أسبوع السّجود للصّليب

البطريرك تيخن (بيلّافين)

 

صفحة القدّيس غريغوريوس بالاماس

تعريب شادي مخّول

 

 

 

هذا مقال للقدّيس تيخن، بطريرك موسكو وسائر روسيا، لم يُنشر سابقًا. كُتبَ عندما كان لا يزال أرشمندريتًا في معهد خولم اللاهوتي، الموجود حاليًّا على الأراضي البولنديّة، ونُشرَ في مجلّة Beseda الدّوريّة الّتي تُطبَع في وارسو. أعدَّ النّشرة موظّفة في قسم التّاريخ الحديث للكنيسة الرّوسيّة في القرن العشرين، في مؤسّسة القدّيس تيخن الإنسانيّة، ناتاليا أليكساندروفنا كريفوشييفا.

الآن هو الصّوم الكبير. يُسمّى الأسبوع الرّابع بأسبوع "السّجود الصّليب". تُتطلَق عليه هذه التسمية لأنّه في الأحد الثالث من الصوم الكبير، يُخرَج الصليب ويُوضع في وسط الكنيسة ليكرّمه المؤمنون، ويبقى مكانه إلى يوم الجمعة. لماذا تطبّق الكنيسة هذه الممارسة؟

عندما يجد المسافرون في طريقٍ طويلةٍ وصعبة شجرة كبيرة ومورقة، فإنّهم يَجلسون تحت ظلالها، يستريحون هناك، ويُتابعون طريقهم بعد أن يَستجمعوا قِواهم. هكذا الكنيسة، تُقدّم الشجرة المعطية الحياة، صليب الرَّب، للّذين قطعوا شوط الصيام بالأعمال النسكيّة والتقشّف، من أجل إراحتهم وإنعاشهم وتعزيتهم.

فترة الصوم هي أوان النسك المضاعف وأعمال التقوى. إن كان هناك زمنٌ علينا أن نصلب فيه جسدنا مع أهوائه وشهواته، فهو زمن الصوم. يرتكز الصوم الحقيقيّ على إبعاد أنفسنا عن كلّ ما هو شرّير، وضبط ألسنتنا عن كلّ كلامٍ فارغٍ، خاصّةً الكلام الفاسد والبذيء، بوضعنا الكراهيّة والغضب جانبًا، وإبعاد كلّ الشّهوات الجسدانيّة والرّغبات. إنّ الإبتعاد عن كلّ تلك الامور، يجب ألّا يكون بالنّسبة إلينا، صومًا، أو جهادات مُكرَهة، بل العمل الأكثر ملاءمةً، الذي يجلب لنا السلام والفرح. مع ذلك، طبيعتنا هي عرضة للخطيئة، ولقد درّبناها على إنتهاك القوانين، وبالتّالي كلّ من أراد أن يكون حرًّا من الخطايا، يجد أن هذا العمل بعيد جدًّا من أن يكون سهلًا. بهدف تقوية المسيحيّين على الأعمال التي تُسرّ الله والزّهد، تُقدّم الكنيسة صليب المسيح المحيي من أجل التّعزية والتشجيع.

علينا أن نُحارب الخطيئة، وأن نصلب أهواءنا وشهواتنا، وأن نعاني. ألم يَخُض المسيح المخلِّص معركة شاقّة مع أتباع الشّرّير – الشيطان والنّاس الأشرار؟ ألم يُعاني منهم بقسوة؟ ألم يُصلَب؟ لكن بالرّغم من كلّ شيء، نحن نعاني من أجل خطايانا، نتلقّى ما نستحقّه؛ لكن جزيل الرّحمة، لم يعانِ من أجل خطاياه، بل من أجل خطايا الآخرين، من أجل خطايانا البشريّة.

لكي ننزع لدغة الخطيئة من جسدنا، علينا أن نسيطر عليها عبر الصوم، عبر ضبط النفس بصرامة تجاه كلّ ما يساعد على الإنغماس في الخطيئة. ألم يصم المسيح مدّة أربعين يومًا، بالرّغم من أنّه أخذ طبيعةً خاطئة؟ بينما كان يُطعم الآخرين عجائبيًّا، ألم يشعر بالجوع والعطش؟ تدعونا الكنيسة، خلال الصوم، إلى السهرانيّات والصلوات المكثّفة. ألم يكرّس المخلّص كلّ وقته، بعيدًا عن التعليم ومساعدة النّاس، للتحدّث مع أبيه، وأن يصلّي له بحرارة؟ هذا يعني أن طريقة الصّوم هي طريقة المسيح، ومن أراد أن يخدمه عليه أن يتبعه أيضًا؛ لقد وعده المسيح بالبركات والمجد لقاء ذلك، "فحيث يوجد الصليب، هناك أيضًا يوجد المجد".

بفهمنا للصليب لا نوحّد فهمنا للآلام وحسب،  بل للمجد أيضًا، الذي يأتي بعد الآلام. هكذا، احتمل المخلّص آلام كثيرة على الصليب. البريء حُكم عليه بميتةٍ مخزية، وسُمِّرَ على الصليب؛ تُوِّجَ بتاجٍ من شوكٍ، وطُعنَ جنبه بحربة. إحتمل السّخرية والتشنيع، وإختبر عذاباتٍ فظيعة. لكن في الوقت عينه، على الصّليب، أتّم ذلك العمل العظيم، الذي هو خلاص البشر، من أجل ذلك أتى إلى الأرض، وبهذا لا يتمجّد بمفرده، بل يقود الآخرين أيضًا إلى ملكوت المجد، ممجّدًا الصليب بذاته. منذ ذلك الحين لم يعد الصليب أداة إعدام مخزية بل العكس، أصبح أحبّ وأقدس شيء بالنسبة للمسيحيّين. بالتالي، فالمسيحيون أيضًا بسلوكهم درب الجهادات النسكيّة وبصراعهم ضدّ الخطيئة، إذا حملوا صليبهم بطاعةٍ وحماسة، يتعزّون بالرّغم من الاضطرابات المختلفة، والحرمان، وخيبات الأمل، وما شابه ذلك. ملكوت الله يُغتَصب، والّذين يغتصبونه، ينالونه بقوّة الله. إذا شاركوا آلام المسيح، سيشاركونه في مجده أيضًا؛ إذا ماتوا معه، سيقومون معه.

لكن قوّة صليب المسيح الممتلئة نعمةً لا تجلب القوة والتعزية للمستنيرين بالصّوم وحسب، إنّما تلمس قلوب الّذين يستمرّون بحياة الخطيئة والفساد خلال فترة الصوم، وتُوقِظهم من نوم الخطيئة الثقيل. ربّما نظرة ٌ إلى الإله المتجسّد والمتألّم بالجسد، الذي احتمل الموت على الصّليب من أجل خطايانا، ستذكّر الذين يسمّون أنفسهم مسيحيّين أنّهم إعتمدو بموت المسيح، وأنهم ملزمين أن يخدموا الرَّب لا عالم الخطيئة، ولا أهوائهم وشهواتهم! لعلّ نظرة ً إلى أداة معاناة إبن الله الرهيبة، ستحرّك قلب أحدهم، وستولّد فرصةً للخلاص في أفكاره ومشاعره! لعلّه سيُعثَر على تلك النّفوس، مهما كانت خاطئة، لكّنها لم تصل إلى العمي الكامل أو تحجّر القلب، سيعودون من الكنيسة كما فعل كثيرون على الجلجلة، يقرعون صدورهم.

عسى أن تتحقّق آمال الكنيسة المقدّسة هذه وأن تتبرّر، وأن يُقدّم لنا صليب المسيح الخلاص.

 

 

المرجع:

http://orthochristian.com/101924.html