الفريسيّة وعبادة الله


الفريسيّة وعبادة الله

الأرشمندريت غريغوريوس أسطفان

(نقلاً عن نشرة الكرمة، عدد 6، مطرانية طرابلس والكورة وتوابعها، 2023)

 

في هذه الآحاد الأربعة التي تسبق الصوم الكبير، والتي تُسمّى فترة التهيئة لزمن التريوديّ، تضع لنا فيها الكنيسة المبادئ الأساسيّة التي ينبغي أن نبني عليها صومنا الأربعينيّ المزمع أن نتمّمه. في الأحد الأوّل المسمّى "الفريسيّ والعشار"، يكشف لنا المثل الإنجيليّ الروح التي ينبغي أن نصوم ونصلّي فيها هذا الصوم المقبل.

كل معنى هذا المقطع الإنجيليّ يتمحور حول أمرَين أساسيّين الكبرياء والعُجب من جهة، والتواضع والتوبة من جهة أخرى. الأوّلان ليسا سوى عبادة فاسدة مزيّفة للمسيح؛ والآخران هما الأساس الّذي يُبنى عليه كل خلاص بالمسيح. خلاصنا يتوقّف على طريقة عبادتنا لله. عبادتنا ذاتها لله يمكن أن تبرّرنا ولكن يمكن أيضًا أن تديننا. في الكنيسة نعبد الإله الحقّ، وفيها أيضًا تتحوّل عبادتنا إلى الذات.

لقد أصبحت الفرّيسيّة شعارًا في الكنيسة، ورمزًا للكبرياء والتعالي على الآخرين. يستخدمه البعض من منظار أخلاقيّ ليشير إلى آفة في الحياة الاجتماعيّة؛ ويستخدمه آخرون لينعتوا بهذه الصفة كل من لا يوافق على مواقفهم وأفكارهم.

لقد نقض المسيح الكبرياء الفرّيسيّة وحكم عليها بالدينونة. لأنّ الكبرياء لا يقتل فقط كلّ فضيلة في المؤمن، إنّما بالأحرى يقتل فيه كل حسّ بالحقيقة. أوّل الكبرياء يظهر في إدانة الآخرين وتبرير الذات والمجاهرة بالبرّ الذاتيّ. خطيئة البرّ الذاتيّ هي نقيض التوبة، ولا تعني فقط أن يصير الإنسان بارًّا في عينيّ نفسه، إنّما أيضًا تُغذّي فيه أنانيّته وتمسّكه بافكاره الخاصّة ومشيئته الذاتيّة. هذه الأهواء المستعصية هي برقع على عينيّ ذهن الإنسان. لهذا بالتحديد، لم يرَ الفريسيّ أيّة حاجة لطلب رحمة الله وغفران خطاياه. ومن لا يرى سوى برّه الذاتي، يدين الآخرين بسهولة ويزدري بهم.

لهذا، كل سقطة حصلت في التاريخ، وكل هرطقة نمت في العالم كان سببها الأوّل الكبرياء الفريّسيّة والاقتناع بهذا البرّ الذاتيّ. لن يتواضع الإنسان أبدًا ويشعر بخطاياه طالما يُعدّد مآثره ويفتخر بأعماله العظيمة. تعداد المآثر والافتخار بها هو غذاء التكبّر الأوّل. وأغلب المسيحيّين يعيشون هذه الحالة من المسيحيّة الاجتماعيّة التي تغذّي روح الأنا، فيسقطون بسهولة في أهواء العُجب والمجد الباطل والتكبّر... والهرطقة. لقد أراد المسيح أن يحذّرنا من السقوط في هذه الأهواء المميتة حين قال: "ويل لكم إذا قال فيكم جميع الناس حسنًا" (لو26:6).

فمن ناحية الإيمان، الفرّيسيّة الحقيقيّة تكمن في هذه الظلمة التي تسقط فيها النفس المتكبّرة، التي لا تعود ترى الفرق بين ما هو من روح الله وما هو من روح إبليس. إنّها النفس غير القادرة أن تميّز بين الحقّ والضلال. فقط المتواضعون هم روحانيّون حقيقيّون لأنّهم يُطيعون الكنيسة وإيمانها وقوانينها. هؤلاء يمنحهم الله عطيّة التمييز وموهبة الحقّ، ليفرزوا الحقيقة من التعاليم المنحرفة التي تشوّه هذه الحقيقة. هؤلاء هم معلّمون وآباء للكنيسة ومدافعين عن إيمانها. إنّه الصراع الدائم والّذي سيتعاظم كلّما تقدّمنا نحو النهاية، بين الكبرياء المقيتة والتواضع المبارك، بين الفريّسيّة والطاعة، بين الاعتداد بالذات والتوبة. خطيئة الفريسيّة ليست في النفس التي ضلّت عن الحقّ، وإنّما في التي تُعلن لها الحقيقة ولكنّها تصرّ على ضلالها؛ وهي تضلّ الآخرين وتوحي لهم بأنّهم على حقّ وهم ضالّون. الفريسيّة هي العمى الحقيقيّ عن رؤية الحقيقة، حين تكون الحقيقة ظاهرة أمامنا في ملئها. الفرّيسيّة ليست في التمسّك العنيد بإيماننا الأرثوذكسيّ وتسمية المنحرفين هراطقة، إنّما في التمسّك المَرَضيّ بقناعاتنا الشخصيّة، المناقضة لتعليم الكنيسة، المستوحاة من روح العالم وتقلّبات العصر الجديد. المسيح لم يَدن الخاطئ، لكنّه نفسه أدان الهرطوقيّ، حين قال أن كل التجاديف تُغفر للبشر، "ولكن مَن جدّف على الروح القدس فليس له مغفرة إلى الأبد، بل هو مستوجب دينونة أبديّة" (مر29:3). لقد فسّر آباؤنا القدّيسون قول المسيح عن المجدّفين الّذين لا مغفرة لهم، أنهم الهراطقة وأصحاب البدع والتعاليم الملتوية.

المسيح هو مسيح المتواضعين، الّذين يُباركون ما تُباركه الكنيسة ويُحرّمون ما تُحرّمه. فقط هؤلاء لا يُخطأون لا تجاه الله ولا تُجاه البشر، لا تُجاه الإيمان ولا تُجاه المحبّة. المحبّة لا توحّد البشر، الإيمان المستقيم بالله هو الّذي يوحّدهم، في وحدة داخليّة صميميّة. حين يؤمنون الإيمان نفسه يصيرون واحدًا، وتأتي المحبّة لتختم على هذه الوحدة، في الاشتراك في جسد ودم المسيح الواحد. مَن يقرأ مسيرة الكنيسة في العهد الجديد كلّه، بذهن متّضع، يجد بوضوح أنّها مسيرة إيمان واحد يوحّدنا بيسوع المسيح، إيمان واحد حقيقيّ يُقاوم كل تعليم منحرف وملتوٍ. المحبّة، كما ذكرها رسل العهد الجديد، ليست سوى تثبيت لهذه الوحدة، مع بعضهم البعض ومع الله، لأولئك الّذين وحّدهم الإيمان الواحد، والّذي يتفعّل في المناولة المقدّسة لجسد ودم المسيح الإلهيّين. أمّا المحبّة غير المستندة على الإيمان الواحد فليست سوى محبّة فرّيسيّة ظاهريّة، محبّة مرائيّة، ستكون حتمًا كالتي أظهرها الفرّيسيّ لله ولإخوته البشر في صلاته وصومه وإحسانه.

لقد ظنّ الفرّيسيّ أنّه يتبرّر بأعماله، فعدّدها واستند عليها. أمّا العشار فقد استند على إيمانه بالله، وظهرت قوّة إيمانه في طلبه بهذه الروح المنسحقة رحمة الله. إنّ صدق الإيمان ينكشف باعتراف الإنسان الصريح بخطاياه أمام أبٍ روحيّ في الكنيسة، ويتثبّت الإيمان بهذا الاصرار الّذي لا يملّ في طلب رحمة الله. "وأمّا العشّار فوقف من بعيدٍ، لا يشاءُ أن يرفع عينيه نحو السّماء، بل قرَع على صدره قائلاً: اللّهمّ ارحمني، أنا الخاطئ" (لو13:18). هذه هي علامات التوبة الحقيقيّة ومعرفة الإنسان لذاته، وعبّر عنها داود النبيّ بهذا القول: "الذبيحة لله روح منسحق، القلب الخاشع المتواضع لا يرذله الله".

لقد صلّى الفرّيسيّ كباقي الناس، لكن صلاة كهذه، بروح مستعلية لا تعي خطاياها، تكون صلاة مقدّمة للشياطين لا لله. مَن يُصلّي حقًّا ينبغي أن يمتلئ رأفة بالآخرين ومحبّة بالخطأة، لا إدانة لهم. افتخر الفريّسيّ بصومه وهدف الصوم هو أن تنسحق النفس وتتواضع، لكي تنمو في ضبط أهواء الجسد وتنقية الأفكار والزهد بالدنيويّات. افتخر بتقديم العشور لكل ما يملكه، وهدف التقدمات هو أن تتحوّل أنانيّتنا إلى إحساس بالآخرين والتحرّر من البخل ومحبّة المال. هذه هي الروح الفرّيسيّة وتقاومها الروح المتواضعة التي أحبّت المسيح أكثر من ذاتها. إنّها بداية مسيرتنا نحو الفصح. تعلّمنا الكنيسة في هذا المثل أن رفيق الصوم هو التواضع، لننمو في الإيمان المقدّس ومعرفة الذات والاحساس بخطايانا. هدف الصوم شفاء النفس من شهواتها الفاسدة وأمراضها الروحيّة وميولها المنحرفة. لكن الصوم عقيم من دون صلاة مركّزة، ولا توجد صلاة يشترك فيها القلب من دون تواضع وتنهّد وتوبة.


 



آخر المواضيع

الإيمان والتواضع لدى الكنعانيّة
الفئة : عظات اﻷرشمندريت غريغوريوس اسطفان

الأرشمندريت المتوحّد غريغوريوس اسطفان 2024-02-17

الشذوذ الجنسي ومعصيته
الفئة : عظات اﻷرشمندريت غريغوريوس اسطفان

الأرشمندريت غريغوريوس اسطفان 2024-01-17

الخطيئة وشرور الحروب
الفئة : عظات اﻷرشمندريت غريغوريوس اسطفان

الأرشمندريت غريغوريوس اسطفان 2024-01-14

النشرات الإخبارية

اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني

للإتصال بنا