الكاهن الصالح
نقلاً عن نشرة الكرمة
العدد 40
الأحد 30 تشرين الأول 2022
الأحد 20 بعد العنصرة
الكهنوت المسيحيّ هو وظيفة سماويّة لا أرضيّة؛ لأنّ الكاهن الحقيقيّ هو موكل من الله لا من بشر، والهدف هو أوّلاً وأخيرًا قيادة شعب الله إلى ملكوت السماوات. فرضٌ على كلّ مسيحيّ أن يسعى لخلاص نفسه، وهذا يحتاج إلى قائد ومعلّم يقوده ويُعلّمه فنّ الخلاص. الكاهن الأرثوذكسيّ هو هذا القائد والمعلّم، المدعوّ، بنعمة الكهنوت المعطاة له، ليُقيم الأسرار الإلهيّة ويُعين آخرين ليخلصوا. لكن ينبغي أن يكون هو نفسه قد وجد طريق خلاصه ويعمل لأجله بجدّيّة تامّة. فرغم كلّ أهميّة العمل الرعائيّ والتعليم الّذي يؤدّيه الكاهن، إلا أنّ حياته في المسيح، وجهاده في حياة التقوى والفضيلة تسبق كل عمل. عمل الكاهن الرئيسيّ هو روحيّ، لكن بسهولة يتحوّل عمله من النشاط الروحيّ إلى الاجتماعي، وذلك نتيجة عاملَين: ضعف حياته الروحيّة، بخاصّةٍ صلاتُه؛ والعامل الثاني، يأتي كنتيجة للأوّل، تأثير الرعيّة عليه، بسبب هذا الطغيان للعامل الاجتماعيّ على الروحيّ فيها. لهذا، جديّة كاهن المسيح تظهر في سعيه لتقديس نفسه، فلا يستطيع أن يُقاوم كلّ تأثير خارجيّ دنيويّ عليه فقط، إنّما هو يؤثّر في رعيّته ويوجّه ذهنهم وحياتهم بطريقة روحيّة، لما فيه خلاص نفوسهم.
لقد فصل الإنجيل بشكل جذريّ بين روح الله وروح العالم. مستحيل مقاومة روح العالم في النفس البشريّة من دون حياة نسكيّة. محبّة الكاهن للمسيح تظهر في زهده بهذا العالم وكلّ ما فيه، وتظهر أيضًا في شوقه للصلاة والصوم، وفي سهره في حرب لا تملّ ضدّ أهوائه وخطاياه. لا ينبغي أن تتوقّف صلاة الكاهن الشخصيّة ولا ليوم واحد، ولا أن يكسر صومه أبدًا مهما كان الظرف الرعائيّ الّذي يوجد فيه. إنّها خطيئة واستسلام لروح هذا العالم وشهواته كلّها، وعثرة للآخرين وتشجيع لهم على التهاون في أصوامهم. لهذا ذكرتها القوانين الكنسيّة بصرامة.الله يقبل بفرح أصوام كهنته، إنّه دليل مقتهم لشهوات الخطيئة؛ ويستمع بقوّة صلاة أولئك الّذين يُجاهدون لأجله، إنّه دليل محبّتهم له أكثر من محبّتهم لذواتهم؛ هؤلاء يرضونه بالإيمان والعمل. يظنّ البعض أن أعمالنا وخدمتنا كافية لترضي الله، لكن من دون الإيمان القويّ والمستقيم بمسيحنا، أعمالنا مهما كانت عظيمة فهي ليست سوى خرقة فاسدة أمامه.
أكثر مكان تتجلّى فيه محبّة الكاهن للمسيح هو سرّ الشكر. والاشتراك في هذا السرّ يتطلّب نقاوة للجسد والنفس. يتهيّأ الكاهن لشركة الأسرار بالصلاة والصوم من الليلة السابقة. يتهيّأ بكثرة الهدوء، وبقانون صلاة يوميّ. الهدوء والصلاة يُعطيان الكاهن حالة يقظة داخليّة، ليقدر على فحص أفكاره كلّ ليلة، وتنقية ذهنه من كل فكر سيّء أو حقد، خاصّة تُجاه الّذين يُسيئون إليه. على الكاهن أن يُصلّي للمسيئين إليه ويتصالح معهم، مُعتبرًا أن الله يُرسل له مثل هؤلاء ليحفظ نفسه في التواضع. وحده التواضع الكثير يُعطي الكاهن أن يعرف ذاته ويرى زلاته خطايا، فلا يُبرّرها بل يتوب عنها. والتوبة هي الشرط الأوّل ليستحقّ الاشتراك في الأسرار الإلهيّة.
فالرعيّة تشعر بفضيلة الكاهن وحياة التقوى التي يعيشها، إن كان يصليّ ويصوم ويتوب ويغفر ويُحبّ. وفي الوقت ذاته تشعر بجشعه وأهوائه كلّها. فنعمة الكهنوت لا تستر أهواء الكاهن. أخطر هذه الأهواء، شهوات الجسد، محبّة المال، الغضب، الغرور، التبجّح والمزاجيّة. بمقدار ما تكون هذه الأهواء قويّة فيه، بمقدار ما يكون الوقوع في فعل الخطيئة محتّمًا. بداية سقوط الكاهن هي انقطاعه التدريجيّ عن الاعتراف لأبٍ روحيّ بأهوائه وخطاياه، ويكتمل هذا السقوط حين يرى ذاته كاملاً في كلّ شيء، ولا يتقبّل أيّ انتقادٍ مِن أحد. متى فَقَد الكاهن حياتَه كَابنٍ يفقد حالاً مكانته كأبٍ. حين تتراكم الخطايا لا يعود يراها خطايا لأنّ الشيطان يُبرّرها له، ولا يُذكّره بها بل بمآثره فقط. ينمو التكبّر تدريجيًّا في الكاهن حين يبدأ بتقبّل أفكار ممزوجة بالاستعلاء والعظمة عن نفسه، بسبب مواهبه وبسبب إكرام رعيّته وثقتهم به. رفض إكرام الناس، لا بل احتقاره والهرب منه، هو بداية الخلاص؛ معتبرًا نفسه أقّل الناس وأنّه هو غير المستحقّ، برحمة الله ورأفته قد أعطي أن يمسك بيديه القدسات ويُقيم هذه الأسرار المرهوبة، حتّى على الملائكة. الله يُحبّ المتواضعين لأنّهم يتوبون، ويُقاوم المتكبّرين.
في عصر العولمة الدينيّة والمساومة، على الكاهن أن لا يتنازل عن أيّ جزء من الحقيقة لكي يُرضي رعيّته، لا من جهة الإيمان ولا من جهة الوصايا. ليثق الكاهن أن الله سينير المتواضعين ليقبلوا أن يتغيّروا ويعتنقوا هذه الحقيقة التي علّمتها الكنيسة ومجامعها المقدّسة. فيما المتكبّرون يُقاومون هذه الحقيقة ويزدادون إصرارًا على أفكارهم الخاصّة وقناعاتهم التي يستوحونها من روح المساومة. إنّ صورة موسى وتذمّر الشعب عليه لأربعين سنة في البريّة هي صورة عن التجارب التي يمكن أن يلقاها الكاهن الّذي يسعى لخلاص شعبه، في أيّة رعيّة. كم يحتاج الكاهن إلى نفس صلبة بالنعمة، كي لا يضعف ويرضخ، وصلاة كثيرة لشعبه، ليُنيرهم الربّ في معرفة الحقّ، وبدموع يطلب لهم توبة للخلاص. صلاة التوبة تجتذب نعمة الروح القدس، ليكون الله هو قائد هذا الشعب، والكاهن ليس سوى أداة لله، كموسى آخر. على الكاهن أن يُنمّي دائمًا إيمانه بالله، ويتّكل على الله وحده في رعاية شعبه لا على نفسه. تحتاج الرعاية إلى صبر، والصبر إلى الصلاة، والصلاة إلى إنكار لمحبّة الذات. عليه أن يُحبّ الخطأة لا أن يدينهم ويتجنّبهم.
على الكاهن أن لا يتعب من ذكر الأسماء في الذبيحة الإلهيّة، وطلب مغفرة خطاياهم، الأحياء والّذين رقدوا. الصلاة والذبيحة الإلهيّة التي تُقدّم لأجل حياة العالم أجمع، قبل أن تأتي دينونة هذا العالم، هي التي تُبقي نعمة الله فاعلة في هذا العالم وسط كل هذه الشرور والآثام. إن أسماء هؤلاء، التي تُذكر مع والدة الإله والقدّيسين، تُمزج مع دم المسيح الّذي أهرق لأجل خلاصنا، لتذكر على المذبح السماويّ في تلك الليتورجيا الإلهيّة التي تتّحد فيها السماء والأرض، الأحياء والراقدون. لهذا أيضًا ينبغي أن تُقام الذبيحة الإلهيّة أيّام السبوت، المكرّسة للراقدين، في كلّ مكان وفي كلّ الرعايا. إنّه واجب ضروريّ على الكاهن أن يُذكّر المؤمنين دائمًا بالصلاة لراحة نفوس إخوتهم الّذين رقدوا والمحتاجين إلى هذه الذبيحة المقدّسة. فهم ما زالوا أحياءً، وشركاء معنا في جسد المسيح الواحد. ليثق الكاهن أنّه يُساهم في تعزية هذه النفوس وراحتها من خلال ذكرها في الذبيحة الإلهيّة. قداس السبت ضروريّ كقدّاس الأحد، الّذي فيه نُجاهد ونصلّي لأجل قيامة أحبّائنا.
كيف يُصبح الأسقف والكاهن خلفاء حقيقيّين للرسل ومشتركين في هذه السحابة من الشهود؟
لا يكفي وضع الأيدي. وضع اليد والتسلسل الرسوليّ نفسه يُبطَلُ بمجرّد الاِنحراف، ولو البسيط، من جهة عقائد الإيمان. فالحقيقة الأرثوذكسيّة هي فوق كلّ شيء، هي العقيدة المستقيمة وهي المحبّة ذاتها وكلّ فضيلة أخرى؛ وهي الشريعة الوحيدة التي يُبنى عليها كلّ خلاص في المسيح. التعليم والدفاع عن الإيمان هو واجب لا ينفصل عن كهنوت الأسقف والكاهن. إنّه لهذا أقيم أوّلاً، ليرعى شعب الله، لكن في مراعي الإيمان المستقيم، لا في صحاري التعاليم الملتوية وروح العصر. الأسقف هو أوّلاً حارسٌ غيورٌ لوحدة الكنيسة في وحدة الإيمان الأرثوذكسيّ؛ في زمن تشريع الهرطقات كتشريع الشذوذ، وتذويب الحقيقة الأرثوذكسيّة فيها. يقول القدّيس ثيوذوروس الستوديتيّ: "لأنّها وصيّة الربّ، أن لا نبقى صامتين حين يكون الإيمان في خطر. تكلّم، كما يقول الكتاب، ولا تحجب سلامك... لهذا السبب، أنا، المرثيَّ له، أتكلّم خائفًا من دينونة الله".
ليست المعرفة أو الشهادات العلميّة معيارًا للكهنوت، إنّها أمور مساعدة فقط. المعيار هو نقاوة الإنسان الداخليّة وجهاده الروحيّ بالطاعة، وأمانته المطلقة للإيمان الأرثوذكسيّ وتقليد الكنيسة. هذه هي شروط عامّة للكهنوت تكلّم عنها آباؤنا القدّيسون، وإلا سيكون الكاهن عبئًا على الكنيسة يملؤها من العثرات. وسيحاسب الأسقف على كلّ شرطونيّة لا تستوفي هذه الشروط، خاصّة ما يتعلّق بالإيمان.
يتحدّد الكاهن الأصيل بالمسيح من خلال الطاعة، لا السلطة. السلطة تكون كاملة وشرعيّة حين تُبنى على الطاعة. الطاعة تكون محصورةً في الأمانة المطلقة للعقائد والقوانين التي حدّدتها كنيسة المسيح الواحدة. وصايا المسيح وقوانين الكنيسة هي شرعة إلهيّة ينبغي أن تبقى حاضرة أمام عينَيِ الكاهن مساءً وصباحًا. هذا جهاده في عالم أبطل كل شريعة مقدّسة أرادها المسيح لعالمه. في هذا الزمن الأخير الّذي يُبشّر علنًا وبإصرار بناموس ضدّ المسيح. ألَم يَرِث الأسقف موهبة النبوءة التي كانت في أنبياء القرن المسيحيّ الأوّل. إنّه أقيم نبيًّا ليعلن الحقّ ويكشف لرعيّته الضلال الآتي. لقد دخلنا الزمن الأخير وينتظر الأمناء للمسيح من يكشف لهم روح ضدّ المسيح الّذي يعمل الآن بقوّة في العالم.
الأسقف والكاهن الّذي خُدع بهذه العولمة الدينيّة، التي تنشرها الحركة المسكونيّة المعاصرة، وباسم المحبّة يمزج الحقيقة الأرثوذكسيّة مع الضلالات المختلفة، أيّ خلاص سيقدّم لرعيّته؟ لن يُقدّم لهم سوى مثال سيّئ وإيمان فاسد.
أنَسِيَ الأسقف والكاهن أنّه ما زال يحمل الحَمَل الّذي أُسلم له في شرطونيّته، وديعة ليُسلّمها كما تسلَّمها، وديعة الإيمان الأوّل والمحبّة الأولى.
آخر المواضيع
آباء الفيلوكاليا
الفئة : عظات اﻷرشمندريت غريغوريوس اسطفان
من هم الروم الكاثوليك؟ (1724 - 2024) (3/3)
الفئة : عظات اﻷرشمندريت غريغوريوس اسطفان
من هم الروم الكاثوليك؟ (1724 - 2024) (2/3)
الفئة : عظات اﻷرشمندريت غريغوريوس اسطفان
النشرات الإخبارية
اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني