القديس باييسيوس فيليتشكوفسكي: أبٌ هدوئيٌّ عظيم (4/8)
إيروثيوس ميتروبوليت نافباكتوس
تعريب شادي مخّول
3) مُرشدٌ روحيٌّ لمئات وآلاف الرُّهبان
بما أنَّ القدّيس باييسيوس قد اختبر في قلبه حلاوة السَّكينة والصَّلاة القلبيَّة، فقد جذب، بدون قصد، الكثير من الناس والرُّهبان الذين تحلَّقوا حوله طالبين هذا النهج الرُّوحيّ.
أمضى ثماني عشرة سنة في جبل آثوس (1746-1763). مكث بدايةً في كوخٍ صغيرٍ مجاورٍ لدير الباندوكراتور، وحَظِيَ بالسَّكينة مدّةَ عامَين ونصف ملتهبًا بالشوق الإلهيّ للجهادات العظيمة. أقبل عِدَّة رهبانٍ ليعيشوا إلى جانبه، فأصبحوا مُجبَرين على بناء كوخٍ ثانٍ على مُرتَفَعٍ أعلى، وبعد ذلك أقدَموا على شراء قلّاية القدّيس قسطنطين. ضمَّت الأخويَّة رهبانًا ناطِقين بالرُّومانيَّة والسلافيَّة. وقد اقتبل القدّيس باييسيوس حينها السّيامة الكهنوتيَّة بعد أن ضغط عليه الآباء الرُّوحيون الموقَّرون، بهدف خدمة الأخويَّة.
اجتمع هناك عشرون راهبًا تحت إرشاده الرُّوحيّ، ثمَّ انتقلوا إلى إسقيط النبي إيليَّا. كانت الخدمات تُقام باللُّغتين السّلافيَّة والرومانيَّة. أمَّا من جهة العمل اليدويّ، كانوا يصنعون ملاعقًا ويبيعونها بهدف اقتناء الضروريَّات وتقديم الضيافة للزوَّار. يكتب مطروفانيس: «كان يُنجِز أبونا عملًا يدويًّا ضعف ما كان يُنجزه بقيَّة الإخوة، أمَّا ليلًا فكان ينكبُّ على نسخ الكتب. كانت حياته عبارة عن سهرانيَّة طول اللَّيل، لَم يَقوَ على النّوم أكثر من ثلاث ساعات». ذاع صيته في الجبل المقدَّس فأقبل إليه كثيرون للاعتراف، حتى البطريرك سيرافيم الذي أقام في دير الباندوكراتور.
ذهب لفترةٍ وجيزةٍ بِصُحبة بعض الرُّهبان إلى دير سيمونوبترا المقدَّس لكنَّ الدير كان مَديونًا حينها، لذلك لم يتمكّنوا من المكوث هناك لفترة طويلة. إلّا أنّه بطريقة العيش هذه أنار جبل آثوس بكامله، وتعجَّب كلّ الآثوسيُّين من تألُّق نوره.
عندما كبرت الأخويَّة في إسقيط النبي إيليَّا ولم يعد المكان يسعهم، شاء الله أن ينقلهم إلى مولدوفا الأرض الأرثوذكسيَّة. وتبعه إلى هناك ستة وستون راهبًا.
استقرَّ القدّيس باييسيوس ورهابنه في دير دراغوميرنا وعانوا الكثير من المتاعب في إعادة ترميمه، واتَّبعوا فيه نظامًا آثوسيًّا. نظَّم تيبيكونَ حياة الشركة مستندًا على تيبيكون القدّيس باسيليوس الكبير وكتاباته. «يجب التزام الصَّمت والصَّلاة في الأماكن العامَّة». «في القلالي، يجب قراءة أعمال الآباء المتوشِّحين بالله، وتأدية الصّلاة النّوسيَّة عبر القلب بمهارةٍ ودقَّة وضبط النَّفَس بخوف الله، لأنَّ هذا هو مصدر محبَّة الله والقريب، ومصدر كلّ فضيلةٍ». كان هناك اعترافٌ بالأفكار كلَّ ليلةٍ، لأن «هذا هو أساسُ الخلاص والسَّلام والسَّكينة والمحبَّة». نسكَ في هذا الدَّير أكثر من مئتَي راهب.
لقد علَّمَهُم كأبٍ ومعلِّمٍ للصلاة القلبيَّة. اعتاد أن يعلِّمهم خلال الأصوام، كما في فتراتٍ أخرى. «كانوا يلتئمون يوميًّا في قاعة الطَّعام ليلًا ما عدا أيّام الآحاد وفي الأعياد ويُضيئون شمعة، وكان أبوهم المبارك يجلس في مكانه المُعتاد. كان يفتح كتابًا آبائيًّا، مثلًا كتاب القديس باسيليوس «في الصَّوم»، أو القديس يوحنَّا السلَّمي أو القديس دوروثاوس أو القديس ثيوذوروس الستوديتي». ثمَّ كان يُفسِّر بعض المقاطع التي قرأها انطلاقًا من خبرته الرُّوحيَّة.
مكثوا اثنتي عشرة سنة (1763-1775) في دير دراغوميرنا المقدَّس، وخلالها استقبلوا حشدًا كبيرًا من النَّاس وخدموهم إثر أحداث الحرب الروسيَّة-التركيَّة. في تيبيكون الدَّير الذي وضعه القدّيس باييسيوس سنة 1763 «أدركَ أنّ رئيس الدَّير عليه أن يتقن ثلاث لغاتٍ: اليونانيَّة والسلافيَّة والرومانيَّة».
ومع تمركز الألمان (النمساويون) في الدَّير، أدرك القديس أنَّه لا يمكنه العيش تحت سلطة البابويّين، فانتقلوا تدريجيًّا، بحزن وألمٍ بَليغَين، إلى ديرٍ آخَر هو دير سيكو.
يكتب مطروفانيس عن انتقال الأخويَّة من دير دراغوميرنا: «لقد تعرَّضنا للاضطهاد من قِبَل الألمان فابتعدنا من تلقاء أنفسنا عن دير دراغوميرنا، لئلَّا يُمَسّ إيماننا الأرثوذكسيّ من هؤلاء الهراطقة ومن سلطاتهم العلمانيَّة التي لبثت هناك». ويكتب، مفتكرًا بالحياة التي عاشوها في ذاك الدَّير: «دراغوميرنا، دراغوميرنا الأجمل ويا تعزية نفوسنا، ما زلتُ أذكر الحياة التي عِشناها فيك. لكن من الأفضل أن نصمت لئلا تملأ مرارةُ فُقدانِكَ قلوبَنا... كنتَ بالنسبة لنا فردوسَ حُبورٍ، كنتَ بالنسبة لنا كحديقةٍ امتدَّت جذورها بسرعةٍ قرب المياه، وأعطت الأزهارُ فيها أريجًا وثمارًا».
هكذا انتقلوا من دير دراغوميرنا سنة 1775 إلى دير سيكو حيث أجهدوا أنفسهم محاولين إعادة بناء القلالي لتتمكَّن الأخويَّة من الاستقرار. كان المكان هادئًا ومُقفرًا. وصلت حالة الأخويَّة، بعد جهادٍ طويلٍ دام ثلاث سنواتٍ، إلى الحالة التي عاشوها سابقًا في الدير القديم، هذا كان مَبعَثَ فرحٍ للقدّيس باييسيوس فمجَّد الله. لكنَّ الأمير قسطنطين موروسيس حثَّ القدّيس باييسيوس على الاستقرار في دير نيامت. لم يُرِد قِدّيسُنا نقلةً كهذه بعد كلّ الصِّعاب، لكنَّه في النّهاية خضع مُطيعًا لرغبة الأمير.
انتقل عام 1779 جزءٌ من الأخويَّة إلى دير نيامت. وكانت عدَّة صعوباتٍ تنتظرهم من ناحية ترميم هذا الدَّير المقدَّس، وقد أحزن هذا القدّيس باييسيوس لأنَّه كان عملًا صعبًا عليه.
شيَّد القديس باييسيوس في هذا الدَّير مستشفى ومضافة للمسنّين والعميان والعرج الذين أتوا إليه راجين أن يقبلهم ويعطيهم رحمة. بلغ عدد الرّهبان هنا ثلاثمئة راهب من ضمنهم السّاكنين في الأساقيط. وهكذا، قبيل نهاية حياة القدّيس باييسيوس، تحلَّق حوله في دير نيامت حوالي سبعمئة راهب. كُتبَ في سيرة حياة القدّيس نيقوديموس الآثوسي، كما سنرى لاحقًا، أنَّ عددَ الرُّهبان الذين كانوا تحت إرشاد القدّيس باييسيوس الرّوحيّ تجاوز الآلاف. تُشير المعلومات إلى أنَّه في دير نيامت «عاش رُهبانٌ من عشرة جنسيَّاتٍ مختلفة، من مولدافيّين وصرب وبلغار وهنغاريّين ويونانيين ويهود وأرمن وأتراك وروس وأوكرانيين». رقد القدّيس في هذا الدير سنة 1794.
لقد وجد القدّيس باييسيوس طريقَ الهدوئيَّة والصلاةَ القلبيَّة إلى أن فاض قلبُه بنعمة الله، وبعد ذلك علَّم طريقة العيش هذه للرهبان الذين توافدوا إليه من كلِّ صوبٍ مبتغين سماع الحكمة الإلهيَّة الخارجة من فمه، ولا سيَّما من قلبه.
المصدر:
https://www.johnsanidopoulos.com/2013/11/saint-paisius-velichkovsky-great_19.html
آخر المواضيع
تيك توكر يونانية شهيرة تصبح راهبة أرثوذكسية
الفئة : مواضيع متفرقة
تَقريظٌ لقطع رأس النّبيّ السّابق المجيد يوحنّا المعمدان
الفئة : مواضيع متفرقة
مَحبَّةُ الذّات: هوى عصرِنا الحاضر
الفئة : مواضيع متفرقة
النشرات الإخبارية
اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني