الصلاة


الصلاة

الأرشمندريت المتوحّد غريغوريوس أسطفان

(نقلاً عن نشرة دير القديس سمعان العمودي، عدد 7، أيلول 2022، حامات، لبنان)

 

"بكلّ قلبي طلبتكَ" (مز118: 10).

يُقارن الآباء دائمًا بين الحالة الّتي كان فيها الإنسان الأوّل، حين كان يُكلّم الله وجهًا لوجه، وحالة الغربة عن الله الّتي أصبح عليها بعد العصيان الأوّل. فبعد الغربة، تبعثرت قوى الإنسان الروحيّة، وبدأ الصراع الداخليّ في القلب بين حفظ ذكر الله والنسيان. وكانت الوصيّة، الّتي هي فوق الوصايا كلّها: "احترز من أن تنسى الربّ إلهك... أذكر الربّ إلهك" (تث8: 11، 18). ذكر الربّ إلهنا في هذه الوصيّة ليس أمرًا مجازيًّا، إنّما غايته حضورٌ لا يتوقّف لإلهنا في القلب الداخليّ، ولكنّ الإنسان لم يستطع حفظَ هذه الوصيّة. فالنسيان أوقف القلب عن ذكر الله من دون انقطاع؛ وكانت هذه الكارثة الأولى الّتي نتجت من السقوط. والقلب الّذي دُعيَ إلى معاينة الله، دخل في غربة، ومات فيه كلُّ شوقٍ إلى الله. أمّا ذهنه الّذي دُعي إلى أن يمتلئ من ذكر الله، فأصبح ثقيلاً وبليدًا، هدم فيه النسيان كلَّ ذكرٍ لما هو لله. لا بل أخذ طريقًا معاكسًا، أخذ يمتلئ أهواءً ورغباتٍ معاديةً لله، ويتّجه بسهولةٍ نحو الاهتمامات الأرضيّة والحسّيّة. هذا يُظهر كيف أنّ الخطيئة عرّت الإنسان من النعمة الإلهيّة، ليكتمل لاحقًا بالموت، هذا الانقطاع المخيف لشركة الإنسان مع الله.

لهذا الواقع، الّذي امتلأت فيه ذاكرة الإنسان من كلّ الأهواء، عوض امتلائها من نعمة الله، لم يوجد من علاجٍ سوى استعادة الذهن إلى الله، عبر الذكر المتواصل للربّ، في الصلاة النقيّة المتكمّلة بالطاعة وعمل التوبة.

لم يوجد سلاحٌ أو قوّة، في أيّ زمنٍ من الأزمنة، يمكنه أن يُقاوم تعاظُم الخطيئة والشرّ، ويُكافحه في العالم وفي النفس البشريّة، أكثر من الصلاة. ونعني الصلاة الّتي ينشغل فيها الذهن بكلّ طاقته. الصلاة لم تكن يومًا أمرًا إضافيًّا في حياة المسيحيّ والكنيسة، إنّما كانت دائمًا النشاط الرئيس. وذلك تطبيقًا لوصيّة المسيح والرسل، لا فقط بأن نسهر ونصلّي، وإنّما أيضًا بأن "يُصلَّى كلَّ حينٍ ولا يُملّ" (لو1:18). فالصلاة هي حاجةٌ للنفس أكثر ممّا الطعام حاجةٌ للجسد. كلُّ حياة الكائن البشريّ ينبغي لها أن تكون حياةً في الصلاة1. الكتاب المقدّس كلّه مملوءٌ من هذا الإصرار على الصلاة المتواصلة: "صلُّوا بلا انقطاع" (1تسا17:5)، "اسهروا وصلُّوا لئلّا تدخلوا في تجربة" (مت41:26). لهذا، بحسب الذهبيّ الفم، النفس الّتي لا تحبُّ الصلاة هي نفسٌ ميتة، لا يوجد فيها شيءٌ صالح.

في نسكيّات القدّيس إسحق السريانيّ، يسأل أحد الشيوخ "ما هي الصلاة؟"، ويُجيب: "إنّها إفراغ الذهن من كلّ ما هو دنيويّ، وعودة مشاهدة القلب إلى شوق رجاء الخيرات الآتية"2. "فالصلاة"، كما فهمها آباؤنا القدّيسون، "هي ارتفاع الذهن إلى الله"3. وفي هذا الارتفاع يستعيد قلبُنا ثانيةً شوقَه إلى الخيرات الأبديّة، وتستعيد ذاكرتنا أمرًا أساسيًّا، وهو المجد أو الحياة الإلهيّة الّتي كانت عندنا قبل النسيان وسقوطنا في العصيان والهرب الاختياريّ من أمام وجه الله.

ارتفاع الذهن إلى الله ليس أمرًا نظريًّا نُقاربه عقليًّا، إنّما يتحقّق في جهاداتٍ روحيّةٍ كبيرةٍ لتنقية هذا الذهن من ترسُّبات الخطيئة والأهواء. وهذا لا يتمّ من دون الصلاة. ثمّة حقيقةٌ في طبيعة الإنسان وهي أنّ الذهن البشريّ لا يمكنه أن يكون بطّالاً؛ فإذا لم ينشغل بالصلاة، فهو سينشغل بكلّ أنواع الأفكار الأخرى الباطلة، وأحلام اليقظة، ودينونة الآخرين. فالذهن الّذي يتشتّت كثيرًا في أثناء الصلاة في أمور هذا العالم، يشير إلى أنّ الإنسان ما زال من هذا العالم وليس من المسيح. يقول إيفاغريوس: "إذا كان ذهنكَ يتشتّت وقت الصلاة، فهذا لأنّه لا يصلّي بعد كراهب، لكنّه أيضًا من العالم"4. من هنا، تُعلّمنا خبرة آبائنا القدّيسين عن هذه الصلاة القصيرة، صلاة يسوع، الّتي ينبغي للمسيحيّ، وبخاصّةٍ الراهب، أن يردّدها في الأوقات المتوفّرة له في يومه، بدلًا من الشرود في أمور هذا العالم. وكلّما ترسّخت الصلاة وذكر الله في الذهن، ابتعد العالم منه. المثابرة على الصلاة الذهنيّة هي موتٌ للعالم فينا. هذه هي الطريقة الّتي تختصر الطرق كلّها، في تنقية الذهن من تشوُّشات هذا العالم، إلى أن يَصِلَ إلى حضور الله الدائم فيه. هذا ما تعنيه الصلاة الأرثوذكسيّة: حضورٌ غير منقطعٍ لله في القلب الداخليّ. وهذا هو معنى ما يقوله القدّيس يوحنّا الدمشقيّ: "أن تصلّي هو أن تطلب أن تصير في ما هو لله"5.

الصلاة تحتاج إلى نسكٍ

العقبة الأولى في مسيرة الصلاة النقيّة هي كثرة الأفكار، الناتجة من كثرة الأهواء الموجودة في النفس البشريّة. فالذهن، بعد السقوط، أصبح مَصنعًا للأفكار الباطلة. لهذا، تكمن صعوبة الصلاة أوّلاً في تركيز الذهن على ذكر الله، ضمن هذه الغوغاء من كلّ هذه الأهواء والشرور الّتي تجول فيه. وقاعدة هذه الأهواء توجد في النفس الغارقة في الأنانيّة واشتهاء الأمور الأرضيّة: شهوات الجسد، المال، الكلام البطّال، وشرور النفس كالغضب، الحسد، الحقد، والعُجب والكبرياء المقيتة. الصلاة في هذه الحالات فيها تعبٌ كثيرٌ لأجل تركيز الذهن في كلمات الصلاة، لكنّها، في المقابل، المعين الأوّل للتخلُّص من الأهواء، واقتناء الفضائل. فالصلاة ليست فقط لكي نواجه بها الشرّ وخداع الشياطين، وإنّما أيضًا لاقتناء كلِّ صلاحٍ ونعمةٍ من الله.

الجهاد النُّسكيّ يحتاج إلى تعبِ الصلاة، والصلاة الحقيقيّة تحتاج إلى نُسكِ الجسد، من أصوامٍ وأسهارٍ وأتعابٍ متعدّدة. يقول القدّيس غريغوريوس بالاماس: "حين نصلّي، نحتاج بالتأكيد إلى التعب الجسديّ الّذي يولّده السهر والصوم وما إليها"6. تعب النُّسك هو الّذي يُخضع أهواء الجسد، ومتى خضعت الأهواء، تتمّ السيطرة بسهولةٍ أكبر على الأفكار. لهذا نُسك الجسد ضروريٌّ وأساسيٌّ في مسيرة خلاص الإنسان. فكثرة الأفكار تجد غذاءها في كثرة أهواء الجسد ذاتها. والنُّسك الجسديّ يُعاكس البطالة المولِّدة كلّ أنواع التخيُّلات. فالتخيُّلات هي عائقٌ رئيسٌ أمام الصلاة، والشيطان يُحارب بقوّةٍ النفسَ المتشوّقة إلى لقاء الله بالصلاة، من خلال التخيُّلات والصور، وإقناعنا بمنطق الاستسلام لهذه الصور المتخيّلة، ودغدغة ذهن المصلّي بلذّةٍ تجعل قطع التخيُّل غير سهل. رفض هذه التخيُّلات هو جهادٌ أساسيٌّ للمصلّي، ليبلغ صلاةً مركّزةً ونقيّة.

تعب النسك، إذًا، يُخضع الجسد للنفس. وكلّما خضع الجسد للنفس، خضعت الأفكار الّتي تتسرّب منها الأهواء إلى القلب. إنّ النفس البشريّة تنزع إلى الراحة والحياة السهلة؛ وحياة الراحة تنزع من النفس كلَّ شوقٍ إلى الله. وحدها حياة النُّسك والصلاة تُعطي الإنسان أن ينطلق إلى محبّة الله بحريّة وشوق.

إنّ قطع التخيُّلات والصور، من خلال الصلاة، يُعطي الذهنَ صفاءً كبيرًا ليُعاين حالته الداخليّة ويُقاوم الأهواء الخفيّة. بحسب السلّميّ، الصلاة هي "فحصٌ لحالة أنفسنا" (1:28). وثمّة شيءٌ أكيد، أنّنا كلّما تقدّمنا في الصلاة النقيّة وفي معرفة الله، ضعُفَت معرفة العالم في داخلنا، وضعُفَ تعلُّقنا بأشياء هذا العالم. هكذا تبدأ التوبة في النفس الّتي تُحبّ الله، فتَعي كثرة خطاياها، ومقدار بُعدها عن معرفة الله الحقيقيّة.

وكيف تعلم النفس أنّها تُجاهد على نحوٍ صحيحٍ ومستقيم؟ حين تقتني دالّةً في صلاتها. "وكلّما تقدّم الإنسان في الجهاد، حبًّا بالله، يزداد قلبه دالّةً في الصلاة"7. لكنّ "النفس لن تقتني دالّةً في الصلاة ما لم تتغلّب على الأهواء أوّلاً"8.

التغصُّب في الصلاة

الصلاة الحقيقيّة هي عطيّةٌ كاملةٌ من الله، لكن لإرادة الإنسان دورٌ أساسيٌّ في كلّ عطيّةٍ له من الله. نحن نسعى لنتعلّم، والله يُعطينا الحكمة والفهم، وأخيرًا الموهبة الكاملة ذاتها. إنّ تعلُّم الصلاة يحتاج، كتعلُّم كلّ شيءٍ آخر، إلى غصب الطبيعة. ومساهمة الإنسان هي جهده الّذي لا يملّ، ليُعيد طبيعته إلى حركتها الأولى، الّتي هي الصلاة أو التكلّم مع الله وجهًا لوجه. لهذا، طبيعة الصلاة تحتاج إلى جهدٍ وتعبٍ أكثر من أيّة فضيلةٍ أخرى، لأنّها تحوّلٌ للإنسان الداخليّ. الصلاة سرٌّ، لا يتعلّمها الإنسان إلّا بمؤازرةٍ من النعمة الإلهيّة. في الأرثوذكسيّة، تعلُّم الصلاة لا يتمّ إلّا من خلال الصلاة.

يُشبّه الآباء الصراعَ مع الصلاة في هذا الذهن المشتَّت، بصراع يعقوب مع الملاك في حادثة سُلَّم يعقوب (تك24:32-30). فتجميع الذهن المبعثَر لن يكون سهلاً؛ إنّه عمليّةٌ شاقّة، صراعٌ حقيقيٌّ ضدّ الأفكار، وضدَّ ضعف الطبيعة، والجسد، والنوم، والتعب... إنّ ترويض الذهن على الحرب الروحيّة يكون من خلال مثابرته الطويلة على الصلاة؛ "أجبِر ذهنكَ باستمرارٍ على الصلاة وستُحطّم الأفكار الشرّيرة الّتي تزعج قلبك"9. ميل النفس في حالة الأهواء هو ضدّ الصلاة، لكن ينبغي إخضاع هذا الميل عبر غصب الطبيعة، لتتحوّل ممّا هو أرضيٌّ وجسدانيّ، إلى ما هو سماويّ وروحيّ. فالإنسان الّذي يُحبّ الله يعلم "أنّ الجسد يشتهي ضدّ الروح"، لذا لن ينتظر ميل نفسه إلى الصلاة حتّى يُصلّي، بل سيُقاوم راحة جسده. ومهما كان تعبًا أو نعسًا أو جائعًا، يُحقّق قول المزمور: "لا أصعد على سرير فراشي ولا أعطي لعينيَّ نومًا ولا لأجفاني نعاسًا ولا راحةً لصدغيَّ إلى أن أجِدَ موضعًا للربّ" (مز3:132-4).

إلّا أنّ هذه الصعوبة تكون في البداية، حتّى إذا اعتاد الإنسان على الصلاة وعلى كلّ صلاح، لا تحتاج بعدها طبيعته إلى هذا التغصُّب. فالربّ حين يرى إصرارنا وصبرنا وثباتنا وانتظارنا رحمته، هو يمنحنا نعمة الصلاة الحقيقيّة، صلاة تُحرّكها النعمة، نؤدّيها بفرحٍ ولذّةٍ روحيّة.

في مثَل الربّ، كانت الأرملة ملحّةً واستمالت قاضي الظُّلم كي يعطيها سؤلها. فالربّ جعل هذا المثل، لغايةٍ ما، كي يعلّمنا ألّا نيأس ونملّ في الصلاة، كما جاء في الإنجيل (لو1:18). ينبغي للصلاة ألّا تتوقّف تحت أيّ عذر، حتّى المرض. "طالما تعيش، لا تتخلَّ عن الصلاة، حتّى ولا ليومٍ واحدٍ تحت عُذر المرض. انتبه للقدّيس بولس الّذي يقول: "لأنّي حينما أنا ضعيفٌ فحينئذٍ أنا قويٌّ" (2كور10:12). إذا عملتَ بهذه الروح، فائدتكَ ستكون أعظم، والصلاة، تسندها النعمة، ستجعلكَ عاجلاً جيّدًا. حيثما يأتي الروح بالتعزية، المرض والتواني لا يدومان طويلاً"10.

أعداء الصلاة

إنّ أعداء الصلاة كثُر، يندرجون في ثلاثة أمور: اهتمامات العالم، شهوات الجسد، وحسد الشياطين.

اهتمامات العالم: تلك الّتي قال عنها المسيح إنّها الأشواك الّتي تخنق الزرعَ الجيّد، هذه تخنق الصلاة وتجعلها مُجدبةً ومشوَّشةً كلّيًّا. لهذا، ينبغي للإنسان أن يقطع كلَّ ما هو غير ضروريّ في يومه، وأن يخفّف ما أمكن من العلاقات الخارجيّة والاتّصالات مع الناس. يقول القدّيس ثيوليبتوس: "ضعْ حدًّا للاختلاط بالعالم الخارجيّ، وحارب الأفكار الداخليّة حتّى تجد موضعًا للصلاة النقيّة والمسكن حيث يقيم المسيح".

شهوات الجسد: الإنسان الّذي يشتهي من ملذّات هذا العالم من شهواتٍ جسديّة، وغنًى، ومجدٍ باطل، سيكون ذهنه مأخوذًا في هذه الأمور كلّيًّا، فلن يستطيع أبدًا أن يكون لله، ولا أن يصلّي صلاةً حقيقيّةً فيها دالَّةٌ أمام الله. لهذا، الصلاة تستدعي طرد كلّ ذكرى الأشياء الأرضيّة حالما تخطر على الذهن، وعدم تلبية رغبات الجسد من طعامٍ ونومٍ وراحة، مع ضبطٍ حاسمٍ للحواسّ، كالنظر والسمع وغيرها. ينبغي الابتعاد عن كلّ الأمور الّتي يمكن أن تُثير الخطايا والأهواء.

الصوم هو أكبر مساعِدٍ على الصلاة النقيّة ومقاومة شهوات الجسد، والأوّل الّذي يقيّد الأهواء ويطوّعها. الصوم يُخضع الجسد للروح. بمجرّد أن يبدأ الإنسان بالصوم، يولد شوقٌ في الذهن إلى الصلاة والتقدُّم أكثر في معرفة الله. "عندما يوضع ختم الأصوام على فم الإنسان، يبدأ ذهنُه بالهذيذ بخشوعٍ، ويفيض قلبه بالصلاة"11. لقد جرَّب آباؤنا الصوم كلّ يومٍ فوجدوا أنّه نافعٌ وموافقٌ لنقاوة النفس، ونهونا عن امتلاء البطن من أيّ طعامٍ كان (القديّس يوحنا كاسيانوس). نحن نُرفق صلاتنا بالأصوام والأسهار الكثيرة لكي نتعلّم كُره الخطيئة. غذاء الخطيئة هي الشهوات الجسديّة؛ لهذا محاربة الخطيئة تكون بمحاربة الشهوات. شهوة البطن هي المدخل لكلّ الشهوات الأخرى. والصوم يُطفئ الشهوة، لأنّ الزنى يولد من الشراهة.

مسيرة الإنسان نحو النقاوة يُلخّصها القدّيس باسيليوس الكبير هكذا: "الصوم يُطهّر الجسد، والصلاة تطهّر الأفكار، والتوبة تطهّر الذهن". وهذه الثلاثة لا تنفصل بعضها عن بعض، وتقود، متى مورست معًا، إلى نقاوة القلب ومحبّة الله.

حسد الشياطين: العدوّ الكبير الآخر للصلاة هم الشياطين، المحفّزين لكلّ الأهواء والخطايا. الشياطين تحسد الإنسان الّذي يصلّي بحرارة، وتحاول دومًا وبإصرار أن تمنعه من الصلاة النقيّة؛ وذلك بأن تحرِف الذهن عن عمله، وتشغله بأهوائه وبأمورٍ دنيويّةٍ عديدة. وإن لم تتحرّر النفس كلّيًّا وبوعيٍ من التصاقها بالعالم المنظور، فإنّها لن تستطيع أن تتحمّل بهدوءٍ نكبات الناس والشياطين ونهبهم12. إنّ الحرب الّتي يشنُّها إبليس ضدّ الإنسان لا يمكن صدُّها إلّا بالصلاة والتواضع. فقط المثابر على الصلاة باتّكالٍ كاملٍ على نعمة الله، يستطيع أن يطرد كلَّ هواجس الشياطين وشرّها.

أمّا الأمور المساعِدة على الصلاة فهي:

مطالعة الكتب الروحيّة: بخاصّةٍ الكتاب المقدّس والكتب الأخرى الّتي تتكلّم على الصلاة. وقراءة الكتاب المقدَّس في التقليد النسكيّ لا تهدف إلى المعرفة النظريّة، بل لكي نمتلئ من النعمة الّتي تتكلّم فيه. يقول القدّيس كبريانوس: "نصلّي باستمرارٍ أو نقرأ، حينًا نكلّم الله، وحينًا نُصغي إليه"13. فالربّ أعطانا في البدء شريعة الضمير، لكنّ البئر الّتي حفرها يعقوب (تك15:26)، طمرها الفلسطينيّون. لذا نحن ننقّيها بقراءة الكتب الروحيّة14.

القراءة الروحيّة مفيدةٌ قبل الصلاة، لأنّها تملأ الذهن بالأفكار الروحيّة خلال الصلاة. مطالعة الكتب الروحيّة والتأمّل فيها بخشوعٍ يقيان الذهنَ من البطالة، ويطردان منه ما أمكن من الصُّور والأفكار الدنيويّة السابقة. هكذا، يكون هدف القراءة الروحيّة أن تحرّك الصلاة فينا، وتلهبها، وتدفعها إلى التوبة. إنّها تهيّئ الطريق للصلاة، وتُبعد عن النفس المللَ والضجر، بخاصّةٍ في القانون اليوميّ المحدَّد للصلاة. "يتولّد الضجر من تشتُّت الذهن، والتشتُّت من التوقُّف عن العمل والمطالعة، ومن اللقاءات الباطلة أو من البطن المتخم"15. فحين نقرأ بخشوعٍ وتقوى، تستيقظ النفس لترى خطاياها، فتتوب وتطرح ذاتها أمام الله في صلاةٍ تغسل نفسَها فيها من خطاياها وشرورها. يقول القدّيس بالاماس إنّ مَن يقرأ لكي يعرف، ولا يمتلئ ندمًا وتوجُّعًا على خطاياه، يصير معجبًا بذاته.

يقظة الذهن: الصلاة النقيّة تتطلّب من المسيحيّ متابعة حركة الأفكار في الذهن، خلال العمل أو أيّ نشاطٍ أرضيّ آخر، حتّى لا تخرج هذه الأفكار عن سيطرة الذهن. وإلاّ فإنّ الذهن سيكون عاجزًا عن تجميع ذاته للصلاة، سيكون هو في مكان، والصلاة في مكانٍ آخر. الّذي يُحبُّ الله يسعى أن يكون يومه كلُّه استعدادًا للصلاة، وينشغل أقلَّ ما يمكن بالأمور الأرضيّة والعالميّة. إنّه يُعدُّ ذاته للصلاة قبل الصلاة. فحالة الذهن السابقة للصلاة هي الّتي تُحدّد نقاوة صلاته، لأنّ كلّ ما يكون في ذهننا قبل الصلاة سيَحضر لا محالة في أثناء الصلاة. فالذهن يتأثّر بكلّ ما مرَّ معه في الأوقات الّتي سبقت الصلاة.

يقول القدّيس أفرام: مَن يصلّي بذهنٍ مجتمع، صاحٍ، يُذلُّ الشياطين. أمّا الّذي يصلّي بتشتُّتٍ وعدم اكتراث، تسخر منه الشياطين. لهذا ينبغي أن توجد اليقظة في الصلاة، والانتباه لكلّ ما يخطر في ذهننا. شدَّد آباء الكنيسة على أنّه "ينبغي قتل أطفال بابل"، أي الأفكار الفاسدة والشرّيرة من بداية ظهورها.

إنّ الدخول إلى المخدع والصلاة هو انسحاب القلب من كلّ تشوُّشات الأفكار والاهتمامات الدنيويّة. وهذه دعوةٌ إلى الصلاة الشخصيّة. ينبغي لكلّ مؤمنٍ أن يكون له قانون صلاةٍ فرديّ يؤدّيه يوميًّا، صلاةٌ شخصيّةٌ مركّزة، تُزوّد الذهن بطعامٍ يوميّ للنفس الجائعة إلى معرفة الله، وهذه الصلاة الشخصيّة هي حاجةٌ ليستمرَّ ذكرُ الله فينا.

مواجهة التجارب

كما علّمنا المسيح أن نصوم، وهو صامَ لأجلنا في البرّيّة؛ وكما علّمنا أن نصلّي، وهو صلّى لأجلنا في الليالي؛ هكذا أيضًا، علّمنا كيف نواجه التجارب، وهو نفسه جُرِّبَ وصُلبَ لأجلنا. ووصيّته الأخيرة لنا كانت أن نسهر ونصلّي كي لا ندخل في التجارب. وهكذا، بحسب وصيّة المسيح، كانت الصلاة دومًا السلاحَ الّذي لا يتغيّر ولا يُغلب في التجارب والصراع ضدّ الشياطين. ينمو المؤمن في الصلاة والحكمة الروحيّة من خلال التجارب والحروب الروحيّة المتواصلة، الّتي يتلقّاها الذهن كلّ يوم في أثناء تحوُّله من الشرّ إلى الفضيلة، ومن الفساد إلى النقاوة. "إنّ محبّة الله للإنسان عجيبةٌ، فهو لا يُظهر قوّته الّتي تخلّص الإنسان إلاّ عندما يكون وسط التجارب الّتي تقطع منه الرجاء"16. مواجهة التجارب هي كمواجهة حسد الشياطين، تحتاج إلى صلاةٍ متواضعةٍ وصبر، والّذين تعبوا وصبروا وثبتوا مع المسيح في التجارب ولم يتذمّروا، هؤلاء سيُكافئهم المسيح لأنّهم أحبّوه واستمدّوا كلَّ قوّةٍ وثباتٍ من إيمانهم به.

إنّ الله يرى كلّ شيءٍ ويسمح بتجارب من جميع الأنواع. أوّل هدفٍ للتجارب هو اقتناء التواضع، الّذي من خلاله يعرف الإنسان ذاته على حقيقتها، يعرف ضعفه وحاجته إلى رحمة الله. من دون هذا الموت عن العالم، أي طريق التواضع، كلُّ صلاةٍ نؤدّيها، وإن كان بتعبٍ كثير، ستكون باطلة. لهذا، أولئك الّذين دخلوا الحرب الروحيّة يمكن أن يتخلّصوا من دائرة التجارب والمحن فقط بأن يعرفوا ضعفهم، وينظروا إلى أنفسهم كغرباء عن الصلاح، وغير مستحقّين أيّ تعزيةٍ أو شرفٍ أو راحة17.

من المهمّ جدًّا أن يعي الإنسان، حين يقف ليُصلّي، أنّه واقفٌ في حضرة الله. الله يرى ويسمع، لكن قد لا يُجيب حالاً. الله ينتظر أولئك الّذين بالإيمان يُصلّون، وبتواضعٍ كثيٍر وشعورٍ بعدم الاستحقاق يطلبون أوّلاً ما هو لخلاصهم. إلى هؤلاء يُصغي الله ويُسرع إلى معونتهم وتلبية حاجاتهم.

حاجة الصلاة إلى التوبة

كلُّ صلاةٍ لا توجد فيها توبةٌ هي صلاةٌ عقيمة. لا يستطيع الإنسان أن يقرَب الصلاة إلّا بروح الانسحاق والإحساس العميق بالخطيئة. ميزة إنسان الأيّام الأخيرة أنّه سيفقد الإحساس بالخطيئة، يعمل الخطيئة ولا يعي أنّه يُصبح خاطئًا. فروح العالم المعاصر شرّعت له الخطيئة وكلَّ الشهوات وأنواع الشذوذ، وفرضتها عليه وكأنّها حاجةٌ لطبيعته. لذلك فقَدَ الإنسان المعاصر الإحساسَ بالحاجة إلى التوبة وخوف الله. التوبة الحقيقيّة هي الّتي تعطي القلبَ أن يشترك في الصلاة والتضرُّع. لأنّ الصلاة الّتي لا يشترك فيها القلب، لا يمكنها أن تكون مسموعةً من الله. صلاة القلب هي الّتي تشتعل بمحبّة الله وتتّقد فيها حرارة الإيمان والغيرة على المقدَّسات.

فالتوبة تجمعُ الذهنَ المشتَّت في التخيُّلات الخارجيّة، وتردُّه إلى ذاته. التوبة ليست ندمًا على عملٍ أو خطأ ما اقترفناه، بل هي حالةٌ تبلغها النفس البشريّة، بعد أن تكون قد عرفَتْ ذاتها أنّها ترابٌ ورمادٌ مملوءةٌ خطايا وآثام. يقول القدّيس سمعان اللاهوتيّ الجديد إنّه ما لم تقترن التوبة بحزنٍ ودموع، فإنّها لن تكون توبة، ولن "يحصل تحوُّلٌ حقيقيّ، ولا مخافة الله في قلوبنا؛ ولن نُلقي بالملامة على أنفسنا؛ ولن تفكّر نفوسنا أبدًا في الدينونة الآتية والعقوبات الأبديّة"18.

دموع التوبة ليست سوى الختم على نقاوة الصلاة، ونقاوة الصلاة تُعبّر عن النموّ في نقاوة القلب، تلك الدموع الّتي ينبغي للنعمة أن تسكبها في النفس المصلّية. "الدموع الّتي تترقرق في الصلاة هي دليلُ رحمة الله، الّتي استحقّتها النفسُ بتوبتها المقبولة، ودليل دخولها روضة النقاوة". لكن إن لم تتجرّد أفكارُ النفس من كلّ ما هو عابرٌ وفانٍ، ويُنتزع منها كلُّ أملٍ بهذه الحياة الأرضيّة، ويتحرّك فيها ازدراء العالم، وتبدأ النفس بإعداد نفسها للخروج من هذا العالم، وتتولّد فيها أفكارٌ تهتمّ بأمور الدهر الآتي، فإنّ العينَين لن تستطيعا سكبَ العبرات19.

ثمّة مَن يصلّي وكأنّ الله مدينٌ له، كالفريسيّ، وثمّة مَن يصلّي بتواضع، وهو يعلم أنّه غير مستحقّ صلاحَ الله ذاته. حين نطلب شفاعة والدة الإله والقدّيسين، فنحن نُعبّر عن أقصى انسحاقنا، وعدم استحقاقنا لما نطلب.

هدف الصلاة هو اقتناء النعمة الإلهيّة

كلُّ ما نجاهد لأجله في النُّسك والصلاة والصوم والسَّهر، لا يعتمد فقط على قوانا وغصبنا أنفسَنا، وإنّما أوّلاً نستمدُّ طاقته وقوّته من هبات النعمة الإلهيّة. فنعمة الروح القدس، حين تسكن فينا، هي تُعلّمنا كيف نُصلّي، وما ينبغي أن نصلّي لأجله، لا بل هي تُصلّي فينا ولا تدعنا نتوقّف عن الصلاة. فكلُّ عملٍ وجهادٍ ووسائل للتغلُّب على الأهواء، ما لم تُرافقه الصلاة، يبقى عملاً بشريًّا. أمّا بالصلاة فيَصير عملَ النعمة الإلهيّة.

هذه النعمة نستمدُّها من ممارسة العبادة في الكنيسة، ومناولة أسرار المسيح. الصلاة نفسها من دون الحياة الكنسيّة تسقط بسهولةٍ في الضلال وتقبُّل إيحاءات شيطانيّة. وذلك لأنّ صلاة الكنيسة الليتورجيّة تُعلّمنا كيف نصلّي، وبأيِّ روحٍ نصلّي. الصلاة المستقيمة تولد من رحم الكنيسة المستقيمة. الصلاة هي حياة الكنيسة، من دون ممارسة العبادة في الكنيسة ومناولة أسرار المسيح لا توجد صلاة. عبر الإفخارستيّا، الكنيسة هي في حالة صلاةٍ شكريّةٍ لا تتوقّف؛ إنّها نبع النعمة الّذي لا ينضب عن تغذية العالم بالرحمة الإلهيّة وعطايا الحياة الأبديّة.

هذه الصلاة لا يمكن أن تكون مستقيمةً وقادرةً على أن تقود الإنسان إلى التوبة والخلاص، إن لم تأتِ من عقيدة الكنيسة وإيمانها. في الأرثوذكسيّة، الحياة الروحيّة والعقيدة مرتبطتان إحداهما بالأخرى. العقيدة في الأرثوذكسيّة ليست نظريّة، إنّما تكشف الإله الحقيقيّ الّذي نؤمن به. وكلُّ عقيدةٍ منحرفة، مهما كانت صغيرة، تُشوّه وجه الإله الّذي نؤمن به وتمسخه. فكيف يمكن أن توجد صلاةٌ حقيقيّة، أو تواصلٌ حقيقيّ، مع إلهٍ شوَّهت الهرطقة ومحرّفو الإيمان حقيقةَ وجوده. لا يوجد الله حيث لا يوجد إيمانٌ حقيقيٌّ مستقيمٌ به. في الأرثوذكسيّة، القداسة لا تنفصل عن العقيدة. والصلاة الأرثوذكسيّة هي عقائد الأرثوذكسيّة مسكوبةٌ في سرّ حياةٍ تُجاهد لتتّحد بالمسيح. الصلاة الأرثوذكسيّة ليست عملاً اجتماعيًّا يُمكن أن نشارك جميعَ البشر فيه، إنّما هي تجسُّدٌ كاملٌ للإيمان الأرثوذكسيّ. لهذا منعَت قوانين الكنيسة، على نحوٍ حازم، أيَّ شكلٍ من أشكال الصلاة مع غير الأرثوذكسيّين؛ لأنّ الإله الّذي نؤمن به لم يَعُد هو ذاته بعد انحراف الإيمان وعقائده.

محبّة الله ثمرة الصلاة

كلُّ جهادنا وتعبنا في النُّسك والصلاة، ينبغي له أن يتَّجه نحو محبّة الله وأن يرفعه إليها. محبّة الله ليست نظريّةً أو عاطفيّة، كما يفهمها غير الأرثوذكسيّين أو أصحاب المسيحيّة الأخلاقيّة، إنّما ثمرة التواضع وتعب النقاوة. يقول القدّيس إسحق السريانيّ: "الصلاة يسبقها الزُّهد، والزُّهد إنّما من أجل الصلاة. والصلاة إنّما لنقتني محبّة الله. لأنّنا بالصلاة نجد دوافع لنُحبَّ الله"20.

لقد فهم آباؤنا القدّيسون أنّ الصلاة ليست سوى الوسيلة الأساسيّة في تطبيق الوصيّة الأولى والثانية: "أحبِب الربَّ إلهك من كلّ قلبك ومن كلّ نفسك ومن كلّ قدرتك ومن كلّ فكرك، وقريبك كنفسك" (لو27:10). هدف الصلاة هو بلوغ محبّة الله، لهذا "المحبّة أعظم من الصلاة"21. أو كما يقول القدّيس اسحق، إنّ "المحبة هي ثمرة الصلاة"22. وصايا الإنجيل ليست ناموسيّة، كما يفهمها ويعيشها الّذين هم خارج الأرثوذكسيّة، العقلانيّون؛ هؤلاء صلاتهم نفسها تصير ناموسيّة، تصدر من العقل حصرًا، ولا تلمس القلب أبدًا. أمّا مَن يعيش الوصايا بقوّة إيمان ابن الله، مطعَّمًا بالنُّسك وخوف الله، يبلغ بسهولةٍ محبّة الله. وحده الجهاد النسكيّ يجعل قوّة حفظ الوصايا وفعلها يتحوّلان في الإنسان إلى محبّة الله وإلى صلاة، لا يتفوّق عليهما شيء. وتنمو محبّة الله في الإنسان الروحيّ حين يستطيع أن يصلّي لأعدائه كما يُصلّي لنفسه. مثل هذا يقتني دالّةً عظيمةً أمام الله في صلاته. فذِكر الّذين يُحزنوننا في الصلاة، يحوي إنكارًا عظيمًا لمحبّة الذات. لقد طلب منّا الربُّ أن نصلّي ونبارك، لا أن نلعن وندين، حتّى أعداءنا ولاعنينا. هدف الصلاة أن تشهد للحقّ، وتنشر سلامًا ورحمةً بين البشر، لا أحقادًا وحروبًا. من المستحيل أن يُصلّي أحدٌ وقلبه يحمل ولو القليل من الحقد أو الشرّ على أحد. وما من صلاةٍ مستجابةٌ بهذه القوّة لدى الله، كالصلاة الّتي يسأل فيها الإنسان بألمٍ الرحمة لأعدائه ومُضطهديه.

في كتاب "تعليم الرسل الاثني عشر"، الذي يعود إلى بدايات القرن الثاني، نجِدُ الصلاة والصوم لأجل الأعداء: "صلُّوا لأجل أعدائكم وصوموا لأجل الّذين يضطهدونكم"23.

نحن نجاهد في الصلاة وإنكار محبّة الذات، لكي نستعيد محبّتنا الأولى لله. ما دامت محبّتنا متّجهةً إلى ذواتنا، نشتهي الأرضيّات وأمور هذا العالم، ونفسنا ما زالت تستهويها الشهوات واللّذّات الدنيويّة. فنحن لا نحبُّ الله، بل في الأنانيّة نعيش، نحبُّ الخطيئة الّتي تتسلّط علينا وتستعبدنا. "لا أحد يستطيع أن يقتني محبّة الله وشوق الدنيا في الوقت نفسه، ولا أن يكون في شركةٍ مع الله وهو شريك العالم، ولا أن يهتمّ بالله إلى جانب اهتمامه بالعالم"24.

يقول الإنجيل عن حنّة النبيّة، الّتي تُذكر في عيد دخول السيّد إلى الهيكل مع سمعان الشيخ، إنّها كانت "لا تُفارق الهيكل متعبِّدةً بأصوامٍ وطلباتٍ ليلاً نهارًا" (لو37:2)، وذلك لأنّها كانت تنتظر مجيء المسيح، تعزية إسرائيل. حنّة هي صورةٌ حيّةٌ عن دعوة المسيحيّين في هذا الدهر؛ إنّهم يصومون ويصلّون منتظرين مجيء المسيح الأخرويّ، ليَدين شرَّ هذا العالم وفسادَه، ويُعيد تجديدَ الخليقة كلِّها في ملكوت أبيه السماويّ.

بالصلاة يستعيد الإنسان تلك الدالّة القديمة الّتي كانت لآدم في الفردوس؛ حين كان يتحدّث إلى الله وجهًا لوجه. بالصلاة يتحرّر الإنسان من إرادةٍ مريضةٍ ومن ميل النفس إلى الخطيئة. بالصلاة يكتشف مشيئة الله. بالصلاة يخضع الإنسان لمشيئة الله، ويتحرّر من مشيئته. بالصلاة يتحوَّل ذهنُ الخطيئة إلى ذهن المسيح. لقد علّمنا المسيح شيئًا أساسيًّا، أن نصلّي لنعمل مشيئة الله الآب، كما هو عمِلَها بملئها، وذلك لتتحقّق مشيئته، "كما في السماء كذلك على الأرض". مشيئة الله نطلبها حتّى ولو كانت مشيئةً للموت، موت الصليب.

"الصلاة هي بركةٌ عظيمة، تحتضن كلَّ البركات، لأنّها تنقّي القلب حيث به يرى المؤمن الله"25. هكذا القدّيسون دائمًا، وقت الصلاة نالوا كلّ المواهب الروحيّة والرؤى الإلهيّة. "فإنّ وقت الصلاة هو الوقت المؤاتي لفَيض الرِّضى الإلهيّ، إذ إنّ النفس تحصر ذاتها في همٍّ واحدٍ فقط... فأيُّ وقتٍ أقدس، وأكثر استئهالاً للتقديس بالمواهب، من وقت الصلاة، حينما يتكلّم الإنسان مع الله؟"26.

خلاصة

الصلاة الدائمة لله، في التوبة ونخس القلب وحفظ الوصايا، هي الطريق المختصرة للخلاص. الصلاة النقيّة تُنقّي النفس، وتمنح صفاءً للذهن، لكي يبلغ الاستنارة الإلهيّة ومعرفة التكلُّم باللاهوت. الصلاة حاجةٌ للخليقة، كحاجتها إلى نظام دورانها الخاصّ. يؤكّد القدّيس غريغوريوس بالاماس أنّ قوّة الصلاة هي الصِّلة بين الخليقة العاقلة والله. لهذا ينبغي ألّا تتوقّف أبدًا في هذا العالم، لأنّها حياة العالم وعلّة استمراره في الوجود. أخبرنا آباؤنا القدّيسون أنّ العالم سيَصِل إلى نهايته حين ستتوقّف الصلاة فيه، أو على الأقلّ حين تُصبح الصلاة كقنديل ٍخافتٍ جدًّا، غير قادرٍ على أن يُبيّن بعد ملامحَ أيقونة المسيح المضاء أمامها. هذه الحقيقة لا تتغيّر، الصلاة من دون انقطاعٍ هي حياة العالم الخفيّة. والقدّيسون المتعاقبون من دون انقطاع، وإن كانوا قليلين، صلواتهم هي حياةٌ للخليقة كالنفس للجسد. حيث لا يوجد روح الله، هناك حتمًا يسود روح الشيطان. وحيث لا يوجد مصلُّون حقيقيّون، هناك تسود نتانة الخطيئة. يقول إيفاغريوس: "لم نوصَ بأن نعمل من دون انقطاعٍ أو نسهر أو نصوم من دون انقطاع، لكنّها شريعةٌ لنا أن نصلّي من دون انقطاع" (1تسا17:5)27.

إنّ الأيّام الأخيرة ستكون صعبةً مملوءةً بالشرّ، لا لأنّ الشرّ أقوى من الخير، إنّما لأنّ الصلاة الّتي تُقاوم الشرّ ستتناقص كثيرًا، والبساطة والنقاوة الّتي كان يُصلّي بها المؤمنون تُفقد تدريجيًّا. إنّ العالم يسير نحو مصيره النهائيّ من دون رجعة. مَن يُحبّ الصلاة يحبّ الله حتمًا، ويتحدّث معه كابنٍ مع أبيه. الله يسمع كلَّ شيء، لكنّه لا يستجيب سوى للصلوات الّتي تصدر من قلوب البسطاء، والّذين عادوا وصاروا، بالتوبة والنُّسك، كالأطفال. هذه علامة الإيمان الحقيقيّ، أن تكون لدينا جرأة الأطفال، لأنّنا نرفع صوتنا بصمتٍ داخليّ، وندعوه قائلين له "أبانا". واقتناء صلاةٍ كهذه، صلاةٍ "بالروح والحقّ"، يحتاج إلى جهدٍ كبير. والنُّسك شاقٌّ يحتاج إلى ما لا يُحصى من التعب وإنكار الذات. كثيرون هم المسيحيّون الّذين يريدون خلاصًا، أو حتّى مواهب ورؤًى، من دون تعب الصلاة، وهذا مستحيل. لهذا نرى الروحَ ينطفئ بسهولةٍ في كنيسةٍ ما، حيث يصير سهلاً على الطبيعة البشريّة الضعيفة أن يتحوّل اهتمامها الرئيس من التركيز على الصلاة والنُّسك، إلى الاهتمام بالمؤسّسات وبالأمور الاجتماعيّة، الّتي قد يكون ظاهرُها محبّة القريب والخدمة، وأمّا داخلها فيكون ممزوجًا بما لا يُحصى من الأهواء البشريّة المريضة بمحبّة المال والسُّلطة والمجد الباطل.

كلّ جهادٍ اجتماعيّ لأجل خدمة القريب، ينبغي أن يُرافقه جهادٌ آخر روحيٌّ في الصلاة غير المنقطعة، لأجل تنقية القلب الداخليّ من الأهواء. لأنّه، بحسب القدّيس إسحق السريانيّ، بغير الصلاة المستمرّة لا يقدر أحدٌ على أن يقترب من الله. "يتمّ حلول الله في النفس عن طريق ذِكره الدائم، وهكذا نصبح هيكلاً له"28.

1 القدّيس باسيليوس الكبير، (Asceticos, B, PG. 31, 877A).

2 القدّيس إسحق السريانيّ، المقالة 81.

3 إيفاغريوس، (De Orat., 35, PG. 79, 1173)؛ القدّيس يوحنّا الدمشقيّ، (De Fide Orthodox, 24, PG. 94, 1089C).

4 إيفاغريوس، (De Oratione 43).

5 القدّيس يوحنّا الدمشقيّ، (De Fide Orthodox, 3, 24).

6 القدّيس غريغوريوس بالاماس، (ΕΠΕ. 2, 354-358).

7 القدّيس إسحق السريانيّ، المقالة 73.

8 القدّيس إسحق السريانيّ، الرسالة الرابعة إلى الأب البارّ سمعان العجائبيّ الّذي من القيصريّة.

9 القدّيس ثلاسيوس، (3rd Cent., 9, Phil.II, p. 319).

10 القدّيس ثيوليبتوس، (Texts, 9, Phil.IV, p. 190-191).

11 القدّيس إسحق السريانيّ، المقالة 85.

12 القدّيس سمعان اللاهوتيّ الجديد، (Practical and Theological Text, 102, Phil. IV, p. 46).

13 القدّيس كبريانوس، (Ep. 1, 15).

14 أوريجنّس، In Gen. 12, SC. 7, 212))St. Dorotheos, Instructions 1, 6, SC. 92, 15); ).

15 القدّيس إسحق السريانيّ، المقالة 33.

16 القدّيس إسحق السريانيّ، المقالة 19.

17 نيكيتاس ستيثاتوس، (On the Inner Nature of Things, 23, Phil. IV, p. 113).

18 القدّيس سمعان اللاهوتيّ الجديد، (Other Theological and Gnostic Chapters, 3, 23).

19 القدّيس إسحق السريانيّ، المقالة 33.

20 القدّيس إسحق السريانيّ، المقالة 35.

21 القدّيس سمعان اللاهوتيّ الجديد، (Practical and Theological Texts, Phil.IV, p. 58).

22 القدّيس إسحق السريانيّ، المقالة 69.

23 الآباء الرسوليّون، 1، 3، ص 61.

24 القدّيس إسحق السريانيّ، المقالة 4.

25 القدّيس إيسيخيوس الكاهن، (On Watchfulness and Holiness, 62, Phil. I, p. 173).

26 القدّيس إسحق السريانيّ، المقالة 32.

27 إيفاغريوس، (Λόγος Πρακτικός, 49, SC. 171, 610).

28 القدّيس إسحق السريانيّ، المقالة 13، 58.



آخر المواضيع

الإيمان والتواضع لدى الكنعانيّة
الفئة : عظات اﻷرشمندريت غريغوريوس اسطفان

الأرشمندريت المتوحّد غريغوريوس اسطفان 2024-02-17

الشذوذ الجنسي ومعصيته
الفئة : عظات اﻷرشمندريت غريغوريوس اسطفان

الأرشمندريت غريغوريوس اسطفان 2024-01-17

الخطيئة وشرور الحروب
الفئة : عظات اﻷرشمندريت غريغوريوس اسطفان

الأرشمندريت غريغوريوس اسطفان 2024-01-14

النشرات الإخبارية

اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني

للإتصال بنا