبرَ" (متّى 28: 1). مَن هي "مَريَمُ الأُخرى"؟ يؤكِّدُ آباءُ الكَنيسَةِ بِأنَّ مَريَمَ الأُخرى هي والِدَةُ الإله. وقَد أجمَعَ العَديدُ مِنَ القِدّيسينَ على هذا أيضًا، كالقِدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم، وإفرام السّريانيّ، ورومانوس المُرَنّم، وأمبروسيوس أسقف ميلان، وغريغوريوس بالاماس، ونيقوديموس الآثوسيّ. يَقولُ القِدّيسُ غريغوريوس بالاماس:
“بِالحَقيقَة، لَقَد تَلَقَّت والِدَةُ الإلهِ بُشرى قِيامَةِ الرَّبِّ قَبلَ الجَميع، كَما هو حَقٌّ وعادِل، وكانَت هي أوّلُ مَن رأى المَسيحَ القائِم، والاستِمتاعَ بِحَديثِهِ الإلهيّ… وكانَت هي الأولى والوَحيدَةَ التي لَمَسَت قَدمَيهِ الطّاهِرتَين، رُغمَ أنَّ الإنجيليّينَ لا يُعَبِّرونَ عَن كُلِّ هذا بِوضوح، مِن أجلِ ألّا يُبرِزوا والِدَتَهُ كَشاهِدَة، لكي لا يكون ذلكَ سَبَبٌ للشَّكِّ لِغَيرِ المُؤمِنين. بِتَعبيرِ "مَريَمُ الُأخرى"، قَصَدَ بِكُلِّ تَأكيدٍ والِدَةَ الإله...”
لَيلَةَ القِيامَة، ظَهَرَ الرَّبُّ لِلنِّسوَةِ فَقَط، لِوالِدَتِهِ وبَعدَها لِمَريَمَ المَجدَليَّة، بِهذِهِ الطَّريقَةِ كَرَّمَ وأعلى من شَأنِ المَرأة. جَلَبَت حَوّاءُ السُّقوطَ والألَم، أمّا حَوّاءُ الجَديدَة، والِدَةُ الإله، فَقَد جَلَبَت الرِّفعَةَ والفَرَح. كانَت والِدَةُ الإلهِ أوّلُ مَن عايَنَت المَسيحَ القائِمَ بازغًا كالنّورِ مِن أعماقِ الجَحيم. لَم تختَبِر هذا الشَّرَفَ العَظيمَ والفَرَحَ الأقصى فَقَط لِمُجرَّدِ أنَّها والِدَةُ الإله-الإنسان وكُلّيّةُ النَّقاوَة، بَل لأنّها قَبلَ ساعاتٍ لَيسَت بِكَثيرَة، اختَبَرَت الأَلَم الأعظَم، عِندَما شاهَدَت ابنَها يُصلَبُ على صَخرَةِ الجُلجُثَة. يَقولُ القدّيسُ غريغوريوس بالاماس:
"وَصَلَت والِدَةُ الإلهِ إلى القَبرِ عِندَما كانَ الحَجَرُ يَتَدَحرَجُ والقَبرُ يُفتَح… أعتقد في كُلِّ الأَحوالِ بأنَّ القَبرَ الحامِلَ الحَياةِ قَد فُتِحَ مِن أَجلِها، لأنّهُ مِن أجلِه أوَّلاً ومِن خِلالِها، كُلُّ ما في السّماءِ فُتِحَ مِن أجلنا".
يَشرَحُ القدّيس نيقوديموس الآثوسيّ أنّ بَهاءَ ومَجدَ المَسيحِ الإلهيَّين، سَطَعا في كُلِّ جَسَدِهِ القائِم، ومُعايَنَةُ هذا المَجد، ستُشَكِّلُ النّعيمَ الأَعظَمَ الذي سَتُعاينُهُ نُفوسُ الذين سَيَبلُغونَ المَلَكوت. ومَجدُ جَسَدِ المَسيح القائِم سَيَعبُرُ بِدَرَجاتٍ إلى أجسادِ النّاس غيرِ الفاسِدَةِ التي ستتمجَّدُ وتُضيءُ مَعَهُ يَومَ الدَّينونَةِ، إن وُجِدوا مُستَحِقّين. لذلكَ يَقولُ المَسيحُ نَفسُهُ: «حينئذٍ سَيُضيءُ الأبرارُ كالشَّمسِ في مَلَكوت أبي» (متّى13: 43.(
المرجع:
كتاب: النّور المُقَدَّس، أُعجوبَةُ نورِ القِيامَةِ عِندَ قَبرِ المَسيح، سَبعونَ شَهادَةٍ تاريخِيَّة، خاريس سكارلاكيديس.