التجلّي وخبرة معاينة الله


التجلّي وخبرة معاينة الله

الأرشمندريت غريغوريوس اسطفان

نقلاً عن نشرة الكرمة، عدد 32، 6 آب 2023

 

يأخذُ حدثُ التجلّي مكانةً عظيمة في لاهوت الكنيسة. إن الابن الوحيد المولود من الآب أزليًّا، ومن مريم العذراء في الزمن، يتجلّى بالروح القدس، يكشف مجده الأزليّ في طبيعتنا البشريّة التي لبسها في التجسّد. وهذا يكشف عن الاتّحاد الكامل لطبيعته الإلهيّة مع الطبيعة البشريّة في أقنومه الإلهيّ. بظهور موسى وإيليّا معه، واشتراكهما في هذا المجد، كشف الربّ يسوع المسيح نفسه أنّه الأزليّ سيّد الموت والحياة، سيّد الماضي والحاضر وما سيأتي. ظهور موسى وإيليّا، اللذين كانا رمزان للغيرة على الإيمان بالإله الواحد، وعلى تطبيق وصاياه وخلاص الشعب، أظهر أن المسيح هو حقًّا غاية كل ما تحدّث عنه الناموس والأنبياء، إنّه كمال الشريعة والأنبياء.

تكلّم آباء الكنيسة عن خبرة التجلّي أنّها ليست سوى خبرة معاينة الله، في نور الله غير المخلوق. إنّ الله يكشف ذاته للبشر كنور، لا في الجروحات ولا في الدماء ولا في خبرات البدع والمشعوذين. في النور والنار كشف الله في العهد القديم عن مجده الأزليّ. وجه موسى شعّ بالنور في جبل سيناء، وعاين هذا المجد أيضًا كنارٍ في العلّيقة غير المحترقة (خر2:3). إيليّا النبيّ أيضًا عاينه بشكلِ مركبةٍ ناريّةٍ (2مل11:2). وفي العهد الجديد نرى قوّة هذه الخبرة في وجه استفانوس، أوّل الشهداء، وفي رؤيا بولس الرسول على طريق دمشق. هذا النور ليس سوى خبرة تألّه الإنسان، وخبرة اتّحاده بالله.

معاينة نور ثابور الإلهيّ، كانت نبوءة اسخاتولوجيّة؛ خبرة الحياة الأبديّة، التي تُعطى في خبرة هذا الدهر الحاضر. التقليد الآبائيّ كلّه يصف هذا النور أنّه غير مخلوق؛ وأنّ اختبار هذا النور ليس سوى اختبار لملكوت الله. إنّه "حقًّا نور الدهر الآتي"، ومعاينة لمجد الله، مجد الثالوث نفسه. فالمجد الّذي وهبه الآب للابن، وهبه هو أيضًا لمن آمنوا وأطاعوا. يُعرّف القدّيس غريغوريوس بالاماس عن طبيعة هذا النور هكذا: "هذا النور السرّي، غير المدنو إليه، غير المخلوق، والمؤلِّه، والأبديّ، بهاءُ الطبيعةِ الإلهيّة، ومجدُ الألوهة، وجمالُ الملكوت السماوي، تُدركه الحواسّ، مع تجاوزه للحواسّ". ويُشدّد قدّيسنا "أنّ المسيح نفسه الّذي شعّ بالنور سمّى هذا النور ملكوت السماوات". إنَّ خبرة اتّحاد الإنسان بالله، تعني أنّ هذا النور هو "الحياة الأبديّة قد حلّت في الإنسان المؤلَّه دون أن تنفصل عن الله".

في الأرثوذكسيّة، لم تتوقّف معاينة هذا النور واختباره في الكاملين في الإيمان والتوبة. إنّه يُنير منذ الآن الذهن الّذي يُصلّي ويتنقّى بدون توقّف. فمعاينة هذا النور لا يستحقّها الإنسان إلاّ بعد جهادٍ طويلٍ في النسك وغلبة الأهواء الشرّيرة، مع الشياطين التي تُثيرها؛ والتحرّر من كل تعليم كاذب وفكر هرطوقيّ يُحطّم قوّة الإيمان المقدّس في النفس. إنّ تحرّر النفس من الأهواء تتطلّب التركيز الكليّ في الصلاة النقيّة، أو الخالية من التخيّلات. وتبقى الصلاة مكان اختبار كل العطايا الروحيّة، لهذا يقول الإنجيليّ، أن التجلّي حصل "حين صعد ليصلّي". لهذا الصلاة ليست واجبًا إنّما حاجة للنفس التي فقدت بصرها بالخطيئة، لتستنير بهذا النور الإلهيّ؛ النور الّذي وحده يرفع هذا البرقع الّذي وضعته حالة السقوط على عينيّ النفس. التجليّ يعيشه المؤمنون بتجديد أذهانهم، في تسليم مشيئتهم لمشيئة الله عبر طاعة الإيمان والوصايا. هكذا يبلغون إلى اتّحاد ذهنهم بذهن المسيح (رو2:12).

ويشرح القدّيس غريغوريوس بالاماس حالة النفس التي غلبت الأهواء واستحقّت النعمة، فيقول: "حين تقتني السلام وهدوء الأفكار والراحة والفرح الروحيّ وازدراءَ المجد البشريّ والإتضاع المَقرون بابتهاجٍ خفيّ، وبغض العالم وعشق السماويّات بل عُشقُ الله السماويّ وحده". أولئك الّذين غلبوا الخطيئة والفساد، ونجوا من الموت الروحيّ، يُعطيهم الروح هذه الحالة من اللاهوى والاستنارة الروحيّة، ليعاينوا ملكوت الله في النور الأزليّ. "ونحن جميعًا ناظرين مَجد الرّبّ بِوجهٍ مكشوفٍ، كما في مِرآةٍ، نَتغَيّر إِلى تلك الصّورة عينها، من مجدٍ إلى مجدٍ" (2كور18:3).

هذه الرغبة برؤية الله كانت دائمًا شوقًا ملتهبًا في الإنسان منذ القديم. لكنّها رغبة لم تتحقّق إلا بشكل جزئيّ لرجال العهد القديم. هذا هو معنى قول المسيح لليهود: "أبوكُم إبراهيم تَهَلّل بأن يَرى يومي فرأى وفرِح" (يو56:8). فكلّ الّذين عاينوا هذا النور قبل موت المسيح وقيامته، عاينوه تدبيريًّا "من الخارج". كالرسل الّذين صعدوا مع يسوع إلى جبل ثابور. هذا يُفسّر لماذا "سقط التّلاميذ على وُجوهِهِم وخافوا جدًّا" (مت5:17-6)، غير قادرين على احتمال صوت الآب والسحابة. هؤلاء احتاجوا إلى نعمة خاصّة من الربّ ليستطيعوا أن يتقبّلوا هذه المعاينة. لهذا غير المسيحيّين، مهما كانت درجة نسكهم الجسديّ، مستحيل من دون المعموديّة وتجديد قواهم الروحيّة معاينة هذا النور، إلا تدبيريًّا لأجل اهتدائهم إلى المسيح، كما حصل مع بولس. فإذا لم يهتدوا، كالصوفيّين غير المعمَّدين، الّذين يُعاينون أنوارًا، فإنّ ملاك شيطان سيتّخذ شكل ملاك نور ويُضلّهم. في المعمَّدين فقط، الّذين يشتركون في جسد المسيح ودمه بتوبة كاملة، تتجلّى الحياة الأبديّة فيهم، في هذا الزمن الحاضر؛ ويتحقّق ملكوت الله في داخلهم. هذه حالة القدّيسين في حياتهم على الأرض، الّذين انتظروه وينتظرونه في كلّ زمن، فعَّلوا نعمة المعموديّة في إنسانهم الداخليّ، فعاينوا مجد الله في نور إلهيّ غير مخلوق، ليس من هذا العالم. ويتحقّق فيهم وعد المسيح: "وأنا قد أعطيتُهُم المجد الّذي أعطيتَني" (يو22:17).

هذا الاشتراك في نور المسيح يسبقه اشتراك في صليبه. هكذا نفهم كيف تكلّم موسى وإيليّا عن الآلام أمام هذا المجد الإلهيّ. الذهبيّ الفم يقول إنّ المسيح تجلّى ليظهر مجد الصليب. ارتباط الصليب بالقيامة هو ارتباط بملكوت الله. لن يتمجّد أحد إلا عبر الصليب، أي الإشتراك بكلّ ما عمله المسيح لأجلنا. لقد أتت الكائنات البشريّة إلى الوجود لا للتمتّع الوقتي بخيرات وأمجاد هذا الدهر، إنّما لتظهر في أجسادهم علامات الصليب. علامات الصليب هي شرط مُسبق لأجل الاشتراك الأبديّ في حياة الله ذاته، وفرحه ومجده غير المخلوق. أجسادنا ذاتها، عند قيامة الأبرار، التي تطهّرت بأتعاب النسك والصلاة الروحيّة والأصوام، سترتسم عليها علامات الصليب كوشم وختم سماويّ، وستشارك في هذا المجد النوراني وتُصبح هي نفسها أجسادًا نورانيّة روحيّة. فجسد المسيح الماديّ صار روحيًّا في التجلّي حين اخترقته أشعّة نور لاهوته الإلهي. وهذه ستكون حالة الجسد الّذي سنقوم به بعد أن يكون قد تنقّى وتمجّد بنور الله. عن الشركة في هذا النور قال المسيح، "سيشعّ الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم" (مت43:13).


 



آخر المواضيع

آباء الفيلوكاليا
الفئة : عظات اﻷرشمندريت غريغوريوس اسطفان

الأشمندريت غريغوريوس اسطفان 2024-10-12

من هم الروم الكاثوليك؟ (1724 - 2024) (3/3)
الفئة : عظات اﻷرشمندريت غريغوريوس اسطفان

الأرشمندريت غريغوريوس اسطفان 2024-06-29

من هم الروم الكاثوليك؟ (1724 - 2024) (2/3)
الفئة : عظات اﻷرشمندريت غريغوريوس اسطفان

الأرشمندريت غريغوريوس اسطفان 2024-06-28

النشرات الإخبارية

اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني

للإتصال بنا