آلام الإنسان وتدبير الله


آلام الإنسان وتدبير الله

الأرشمندريت غريغوريوس أسطفان

نقلاً عن نشرة كنيستي، العدد 19، 7 أيار 2023

 

لم يخلق الله الإنسان للألم ولا للموت، إنّما للحياة الأبديّة وفرح الملكوت السماويّ. الآلام والموت ليسوا من أصل الطبيعة البشريّة، إنّما دخلوا إليها وأصبحوا تدبيريًّا جزءًا منها؛ بعد أن خضعت هذه الطبيعة بالسقوط للخطيئة والأهواء الفاسدة. إنّ قول المسيح للمخلّع الّذي شُفي، "ها أنت قد برئت فلا تُخطئ أيضًا، لئلا يكون لك أشرّ" (يو14:5)، يكشف بوضوح أنّ الخطيئة هي علّة كل هذه المآسي والشرور. هذا لا يعني أنّ أمراض الإنسان مرتبطة بخطيئته الشخصيّة، إنّما نتكلّم عن الخطيئة التي أفسدت الطبيعة البشريّة عامّة، وجعلتها عرضة للأمراض والموت.

هذه الآلام والموت الجسديّ، التي هي دخيلة على طبيعتنا، لم يُبطلها المسيح بموته وقيامته، لكي يُبقي لحريّة الإنسان طرقاً تُجاهد من خلالها. فالمسيح أتى ليشفي مرض الطبيعة البشريّة، وقد شفاها بتدبير صليبه. وليست بركة "بيت حِسدا" سوى رسم لجرن المعموديّة، الّذي ننزل فيه مُخلّعين بحالة الموت ونخرج منه كاملين، وقد شفينا أصحاء ممتلئين من روح الله.

عظيم هو تدبير الله للبشر. فهو يشفي هوى بهوى آخر وألَم بألَم آخر. يسمح الله بأمراض وتجارب قد تُرافقنا طوال العمر. والهدف ليس تعذيبنا، إنّما شفاء أهوائنا الأخرى الكثيرة المختبئة في داخلنا. إنّ أمراض الجسد هي لشفاء أمراض النفس، ألَم الجسد يدفع النفس لأن تعود إلى ذاتها وتكتشف أهواءها وتتوب. هدف كل الآلام البشريّة نزع النفس من محبّة الذات المميتة. كل ألم وكل تجربة مهما كانت مُرّة، هي افتقاد من الله لأجل خلاصنا. إنّها هذا الصليب الّذي وعدنا به الربّ في كل الإنجيل، صليب خلاصنا. لهذا قوّة إيماننا بالمسيح تظهر بقدرة حملنا لصليب التجارب. فهذه التجارب هي جزء لا يتجزّء من خبزنا الجوهريّ.

صبر المخلّع على مرضه كان أمرًا عظيمًا، والهدوء الّذي أجاب به الربّ عن حالته كان مميّزًا. هذا الصبر يكشف قوّة إيمان بالله. فالله لا يُحمِّل الإنسان فوق ما يستطيع، "بل سَيجعَل مع التّجربة أيضًا المَنفذ، لتستطيعوا أن تحتملوا" (1كور13:10). فإذا كان الإنسان وهو في الأهواء، لا يُحمّل أولاده أكثر ممّا يستطيعون، فكيف بإلهنا الصالح مع أبناءه الأخصّاء. المشكلة هي في الإنسان لا في الله. تذمّر الإنسان على الآلام والصعوبات والأمراض يُشير إلى نقص في الإيمان ونقص في ثقتنا بإلهنا الصالح. لو لم يحتمل ربنّا الآلام حتّى الصليب لأجل خلاصنا لكنا مبرَّرين في تذمّرنا، لكن ليس لنا عُذر الآن. التجارب تُعلّم الإنسان أوّلاً، الّذي يقبلها من دون تذمّر، كيف يثبت في إيمانه بالله، الثبات في الإيمان هو ثبات في محبّة الله. إنّ سماح الله بتسلّط تجربة معيّنة على الإنسان هدفها الرئيسيّ أن تُعلّم النفس اقتناء أساس كل الفضائل: التواضع. هذا الّذي من دونه لا توجد لا حياة في المسيح ولا خلاص. لا يمكن لله أن يوجد لدى غير المتواضعين، لأنّهم ببساطة يؤلّهون أنفسهم لا الله. التواضع يُعلّم الإنسان أنّه ليس موجودًا بذاته بل بنعمة الله؛ وأن لا يتّكل على نفسه بل على رحمة الله. هذه الفضيلة السماويّة تُعلّمه الخروج من أنانيّته وأن يفرح بأخيه الإنسان. التواضع هو الأساس الثابت الّذي تُبنى عليه كل الفضائل مجتمعة. تجميع الذهن في صلاة نقيّة يشترك فيها القلب هي ثمرة روح منسحقة قبلت تجاربها بشكر. من دون تجارب وأمراض يبرد القلب وتُصبح الخطيئة شهوته.

المسيح نفسه هو مَن بادر وسأل هذا المخلّع إن كان يريد أن يشفى. فالله لا ينسى البشر وحاجاتهم، الإنسان هو من ينسى الله والصلاة والتضرّع إليه بإيمان، إمّا عن يأسٍ وإمّا عن شكّ بصلاح الله. ثمان وثلاثين سنة وهو ينتظر والله ينظر له الوقت المناسب لشفائه. مسيحنا يشفي في الوقت الّذي يراه هو مناسبًا، وهذا الوقت هو حتمًا وقت خلاصنا. الوقت الّذي تكون فيه النفس قد تثبّتت بالتوبة وفي طريق الشفاء من الخطيئة ونتائجها. لا يظنّ أحد انّه يخلص فقط ببعض الممارسات الخارجيّة للوصايا، إنّما بهذا التحوّل للقلب في طلب الرحمة الإلهيّة.

لقد فتّتت روح هذا العصر الطبيعة البشريّة بأكملها. هذه الطبيعة التي كان ينبغي أن تكون واحدة، متماسكة. مخلّع هذ الأحد عبّر عن المأساة التي وصلت إليها هذه البشريّة حين قال: "ليس لي أحد". إنّه وحيد في هذا العالم الّذي يحوي ما لا يُحصى من البشر.

وحده المسيح قادر أن يملأ حياة البشر، الّذين يُجاهدون ليكون هو نفسه سيّد حياتهم. حين تُصلّي النفس صلاة بالروح، ويمتلىء القلب من جسد ودم محبّة الله، تتّحد حينها هذه النفس بكل البشر الآخرين، وتشعر بانتمائها إلى شركة قدّيسيّ الكنيسة. اشتراكنا الحيّ في جسد المسيح الواحد، هو الّذي يجعل الكثيرين واحدًا، ويجعل الواحد متّحدًا مع كثيرين. والكنيسة لا تطلب شيئًا من الإنسان سوى هذا الإيمان الحيّ والنموّ في معرفة يسوع المسيح. محبّة المسيح تملأ كيان الإنسان وتُغذّيه من النعمة الإلهيّة، فلا يحتاج بعدها إلى أيّة تعزيات بشريّة.



آخر المواضيع

آباء الفيلوكاليا
الفئة : عظات اﻷرشمندريت غريغوريوس اسطفان

الأشمندريت غريغوريوس اسطفان 2024-10-12

من هم الروم الكاثوليك؟ (1724 - 2024) (3/3)
الفئة : عظات اﻷرشمندريت غريغوريوس اسطفان

الأرشمندريت غريغوريوس اسطفان 2024-06-29

من هم الروم الكاثوليك؟ (1724 - 2024) (2/3)
الفئة : عظات اﻷرشمندريت غريغوريوس اسطفان

الأرشمندريت غريغوريوس اسطفان 2024-06-28

النشرات الإخبارية

اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني

للإتصال بنا