موضع القلب لدى القدّيس غريغوريوس بالاماس
موضع القلب لدى القدّيس غريغوريوس بالاماس
نشرة كنيستي، العدد 12، 20 أذار 2022
في التّقليد الرّهبانيّ النّسكيّ، الكلام عن القلب يرتبط بالكلام عن الهدوئيّة. فالقلب ليس مركزَ حياة الجسد فقط، أو مكانًا للأحاسيس والمشاعر العاطفيّة؛ بل أيضًا مركز الوجود الرّوحيّ للإنسان. إنّه يُشير إلى الإنسان الدّاخليّ، أي المكان الّذي يختبر فيه الإنسانُ إعلاناتِ الله له وعجائبَه، والمكان الّذي يلتقي فيه الإنسان مع الله؛ لهذا السّبب، استند القدّيس بالاماس، في لاهوته، على مبدإ استخدام القلب، لمواجهة العقلانيّين الّذين وضعوا ثقتهم في العقل فقط، ومنه كانوا يستمدّون معرفتَهم المجرّدة عن الله، غير المستنِدة على أيّة خبرة واقعيّة حقيقيّة. فالقدّيس بالاماس ميّز بين معرفتَين: الأولى هي أن تعرف شيئًا عن الله، وهذا عمل العقل، والثّانية هي أن تعرف الله نفسه، وهذا هو دور القلب.
الهدوئيّة هي اصطلاحٌ لاهوتيٌّ نسكيّ، ولا تعني الهدوءَ الخارجيّ فقط؛ إنّما هي طريقة حياة روحيّة، تهدف إلى رصد الأفكار، والسّيطرة عليها، وبلوغ التّنقية الكاملة من الأهواء عبر اليقظة الرّوحيّة، وممارسة الصّلاة النّقيّة. لهذا السّبب، يُسمّيها القدّيس بالاماس الهدوءَ المقدّس، ويصفها بفنّ الفنون.
والقلبُ، الّذي هو الهدفُ الأساسُ للحياة الهدوئيّة، مرتبِطٌ أيضًا بالذّهن: بحسب القدّيس بالاماس، وباتّفاقٍ مع الخبرة الآبائيّة، إنّ القلبَ هو المكانُ الّذي يستقرّ فيه الذّهن، وهو قابلٌ للتّنقية أو للفساد. فمن خلال حركة الأفكار في الذّهن، يمكن أن يعرف الإنسانُ نقاوةَ قلبِه أو نجاستَه. يتكلّم بالاماس عن الذّهن الّذي أخذ يتبعثر بعد السّقوط، عبر الحواسّ، في أمور الخليقة، بدلاً من أن يتأمّلَ في عظمة الخالق، كما كان قبلاً. إنّ أعظم نشاط للذّهن، هو في عودته إلى ذاته ومعاينة ذاته الدّاخليّة، ومن هناك ينزل إلى القلب، الّذي ينتمي إليه أصلاً، ليلتقيَ مع الله ويتّحدَ به.
إنّ إحدى القضايا العقائديّة الجَدَليّة، الّتي واجهها بالاماس والهدوئيّون، كانت مسألة معاينة الله. مستندًا على الآية الإنجيليّة: "طوبى لأنقياء القلوب لأنّهم يُعاينون الله" (مت8:5)، يقول بالاماس إنّ هناك وسيلة وحيدة لهذه المعاينة: هي نقاوة القلب. الكتاب بأكمله يشهد للنّقاوة هذه: "قلبًا نقيًّا اُخلق فيّ يا الله"، وأيضًا، "يا بنيّ أعطني قلبَك" (أم26:23). يطلب الرّبّ دائمًا تنقيةَ القلب؛ القلب هو المكان الّذي تُطبَّق فيه وصيّةُ محبّةِ الله والقريب، من كلّ الكيان البشريّ. ويُقرّ بالاماس أنّ معرفة أشياءَ عن الله، هي متاحةٌ حتّى لغير أنقياءِ القلوب؛ أمّا تلقّي الاستنارة من الله، فيتطلّب حتمًا تنقية القلب.
مسيرة المسيحيّ لاقتناء هذه النّقاوة، تتطلّب جهادًا نسكيًّا حقيقيًّا ضدّ الأهواء الّتي تلوّث النّفس، وتمنعها من الاقتراب من الله. يُشدّد القدّيس بالاماس على اليقظة، والصّلاة، والصّوم، والسّهر، وتعب الجسد، أنّها الوسائل النّسكيّة لاقتناء حالة اللّاهوى، أي التّطهّر الكامل من الأهواء. منذ القِدَم، أولئك الّذين بلغوا نقاوة القلب، كانوا هم نفسهم الّذين اقتنَوا حالة اللّاهوى. اللّاهوى يحطّم في المؤمن كلَّ تعلّق أرضيّ، وكلَّ شرودٍ للذّهن؛ فيصير الذّهنُ قادرًا على الصّلاة النّقيّة غير المنقطعة؛ هذه الصّلاة النّقيّة، صلاة يسوع، تمنح المؤمنَ عطيّةَ الهدوئيّة الأرثوذكسيّة، الّتي تُحرّر ذهنَه من هجَمات المنطق البشريّ، ومن كلِّ صورةٍ أو تخيّلٍ أو قلَق؛ هذه الصّلاة النّقيّة، تُساهم بشكل جذريّ في اتّحاد الذّهن بالقلب: هذا الاتّحاد - بعد أن يكون الذّهنُ قد تجمّع إلى ذاته وتنقّى من أفكار الأهواء كلّها، بفعل الممارسة المتواصلة للصّلاة الهدوئيّة، واليقظة على حركات الذّهن والقلب - يجعلُ القلبَ يُردّد الصّلاة بشكل متواصلٍ وتلقائيّ. إنّها صلاة القلب غير المنقطعة، الّتي تقود إلى معاينة الله، وهي الّتي تجعل الرّبّ يسوع المسيح مركزَ وجودِ الإنسان. "أنا نائمة وقلبي مستيقظ" (نشيد2:5): هذه هي حالةُ الصّلاة المستمرّة في القلب بغير انقطاع. ويُعيد بالاماس كلماتِ الرّسول، الّذي يخبرنا إنّه في القلب الطّافح بالصّلاة، نصرخ "أبّا أيّها الآب". ويعي الهدوئيُّ معنى كلمات المسيح "ملكوت الله داخلكم" (لو21:17)، أنّها ليست سوى اختبارٍ أو تذوّقٍ مسبقٍ لهذا الملكوت، في هذه الحياة الأرضيّة ذاتها. وفي رسالته إلى الرّاهبة كساني، يتكلّم بالاماس عن سلام الأفكار - الّذي يمنحه الآب لأولئك الّذين قدّموا له ذهنًا نقيًّا صافيًا، وصلَّوا إلى الآب "في الخفية" (مت6:6) - إنّه العطيّةُ الّتي تحوي في داخلها العطايا كلَّها.
الطّريق إلى نقاوة القلب، تحتاج إلى كمّيّة هائلة من التّواضع. وهي تبدأ بالطّاعة وحفظ الوصايا، وتكتمل عبر توبة كيانيّة، وإحساسٍ عميقٍ بإيمان الكنيسة المستقيم.
آخر المواضيع
آباء الفيلوكاليا
الفئة : عظات اﻷرشمندريت غريغوريوس اسطفان
من هم الروم الكاثوليك؟ (1724 - 2024) (3/3)
الفئة : عظات اﻷرشمندريت غريغوريوس اسطفان
من هم الروم الكاثوليك؟ (1724 - 2024) (2/3)
الفئة : عظات اﻷرشمندريت غريغوريوس اسطفان
النشرات الإخبارية
اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني