الغَيور


الغَيور.

المطران سيرافيم، متروبوليت كاستوريا.

نقلتها إلى العربيّة: يولّا يعقوب.

 

عندما يقفُ الإنسانُ أمام النّبيّ إِيلِيَّا النّاريّ، شخصيّةِ العهد القديم العظيمة، لا بدّ من أن يدركَ أنّه يمثلُ أمام رجُلٍ فاضلٍ ذي صفاتٍ حميدةٍ، له دالّةٌ لدى الله؛ لأنّ السّماءَ قد أُغلِقَت بِصلواته ثلاثَ سنين وستّة أشهرٍ لم تُمطِر خلالها، حسب نصّ العهد القديم.

وعليه، يصفُه القدّيسُ يوحنّا الذّهبيُّ الفمِ، قائلًا إنّه حامِلُ مِفتاح السّماء، لأنّه، كما يقولُ عنه: «قد أغلقَ السّماواتِ».

لقد كانت غيرتُه لله، سمتَه المميّزة.

«قَدْ غِرْتُ غَيْرَةً لِلرَّبِّ إِلَهِ ٱلْجُنُودِ، لِأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ تَرَكُوا عَهْدَكَ...» هذا كان ردُّه على الرّبِّ عندما سألَه: «مَا لَكَ هَهُنَا يَا إِيلِيَّا؟» (الملوك الأوّل 19: 9 - 10).

لكن، ما الغَيرةُ لله؟ إنّها القوّةُ الدّافعةُ لِكلّ عملٍ صالحٍ. وهي عطيّةٌ من الرّوح القدس.

الغَيرةُ تعني الحمِيّةَ، والحماسةَ، والبهجة. ولذلك، هي تُشَبَّهُ بِالماء الغالي، وتؤدّي عملًا عظيمًا. إنّها تعني قلبًا مُلتهِبًا بِالإيمانِ الرّاسخِ.

حسب القدّيسِ يوحنّا الذّهبيِّ الفَمِ، يكونُ الغَيُورُ لله روحانيًّا، ويُطيعُ صوتَ اللهِ باختيارِه، ويعملُ مشيئتَه بِنُكرانِ ذاتٍ وبِتَفانٍ. وتنبعُ هذه الغَيرةُ مِن محبّةِ الله، وهي بعيدةٌ كلَّ البُعدِ مِن الدّوافعِ الأنانيّة، وهي صريحةٌ وواضحةٌ.

من دون هذه الغَيرة، لا يمكنُ لأحدٍ أن يَسعى في طَلَب ملكوتِ الله، أو أن يدخلَه، لأنّه، كما يقولُ القدّيسُ يوحنّا الإنجيليُّ، في الإصحاحِ الثّالثِ من سفر الرّؤيا: «اللهُ مُزمِعٌ أن يتقيّأ الفاترَ مِن فَمِهِ».

بِماذا تنفعُ هذه الغَيرةُ؟ إنّه تساعدُ الإنسانَ على أن يضعَ مجدَ اللهِ في ذهنِه دائمًا، وأن يدركَ ملكوتَه. لا يكونُ التّعبيرُ عن هذه الغَيرةِ، بِاحتفاظِ الإنسانِ بِإيمانه لِنفسه فقط، وبِعدم وَضعِ السِّراج «تَحْتَ ٱلْمِكْيَالِ» (متّى 5: 15)، إنّما بِتقديمه للنّاس كلّهم.

لذلك كان النّبيُّ، المُمتلئ بالغَيرة الإلهيّة، لا يُطيعُ سوى أوامرِ الله، الّتي كان يُعَرِّفُ النّاسَ في عصرِه إليها، حتّى يتمكّنوا من الانعتاقِ من الوثنيّة، واتّباعِ الإله الحقّ.

لم يَجزَع النّبيُّ، الّذي تُحَرِّكُه الغَيرةُ لله، حتّى من أن يُوَبِّخَ أَخْآبَ الجبّار صاحبَ السّلطان. وَلَمَّا رَأَى أَخْآبُ إِيلِيَّا قَالَ لَهُ أَخْآبُ: «أَأَنْتَ هُوَ مُكَدِّرُ إِسْرَائِيلَ؟» فَقَالَ: «لَمْ أُكَدِّرْ إِسْرَائِيلَ، بَلْ أَنْتَ وَبَيْتُ أَبِيكَ بِتَرْكِكُمْ وَصَايَا ٱلرَّبِّ وَبِسَيْرِكَ وَرَاءَ ٱلْبَعْلِيمِ (الملوك الأوّل 18: 17 - 18). تتميّزُ غيرتُه بِالثَّباتِ.

هو لا يشبهُ الإنسانَ الّذي يؤثّرُ في الآخرين، ويخلقُ لديهم انطباعًا قويًّا، وبعدَها يهمدُ ويندثرُ. لم تكن لديه مصالح لِيحقّقَها، ولم يكن أنانيًّا البتّة.

إنّ الغيورَ، المُندَفِعَ بِالغَيرةِ الإلهيّةِ والمقدّسةِ، لا يُخفِضُ رايةَ إيمانِه مُطلقًا، من أجل أن يَنالَ إعجابَ الآخرين، أو لِيُهَلَّلَ له، أو لِيُلَقَّبَ بِالمخلِّص، أو لِيتحدّثَ عنه النّاسُ، أو لِيكون مِن بين الّذين ينصِّبون أنفسَهم شيوخًا.

وتظهرُ غيرتُه أكثر، عندما يكونُ مُهَدَّدًا ومُضطَهَدًا. تَشتَمِلُ هذه الغَيرة على المُواظَبَةِ، والثَّباتِ، والشّجاعةِ، وبِخاصّةٍ على حضورِ الله. تتّصفُ هذه الغَيرةُ بِالتَّمييزِ أيضًا.

يستخدمُ الغيورُ الفضيلةَ كَنِبراسٍ في حياتِه، فَيَسلُكُ من دون خَوفٍ، ومن دون تَهَوُّرٍ. لا يتكلّمُ بناءً على أوامرِه الخاصّة، إنّما على أوامرِ الله فَحسب. كانَ ردُّ النّبيِّ: «قَدْ غِرْتُ غَيْرَةً لِلرَّبِّ إِلَهِ ٱلْجُنُودِ». للّرّبِّ وحدَه.

لهذا السّبب، إنّ شخصيّةَ النّبيّ إِيلِيَّا الاستثنائيّة، بِغيرَتِه اللّافتة، وقلبِه النّاريّ، ونفسِه الباسِلة واعترافِه بالحَقّ، لم تمرَّ عبرَ بابِ الموتِ الطّبيعيّ الّذي لنا جميعًا، من أجل أن تنتقلَ إلى ملكوت الله، ولكنّ النّبيَّ النّاريَّ صَعِدَ على مركبةٍ ناريّةٍ إلى السّماء، مُتَّجِهًا إلى الموطنِ الأبديِّ.

يُوَجِّه إلينا هذا الموضوعُ اليومَ رسائلَ معيّنةً. لا يُمكننا أن نعيشَ بِفُتورٍ. لا يُمكن أن تكونَ شعلةُ قلوبِنا خامِدةً، وهي شعلةُ محبّتِنا لله، ولِأخينا الإنسان. بِالإضافة إلى ذلك، لا يُمكننا، بِصفتِنا مسيحيّين، أن نبشّرَ العالمَ كما ينبغي إلّا بِالغَيرة. لا يُمكننا أن نصارعَ «وُلاةَ ورؤساءَ الظّلمةِ» (أفسس 12:6) إلّا بِالغَيرة.

بِالغَيرةِ وحدَها، نستطيعُ أن نحافظَ على «الإيمانِ المُسَلَّمِ مرّةً للقدّيسينَ» (يهوذا 3:1)، وعلى تقليدِنا، وعلى الاعترافِ بِاسم المسيحِ، وعلى محبّتِنا لِبَلَدِنا.

https://www.johnsanidopoulos.com/2013/07/the-zealot.html


 



آخر المواضيع

تَقريظٌ لقطع رأس النّبيّ السّابق المجيد يوحنّا المعمدان
الفئة : مواضيع متفرقة

القديس ثاودوروس الستوديتي 2024-08-28

مَحبَّةُ الذّات: هوى عصرِنا الحاضر
الفئة : مواضيع متفرقة

المتروبوليت إيروثيوس أسقف نافباكتوس 2024-08-25

النشرات الإخبارية

اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني

للإتصال بنا