التعبير الفعليّ عن محبّة الربّ

الشيخ يوسف الفاتوبيذي

ترجمة كرم بشور

 تُكرِّم كنيستُنا القدّيسَيْن العظيمَيْن بولس الطِّيبِيّ، ويوحنا كاليفيتيس. سِيرَتا حياتِهما غريبتان بعض الشيء، إلّا أنهما مناسِبتان لنا نحن كرهبان. فالأول كان من بين الاوائل الذين أصبحوا رهباناً. في الواقع، كان قد تخلّى عن العالم وذهب الى القَفر منفرداً. كلاهما عاشا وحيدَيْن مع الرب، الامر الذي كان غير مألوف ونادر في تلك الايام. بمعنى أنهما كانا رُوّاد طريقة الحياة هذه. أما الآخر(يوحنا كاليفيتيس) فقد عاش في وقت لاحق بعد بولس. كان طفلاً صغيراً حين ترك المنزل ليصبح راهباً، مشتعلاً بالحَماسة. بعد بضع سنوات، ترك دَيْره وعاد الى منزله، لكنه بقي على عتبة الباب، مُجاهِداً بما يَفوق الطاقة البشريّة وأنهى حياته هناك.

يتساءل المرء أحياناً. ما الذي أعطاهم قوة كهذه ليُكابِدوا هذه الجهادات التي تفوق الطاقة البشرية؟ في الواقع هذا الذي يَهُمُّنا. ينتهي بنا المطاف أحياناً بالتساؤل: لماذا لا يمكننا فعل هذا؟ كيف يمكنهم فعله؟ حتى أننا نتأمل في حالات الشهداء الذين كانوا بشراً مثلنا، لنكتشف كيف استطاعوا أن يتحمّلوا هكذا تجارب مُرعِبة، قد ننصدم لِمُجَرَّد سَماعِها؟ هل يستطيع أحدٌ أن يقول أن هذه القصص مُبالَغ بها؟ لا يمكننا مُجَرَّد التفكير بذلك. بالتالي ما هو السر؟ بإسم مَن تمكّن هؤلاء البشر المصنوعين من لحم أن يُحَقِّقوا هذه الانجازات؟

من الواضح، التفسير الأول هو أنهم أنجزوا هذه الاعمال البُطوليّة بواسطة النعمة الالهيّة. إلّا أننا نتساءل ثانيةً: هل كان الرب حاضراً فقط مع هؤلاء؟ هل هو غائب في الأجيال الأخرى؟ هل الرب غير عادل؟ هل اختار بعض الناس لِيُقَوِّيهم ويعضدهم ويترك الآخرين؟ هذه الاسئلة قد تُطرَح دائماً. الرب هو الذي يهب نعمته ويصنع "آيات وعجائب" إلّا أن الانسان هو الذي يجعل النعمة تعمل. بالتالي، هذا الانسان نفسه بمساعدة النعمة يعمل الأعمال التي تفوق الطاقة البشريّة. بناءً على هذا، ما هو السبب الرئيسي وراء كل ذلك؟ ما هو السبب الذي يجعل النعمة الالهية تعمل؟ سوف نجد الجواب في كتابات الآباء القديسين. دار مرةً حديثٌ بين القديس بولس الطّيبِي والقديس أنطونيوس. فسأل الأول القديس أنطونيوس قائلاً: "لماذا انت معروف أكثر مِنّي مع أنني قد خُضتُ مَعارِك شَرِسة أكثر منك؟" من الواضح أن حديثهم لم يكن لمنفعتهم الخاصة بقدر ما هو لمنفعتنا، حيث أننا سوف نتعلّم منه لاحقاً. أجاب القديس أنطونيوس: " أنه بكل بساطة لأنني أحبُّ الله أكثر منك. أصبح إسمي معروفاً أكثر منك فقط لأنني أحب الله أكثر منك."

الآن بدأ السّر ينكشف. فالذي يعمل أكثر هو الذي يحب الله أكثر، وتُؤَثِّر فيه النعمة أكثر. هذا هو الأساس. عَمَليّاً، كيف أننا إذا أحببنا الله أكثر تنمو النعمة فينا وتساعدنا في تَخَطّي الطُّرُق الرديئة التي تُعيق تَقَدُّمَنا الروحيّ؟ هذا هو السؤال الأنْسَب لنا نحن الرهبان.

إذا أرَدْنا أن نُظهِر كم نُحِبُّ الله فعلاً، علينا أن نُطيع وَصاياه. "الذي لا يُحِبُّني لا يحفظ كلامي" (يوحنا 24:14). وأيضاً " الذي عنده وصاياي ويحفظها فهو الذي يُحِبُّني" (يوحنا 21:14). أستطيع القول الى حَدٍّ بعيد بأن السبب الأساسي هنا إنّما هو التعبير عن حُبِّنا لله، لقد سمعنا هذا من آبائنا وهو جَدير بالحفظ. هذا التعبير (عن الحب) إنّما يبدأ في ذِكر الله. شخصٌ يقول أنه يحب الله ولكن لا يَتَذَكَّرُه هو كَمَن لا يقول الحقيقة. لدينا جميعُنا مثل هذه التجربة. يتمسّك ذِهنُنا إمّا بموضوع حُبِّنا أو بما يستحوذ أهتمامنا. إذا كُنّا حَقّاً نريد أن نحب الله، فنحن مضطرّون أن نرغم أنفسنا على ذِكْرِه باستمرار. علينا أن نفعل ما يقوله القديس غريغوريوس اللاهوتي: "أنه الأفضل أن نَتَذَكَّر الله من أن نتنفّس."

هذه هي اللأُسُس للإجابة على الأسئلة أعلاه. الأسرار التي كانت مُبْهَمة قد انكشفَتْ الآن أمامنا. من الواضح أن الآباء الأوّلون كانوا أكثر التزاماً  بالعمل الجادّ وكانوا يملكون قوة أعظم. هم أنفسهم يكشفون أنهم دخلوا في صراع مع هذا الإلتزام بالعمل الجادّ وعاشوا في ظروف قاسية. ليس فقط بدون استسلام لأي لَذّة أو غرور، انما لم يَنْصاعوا حتى لِضَرورات الحاجة. بهذا الشغف للعمل الجاد، من المؤكد أنهم وَجَدوا أحداً مَن بِذِكْرِه يستطيعون الاستمرار. لهذا السبب ركَّزوا بشكل خاص على موضوع الصلاة الذهنية والجوهر. وكانوا يُقَدِّرون الأولى تقديراً عالياً. ونحن قد تسلَّمْنا هذه الأمور وهي مؤاسِية جِدّاً ومُبهِجة. في الواقع نحن ضعفاء أكثر من آبائنا الذين سَبَقونا، لا نملك نكران الذات ولا أي قدرة. مع ذلك نَرجو أن نَخلص – يجب أن نَخلص بكل تأكيد – إلّا أن أهواءنا أقوى فنحن ضعفاء ولا نملك نكراناً للذات. للأسف، إننا نرتكب المَزيد من الخطايا. بالتالي علينا التَّخَلُّص من أهوائنا إذ أن وُجودَها يُعيق خلاصَنا. فَعَلَيْنا إذن أن نُسرِع لنجعل النعمة تعمل حتى تساعدنا وتحرِّرنا من العبوديّة لأهوائنا وضعفاتنا وتَهدينا الى خلاصنا.

بالتالي، نحن نحتاج أكثر من أسلافنا أن تستقرّ النعمة الالهيّة فينا وتعمل في داخلنا سواء من حيث النَّوعِيّة والكَميّة. مطلوب مِنّا فقط التعبير عن حُبِّنا لله بواسطة هذه الوسائل، أعني تَذَكُّرَه. إذن علينا أن نُرْغِم أنفسنا على ترداد الصلاة الذهنية. اذا أراد أحدٌ أن يَتَذَكَّر الله باستمرار، فليس هناك من وسيلة أفضل من هذه. جميع الفضائل هي بطريقة ما المَمَرّات والطُّرُق التي تقودُنا نحو الله، نحو تَذَكُّرِه، نحو علاقتنا به. لكن ليس هناك من فضيلة أعظم من الصلاة الذهنيّة لِتَقودَنا مُباشرةً وفِعليّاً نحو تَذَكُّر الله. هذا هو السبب الذي جعل آباءنا الذين عِشْنا معهم يُصِرّون على هذه المسألة. وإذا سألتموني، أنا أيضاً اقول لكم أننا كَرُهبان يجب علينا أن نلتزم هذه الصلاة على رأس كل النذور الأخرى التي قَطَعناها. قد نتساهَل ببعض الأمور الأخرى لكن ليس بهذه. كُلُّنا قادرون أن نُثابر عليها، اذا أردنا. سواء وقوفاً أو جلوساً، سواء كُنّا مرضى أو أثناء  العمل، نمشي أو نأكل أو مهما نفعل، يجب علينا ترداد الصلاة طالما نحن مستيقظون لكي نتمكن من تَردادِها في نومنا. بالنسبة للذين أحرزوا تَقَدُّماً روحيّاً، تعمل الصلاة الذهنية حتى أثناء نومهم. عليكم أن تَكونوا يَقِظين وأن تستمِرّوا في المحاولة. يجب ألّا تستسلموا بأي شكل من الاشكال. فلنذهب الى قَلالينا الآن ونستمر بِتَرْدادِها. سوف نواجه بالطبع مُعانَدة وتجارِب، نعلم هذا. فمن الممكن أن نحرز تَقَدُّماً ونشعر بالسلام لليلة أو اثنتين، أسبوع أو أسبوعين. هذا ربما لن يدوم، فقد ينقطع. سوف يأتي النُّعاس أو شتى الأفكار وآلاف العَثَرات، التي اختبرناها جميعُنا. فمن غير المعقول أن نخاف ونحن نعلم مَن سيأتي، ونعلم من أين سيأتي وما الذي يبحث عنه. كما نعلم أن غايتنا هي المحافظة على ذِكر الله وعلى هذا نُشَدِّد. إن  كان لا يَدَعُنا نَقِف؟ فلنَجْلِس. إن  كان لا يَدَعُنا نجلس أو يجلب لنا النُّعاس؟ فسوف ننهض ثانيةً. إن  كان لا يَدَعُنا نقف؟ فيمكننا أيضاً أن نَمشي. إنه يأتي كي يُمارِس حَرْبَه علينا، فتستولي علينا شَتّى أنواع الأفكار. نَتَوَقَّف لِثانية كي نَتَحَدَّث مع أنفسنا أو بالأحرى نقول للذي يُحارِبنا:" ماذا تريد مِنّي؟ لن أستسلم. لم آتِ الى هنا صُدْفَةً. أنا مُدرِك تماماً لِمُهِمّتي، كما أعلم جيداً بأنني راهب. لن أتراجع. هذا واجبي. أنا أحب يَسوعي، وهو الذي طلب الي أن أتبعه، وسوف أستمرّ في اتّباعِه. لن أدعَك تَمنعني."

بهذه الطريقة، نَشُدُّ العزم وننال بعض الجُرأة ونُواصِل طريقنا. هل تَوَقَّفَ الذهن عن الصلاة؟ هل هو مضطرب بأفكار مُتَعَدِّدة؟ لا يَهُمّ. فالشفاه تُصَلّي. الشفاه لن تتوقف. ستستمر في ترداد الصلاة وتصرخ: " نعم أيها الشيطان. لن تَدَع الذهن من أن يُرَكِّز على الصلاة؟ سوف أصرخ بِشَفَتَيّ. فَرَبّي يفهم أيضًا حركة يديّ. سأُصِرُّ وأدعوه وهو سيأتي ليخلِّصَني. "هِيجُوا أَيُّهَا ٱلشُّعُوبُ وَٱنْكَسِرُوا، وَأَصْغِي يَاجَمِيعَ أَقَاصِي ٱلْأَرْضِ. ٱحْتَزِمُوا وَٱنْكَسِرُوا! ٱحْتَزِمُوا وَٱنْكَسِرُوا! تَشَاوَرُوا مَشُورَةً فَتَبْطُلَ. تَكَلَّمُوا كَلِمَةً فَلَا تَقُومُ، لِأَنَّ ٱللهَ مَعَنَا.” (اشعياء 8: 9-10)

اذا استمرَّيْنا على هذا النحو، كونوا مُتَأكِّدين أنّنا سوف ننجح إذ ان حياتَنا مُنْتَظِمة بفعل العناية الالهية، وهذه لا يمكن أن تكون زائفة. ألَيْسَ مُخْزٍ لنا كيف أن طفلاً ذا إثنا عشر سنة كالقديس يوحنا كاليفيتيس عندما أصبح راهباً عاد وحَطَّم قوة الشيطان بنكران الذات، إنه لَمِن المُرْهِب سَماع هذا. أي نوع من الأطفال كان؟ هل كان مِثلَنا؟ نحن الذين كُنّا مُزارِعين وعُمّال وقد اختبرنا حياة قاسية؟ وانظروا ما قد أحرزه! لقد أثار النعمة الالهيّة بنكران ذاته وقد مَنَحَتْهُ العديد من المكافآت.

ونحن أيضاً نسعى لِنَنال هذه النعمة ذاتها. فالقديس بولس الطِّيبي نالها منذ البداية من دون إدراك ذلك. لقد تجاسر على الذهاب الى القَفْر مُنفرِداً بدون رفيق ولا مَشورة ولا خِبرة أو معرفة، وقاوم مجموعة من الشياطين بدون أي خوف، في مواجهة إغراءات لا تَكِلّ. لم يتراجع الى الوراء، كان لديه ايمان بالرب وكان يقول لنفسه: "إنه من غير المُمكن. لقد بدأتُ هذا من أجل الرب. فمن غير الممكن أن يتخلّى عَنّي." وقد نجح فعلاً.

 

 

http://pemptousia.com/2017/03/the-practical-expression-of-love-towards-the-lord-ch-7/