التوبة
لماذا لا يتوب المسيحيّون في الزمن المعاصر؟
لماذا لا يتوب المسيحيّون في الزمن المعاصر؟
الأرشمندريت غريغوريوس اسطفان
نقلاً عن نشرة الكرمة، عدد ١٩، ٧ ايار ٢٠٢٣
لماذا تنهار أمم وتنشأ أمم جديدة؟ لماذا اختفت أمم مسيحيّة عديدة ونشأت مكانها أمم أمميّة؟ في الزمن الأخير ستصارع المسيحيّة لأجل البقاء، حيث العالم كلّه سيجتمع "على الربّ وعلى مسيحه". البقاء في الوجود هو البقاء في الإيمان الحقيقيّ بيسوع المسيح.
لماذا يتخلّى الله عن شعبه؟ ألأنّه إله منتقم؟ حتمًا لا، إنّما إلهًا كاملاً يريد أبناء كاملين، يُحرّكهم شوق إلى بلوغ الكمال. أبناءً يحفظون بأمانة وصاياه وكلّ وديعة الإيمان. إلهنا لا يريد من شعبه سوى شيئًا واحدًا: الأمانة؛ أن يُطيعونه بإيمان ولا يكذبون عليه، أن لا يتظاهروا بالتقوى ويعيشوا بالخطيئة؛ أن لا يتكلّموا عن إنكار الذات وهم يعيشون بالأنانيّة وشهوات حبّ السلطة والمجد الباطل؛ أن لا يتفاخروا بالأرثوذكسيّة ويخونوها في حواراتهم. يطلب الربّ أن يكون شعبه أمينًا له، وشيئًا واحدًا يحفظ هذه الأمانة في النفس البشريّة: التوبة. التوبة هي عودة لا تتوقّف نحو الله؛ علاماتها روح منسحقة ومتواضعة، تخلّت عن كلّ شيء في هذه الحياة، وتطلب شيئًا واحدًا: رحمة الله. حين يبتعد الشعب عن الله يؤدّب الله شعبه، لا لينتقم منه، إنّما لكي يعرف هذا الشعب خطيئته ويتوب عنها. منذ زمن العهد القديم، يقول الله لشعبه، "ارجِعوا كلّ واحد عن طريقه الرّديئَة، وأصلحوا أعمالَكُم، ولا تذهبوا وراء آلهةٍ أخرى لتعبُدوها" (أرم 15:35).
يذهب المسيحيّ وراء آلهة غريبة في أمرين: حين يقبل الهرطقة كالحقيقة؛ وحين يتبع روح العالم ويخضع لفكره.
لقد أراد الله دائمًا إيمانًا نقيًّا به، إيمانًا صالحًا للخلاص، هو كشفه لشعبه. لكن حرَّفَ البعض هذا الإيمان وتلاعبوا به. نشوء الهرطقات والبدع المختلفة مرتبط بقوّة بالأهواء البشريّة الفاسدة، خاصّة الكبرياء. فمن هذه الكبرياء المقيتة وعدم الطاعة نشأت كلّ هذه المسمّاة كنائس. فأهواء مملوءة شرًّا وتعظّمًا، كالكبرياء التي تتطعَّم من محبّة الذات، وأهواء حبّ السلطة والمجد الباطل المنتفخة من محبّة الأرضيّات، تُظلم النفس كليًّا، لتجعل مشيئتها وأفكارها الخاصّة معيار فهمها لعقائد الإيمان. هذه الظلمة الروحيّة تُبعد النفس عن روح الانسحاق، وتنسيها التوبة. لهذا بالتحديد يمقت الله الهرطقة ويدينها، وحكم عليها بأنّها تجديف على الروح القدس ولا مغفرة لها. لأنّها تُذكّر بالكبرياء الأولى، التي شوّهت طريق الخلاص، ولأنّها أيضًا، تمنع النفس من أن تتوب وتخلص.
لقد جعلت روح العصر إرادة الإنسان ضعيفة وذهنه مبعثرًا غير قادر أن يذكر الله في القلب. فالقِيَم والفضائل وضبط النفس، التي كان يتربّى عليها الإنسان منذ الصغر، استبدلها روح العصر بتربية قائمة على الاستسلام للشهوات الرديئة، وتلبية كلّ رغبات الجسد ونزواته البهيميّة. هذه أصبحت آلهة له في مكان الإله الواحد. روح العالم المعاصر حين يتبنّاها إنسان وتسيطر على فكره، تحطّم إرادته، وتجعلها عاجزة عن التفكير بالحقّ واقتناء روح التوبة.
شدّد المسيح في كلّ الكتاب المقدّس على الفصل بين روح العالم وروح الله. روح العالم هي روح كلّ عصر يبذر الاستهتار بالحقيقة الأزليّة ومقدّساتها، ويروّج بطريقة خفيّة للخطيئة والإلحاد في ذهن الإنسان. لهذا أولئك الّذين يدعون لعصرنة الكنيسة وفكرها وطريقة حياتها، هم أوّل أعداء المسيح؛ لأنّهم يجمعون الحقّ مع الضلال، الّذي حاول المسيح أن يُفرّقه.
الكنيسة ذاتها التي كانت تملك في كلّ تاريخها، هذا الحسّ العميق بالحقيقة الإلهيّة التي تسلّمتها، أخذت في هذا العصر ترضخ لروح العالم. كم تتكاثر تلك الدعوات، من أبناء الكنيسة ذاتهم، لتبنّي كلّ التغيّرات الإيمانيّة والأخلاقيّة التي يُنتجها روح العصر. مثل هؤلاء لا يعترفون بوجود هرطقات وبدع ولا حتّى شياطين، ولا بكنيسة واحدة ولا حتّى بإله واحد.
مَن يرى الحقيقة في كلّ مكان، حتّى خارج المسيحيّة، يكون أعمى حقيقيّ مات فيه كلّ الحقّ، وأصبح آنية زانية لشيطان الضلال. مثل هذا كيف يتوب؟ حين يموت فينا هذا الإحساس بالحقيقة الواحدة يموت الله نفسه فينا.
التوبة تحتاج إلى تواضع عظيم حتّى يعي الإنسان خطيئته ويُعاين الحقّ الإلهيّ. لهذا قال السلّميّ إنّه لا يمكن أن يوجد تواضع لدى الهراطقة. لأنّ كلّ هرطقة، صغيرة كانت أم كبيرة، أتت ثمرة كبرياء وتعظّم شيطانيّ. لهذا خطر الحركة المسكونيّة المعاصرة يكمن أوّلاً في أنّها تُثبّت النفس البشريّة في كبريائها وقناعاتها، عوض حثّها على التوبة والبحث عن الحقيقة. نعمة الحقّ يُعطيها إله الحقّ للتائبين، الّذين يتخلّون عن مشيئتهم وأفكارهم الخاصّة ويبحثون بصلاة لا تملّ عن الإيمان الحقّ. الكنيسة لا تكذب، يكذب الّذين يسعون لمزج الحقيقة مع الضلال، ويُبرّرون مخالفاتهم للإيمان. المتكبّرون لا يتوبون، مهما كانت أعمالهم الأرضيّة ممدوحة وإحساناتهم عظيمة، لأنّهم يُعطون مجدًا لذاتهم وليس لله. أمّا المتواضعون فيتوبون لأنّهم يعرفون ذاتهم على حقيقتها، واستطاعوا أن يُسلّموا ذاتهم بالإيمان للمسيح من دون شروط. خطيئة الإنسان الكبرى، ليست في تعدّي وصيّة فقط، إنّما في كبريائه وعدم خضوعه للكنيسة ولكلّ تعليم الحقّ.
ليس كلّ المتكبّرون هراطقة، لكن هل يمكن أن يكون كلّ الهراطقة متكبّرين؟ المتواضعون لا يتركهم الربّ ينمون في الضلال ولا أن تكون نهايتهم الموت الأبديّ. إنّما يضع أمامهم كلّ ما يقودهم إلى معرفة الحقّ والثبات فيه. كلّ هرطقة ظهرت في التاريخ، وكلّ تعليم مُخالف لما تسلّمته الكنيسة الواحدة، ليسوا سوى إلغاء للإله الحقيقيّ وتنصيب إله كاذب في مكانه. فأيّة شركة يمكن أن تكون للمسيح مع الآلهة الكاذبة، صنيع الشياطين. حين سيأتي المسيح ثانية على الأرض سيجد العالم مملوءً ممّا يُسمّى كنائس، لكنّها ستكون كنائس كاذبة الإسم، ملتوية الإيمان؛ لهذا يسأل مسيحنا، "هل سيجد الإيمان على الأرض"؟ (لو8:18). ذلك لأنّ إيمانًا مشوّهًا بالله ومنحرفًا ليس إيمانًا. إيمانًا خارج الكنيسة الواحدة الرسوليّة لا يمكنه أبدًا أن يكون إيمانًا يقود إلى معرفة حيّة للإله الحيّ الحقيقيّ.
لقد هجر الربّ شعبه في هذه الأيام الأخيرة، إنّه يتخلّى عن شعبه، الّذي رعاه قبلاً وثبّته وكثّره أيضًا، في أقسى عصور الظلمة والاضطهادات وسيطرة عمّال الشيطان. ها أرضنا تُصبح مُقفرة من المسيح ومسحائه الحقيقيّين، الأرض التي سبّحت الربّ ومسيحه كلّ هذا الزمان وتقدّس ترابها، صارت أرضًا للإرتداد، والسبب واحد: تخلّي هذا الشعب عن إيمان أجداده وبساطة حياة التقوى. ظنّ أنّ استمرار وجوده في هذه الأرض قائم بتحالفاته مع آلهة الأمم الغريبة، وليس بثباته في الإيمان الحقّ. لقد أخطأ هذا الشعب أمام الله. إنّه يذوب تدريجيًّا في روح العالم والعولمة، ولا يُريد أن يتوب. أين هم الرؤساء الّذين يتوبون عن كلّ هذه المخالفات؟ يتوبون عن أنفسهم وعن شعبهم. أولئك الّذين يلبسون المسوح والأصوام ويكونون أمثلة لشعبهم في التوبة والقداسة واستقامة الإيمان؟ أصحاب البدع، ذريّة بلعام، يتنبّأون لشعبنا، ويُغرّقونهم أكثر في الضلالات الآتية، ورؤساء هذا الشعب يصمتون.
"وليس من يدعو باسمِك أو ينتَبِه لِيتمسّك بكَ، لأَنّك حجبت وجهك عنّا، وأذبْتَنا بسبب آثامنا... لا تسخط كل السخط يا ربّ، ولا تذكر الإثم إلى الأبد. ها انظر، شعبك كلّنا. مدن قدسك صارت بريّة، صهيون صارت بريّة وأورشليم موحشة. بيت قدسنا وجمالنا حيث سبّحك آباؤنا قد صار حريق نار وكلّ مشتهياتنا صارت خرابًا. ألأجل هذه تتجلّد يا ربّ، أتسكت وتذلّنا كلّ الذلّ" (أش7:64، 9-12).
"ارجِعوا إلَيَّ، يقول ربّ الجنود، فأرجِعَ إليكم" (زخريّا 3:1)، (ملاخي 7:3). التوبة الحقيقيّة القادرة أن تذرف دموعًا على خطاياها، هي دائمًا علامة ثبات لا يتزعزع في الإيمان الحقّ؛ وحدها قادرة أن تجعلنا ذريّة مباركة يُكثّرها الله.
آخر المواضيع
آباء الفيلوكاليا
الفئة : عظات اﻷرشمندريت غريغوريوس اسطفان
من هم الروم الكاثوليك؟ (1724 - 2024) (3/3)
الفئة : عظات اﻷرشمندريت غريغوريوس اسطفان
من هم الروم الكاثوليك؟ (1724 - 2024) (2/3)
الفئة : عظات اﻷرشمندريت غريغوريوس اسطفان
النشرات الإخبارية
اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني