نظريَّة التَّطَوُّر الداروينيّة والنفس البشريَّة
القديس نكتاريوس العجائبي أسقف المدن الخمس
تعريب: شادي مخول وماهر سلّوم
هذا النص مُقتَبَسٌ من دراسة القدّيس نكتاريوس للنفس البشريَّة، وهو يدافع هنا عن مكانة الإنسان ضدّ تفسيرات المذهب الطبيعيّ[1] (naturalism) عن أصل النفس البشريَّة. في حين أن نظريَّة التَّطَوُّر التي أنشأها داروين تزعم أنَّ الإنسان، نفسًا وجسدًا، ينحدر من الأشكال الأدنى للحياة، يعلِّم اللَّاهوت الأرثوذكسي، كما شرحه القديس نكتاريوس وكُتَّاب كنسيُّون آخرون، أنَّ الله قد أعطى لنفس الإنسان أصلًا إلهيًّا. نفس الإنسان العاقلة هي على صورة الله، وهدف الإنسانِ هو اقتناء الرُّوح القدس ليصير على مثال الله. هذا الأمر يميِّز الإنسان بشكلٍ جوهريٍّ عن الحيوان. لا يُعلِّق القدّيس نكتاريوس على جسد الإنسان معترفًا بأنَّه مشابهٌ لجسد الحيوان، كما يقول عدَّة كُتَّاب أرثوذكسيون آخرون، لأنّ جسد الإنسان هو جزءٌ من الكون الماديّ الذي يمكن للعلم أن يدرسه وأن يعرف عنه.
أولئك الذين يُنْزِلون الإنسان إلى رتبة الحيوانات غير العاقلة، ويُشبِّهون نفسه بأنفس الحيوانات، ينكرون سُموّ النفس وصِفاتِها الفريدة وقِواها الروحيَّة، ومصير الإنسان الأسمى. إنَّهم عُميانٌ وغير قادرين أن يُبصروا تَفَوُّق النفس البشريَّة، رغم أنّ هذا التفوُّق يتَّضح من خلال صَنائعها، وقد تجلَّى ذلك على مَرّ القرون. يَصُمُّون آذانهم عن الصوت الصارخ الصادر من إنجازات النفوس العظيمة. النفس البشريَّة هي كَيانٌ باهرٌ مُزَيَّنٌ بالفضائل الإلهيَّة، وهي بِدَورها تُقَدِّس العالم الأرضيّ. حقًّا قد خُلقَ الإنسان ليُقدِّس الأرض.
أنصار النظريَّة القائلة إنّ الإنسان تَطَوَّر من القِرَدة يجهلون الإنسان ومصيره، لأنَّهم ينكرون أنّ للإنسان نفسٌ ويرفضون مقدرته على اختبار الوحي الإلهيّ. لقد رفضوا الرُّوح والرُّوحُ قد هَجَرَهُم، ونَبَذوا الله وهو نَبَذهم. «وَبَيْنَمَا هُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ حُكَمَاءُ صَارُوا جُهَلاَءَ»(رو1: 22). «أَسْلَمَهُمُ اللهُ إِلَى ذِهْنٍ مَرْفُوضٍ لِيَفْعَلُوا مَا لاَ يَلِيقُ»(رو1: 28). قال أحد الشُّعراء، بشكلٍ مناسبٍ جدًّا: «أوَّل ما تفعله الشياطين الماكرة عندما تبتغي إيذاءَ شخصٍ ما، هو أن تُجَرِّد عقله من التفكير المَنطِقيّ، ثمَّ تُطَوِّعه على قبول معتقدٍ فاسد لكي لا يُدرك أنَّه يُخطئ». هذا صحيحٌ لأنَّه لو كان الناس يَقِظين على ما كانوا يتفوَّهون به لما كانوا أذلُّوا أنفسهم ولا اعتزُّوا بأنفسهم كَونَهم ينحدرون من نَسل حيواناتٍ بدائيَّة. وقد تكلَّم عنهم النبيّ بما يناسبهم: «إِنْسَانٌ فِي كَرَامَةٍ وَلَا يَفْهَمُ يُشْبِهُ ٱلْبَهَائِمَ ٱلَّتِي تُبَادُ» (مز48: 21).
أولئك الذين يجسرون على مُقارَبة ومُقارَنة غَريزة الحيوانات بِمَزايا الإنسان النفسيَّة، يُظهِرون مدى سَطحِيَّتهم وغشاوة نَظَرِهم، لأنَّهم لا يُدركون مَحدوديَّة الحيوان ولا خاصِّيَّة الإنسان الشاملة والحرَّة والمستقلَّة واللّامحدودة.
إنّه لمستحيلٌ، منذ البدء، أن نقارنَ الإنسانَ بالحيوان إذ هناك هُوَّة عظيمة تفصلهما عن بعضهما البعض. الذين يُساوون سِمات الحيوانات بِفَضائل وميزات الإنسان، أو أعمال الحيوانات وتَصَرُّفاتها بأعمال العقل البشريّ وإنجازاته، ويستخلصون استنتاجاتٍ بشأن تشابُهِهِما، يُخطئون في رَكيزة المقارنة الأساسيَّة؛ بالتالي، تُعَدُّ استنتاجاتهم باطلة.
كيف يمكن مُقارَنة أعمال الحيوانات بالتقدُّم التكنولوجيّ والمعجزات العلميَّة التي وصل إليها الإنسان؟ كم تعيسٌ هو ذلك الإنسان الذي سينخدع بنتائج هذا الاستقراء السطحيّ! ما هو الرَّابط المشترك ما بين غرائز الحيوانات وقُدَراتِها اللّامُتَغَيِّرة، وإنجازات الإنسان العِلميَّة؟ لقد ضلَّ الإنسان للغاية، وقُصِّرَ بَصَرُه وأُصيب بالعَمى! لماذا لا يقدر أن يفطن ويميِّز التَّفاوُتَ ما بين البشر والحيوانات؟ كيف ضلَّ أولئك الأناس المُتَعَلِّمون طريقَهم وانحرفوا عن العلم الحقيقيّ، إلى حدّ وَضْع البشر والحيوانات ضمن التَّصنيف عَيْنِه! كيف يستطيعون تمييز التَّشابه الموجود في تركيبتهم التشريحيَّة بينما هم غير قادرين على إدراك الاختلاف الموجود على صعيد النفوس؟ ما هو العامل المُشتَرَك ما بين الإنسان والقِرَدة؟ إن كان التَّشابُه في شكل الجسد هو ما يُقرِّبُهما إلى بعضهما البعض، فإنَّ التَّبايُن الموجود على صعيد النفس يميّزُهُما عن بعضهما إلى حد انعدام إمكانيَّة المقارنة بينهما. هل كان الله مُجبَرًا بأن يخلق جسد الإنسان بشكلٍ آخر يختلف كليًّا عن أي جسدٍ من مملكة الحيوان، قبل أن ينفخ فيه روحَه كي يَجعلَه على صورته؟ كلا، عزيزي القارئ. فَروحُ الله عظيمٌ ومهيب، وهو قادرٌ أن يُصيِّرَ الإنسانَ كائنًا فريدًا ومُتَفَوِّقًا حتى وإن استخدم شكلًا دونِيًّا لجسده.
الانسجام الحاصل بين جسد الإنسان ونفسه العاقلة هو انسجامٌ مُتقَن، لدرجةٍ تجعل مَن يُمعِن النَّظَر إليه منذهلًا من فائق حكمة الخالق الإلهيَّة، الذي جعل كلَّ أعضاء الجسد في انسجامٍ تام مع مُتَطلِّبات الرُّوح، وقادرة على تَلبِيَتِها. ما هو هدف أفكار الإنسان العقلانيَّة واللَّامعة إن لم تتمكَّن من الظهور من خلال الجسد؟ ما هو الهدف من عقل الإنسان وذِهنه وقُدُراته الرَّوحيَّة ومشاعره وعواطفه، وكلّ مجموعة المزايا الرُّوحيَّة التي تُمَيِّزُه عن الحيوانات غير العاقلة، إن كان الإنسان مُجَرَّد حيوان آخر؟
يرتقي الإنسان يوميًّا نحو الكمال. لا يعتني الإنسان بِذاتِه وحسب، إنَّما يكترث للبشريَّة جَمعاء، ويُطوِّر ذاته والحيوانات أيضًا. أين نرى أثَرًا لِمِثل هذا الاندفاع والتَّنمية بين الحيوانات؟ أليست انجازاتُهم هي نفسها؟ ما هي المقارنة التي يمكن إجراؤها بين مأوى القِرَدة الذي بقي على حاله لِدُهورٍ ومجموعة المباني المختلفة التي أنشأها الإنسان؟ ما هو القاسم المشترك ما بين الإنسان والقِرَدة، حتى ولو تشابهوا في بعض الأوصاف الخارجيَّة؟ ماذا لو كان باستطاعة القُرود أن تبني أكواخًا، بينما طيور السنونو تصنع أعشاشًا، والنحل يُبدِع خليَّةً، وللحيوانات الأخرى أوجِرة.
ما العلاقة بين القِرد الذي يكسر الجوز بِحَجَرٍ والإنسان الذي اخترع آلاتٍ ليقوم بالمِثل؟ ما البارِز إن كانت يد القِرد مُصَمَّمة بِدِقّة (كما هو ضروري لِدَيمومَتِها)، كما أنّ الفيل أُعطيَ جِسمًا مُتقَنًا والحيوانات الأخرى قد أُعطِيَت أعضاء مُماثِلة في جِسمها بحسب حاجاتِها؟ ما البارِز إن كان الله قد مَنَح الحيوانات حَذاقةً كي تَستَديم وتحمي وتحافظ على ذاتها؟ من يستطيع إثبات أنّ القِردَ يشعر أنّه يحتاج أو أنّه يفكّر باستخدام حجر يُساعدُه في تَناوُل طعامه إن لم تكن يدُه مَصنوعة كما هي؟ لن يقوم أيّ حيوان بالانتِفاع من مهارة أي حيوان آخر وحذاقته. يستطيع قِردٌ مُشاهدة قُندُسٍ وهو يبني سَدًّا لِقُرون؛ لكنّه لن يستطيع أن يقومَ بإنجاز القُندُس ذاته. ولن يقوم كلبٌ أو طائرٌ أو أيّ حيوان آخر (إن كان كائنًا بسيطًا أو حيوانًا أكثر حَذاقةً) بِتَقليد حيوان آخر.
أيّ إنجازٍ عقلانيّ لأيّ حيوان يُوَثِّق قُدُراتِه بالتأمُّل والحُكم والتَّفكير؟ أيّ حيوان حوّل فكرةً إلى معرفة؟ متى كان للحيوان رأي في موضوع مُعَيَّن؟ متى فكّر أيّ حيوان بأصل وجوده، بنهاية حياته، أو بما يختصّ بالحياة والموت؟ لا أحد من المُعجَبين بالقِرَدة وبالنظريّة القائلة إنّ الإنسان تطوّر من القِرَدة يمكن أن يُثبِت أن شيئًا كهذا حصل مع أيّ حيوان على مَرّ القُرون. إذًا، إنّ مُناصرة الرأي القائل إنّ للحيوانات والإنسان أرواح مُتَشابِهة تختلف فقط بدرجة التَّطَوُّر هو باطلٌ بالكامل وغير منطقيّ.
الإنسان، هذا الكائن العجيب، قد خَلَقَه الله كَذُروة الخليقة، كي يستطيعَ أن يكتسبَ معرفة خالقه. لقد خُلِقَ الإنسان بحسب مَصيره العظيم. حاز على شرف أن يُصنَع بطريقة بارعة واستثنائيّة وأُعطِي الحياة بِنَفخة إلهيّة. فيما سائر الخليقة وُجِدَت من العَدَم بكلمة واحدة - «لِيَكُن» – جَسَّدت مشيئة الله، وحده الإنسان حصل على جِسمه مَصنوعًا بِيَدَيّ الله الخالق، ووحده نال نفسًا حيّةً من خلال نَفخ الله فيه، ووحده صُنِعَ على صورة خالِقه ومثاله. يا للخليقة الباهِرة حقًّا! يا لِكَرامة الإنسان! يا للمَصير العظيم! إن مَصيرَه لعظيمٌ حقًّا وكرامَتَه سامية؛ لكن الأكثر عَجَبًا هو الطريقة التي خُلِق بها جسمه ونفسه. فهو صار صورة الله ومثاله وخُلِقَ كي يحيا إلى الأبد ويسكن في المكان ذاته الذي للملائكة السماويّة.
ما أنبل الإنسان حين خُلِقَ! كم حَقَّرَتهُ الخطيئة وأذَلَّهُ الجهل! لكن الأمر ليس كذلك! لقد مُنِح الإنسانُ سُمَوًّا وهو يبقى ساميًا حتى إذا حَقَّر بعض الناس ذواتهم، حتى إذا نسي بعض الناس أصلهم الجليل. نعم! الإنسان هو خليقة أعظم ولا يمكن مقارنة أيّ شيء به.
إنّ المُتَعَقِّلين في الجنس البشريّ، جميع الحُكَماء، يؤكّدون هذه الحقيقة. هذا ما يُصَرِّح به فريديريك دو روجمونت (Frédéric de Rougemont) بما يخصّ الإنسان في مقالته الحكيمة والمُتَبَصِّرة «البشريّة الأولى: دينُها، تاريخها وحضارتها»: «الإنسان هو ذو أصلٍ سامٍ. وُلِدَ في الفردوس لا في البَريّة. لقد صَدَح صوت ترانيم الملائكة في مسكنه، لا زئير النُّمور وعواء الذّئاب. كان الله ساهِرًا عليه حتى قبل أن يأتي (الإنسان) إلى معرفته. ليس صحيحًا بتاتًا أنّ الإنسان خلق فكرة الله كي يخترع أُلوهةً يَعبُدُها. لم تخرج الإنسانيّة عن الإلحاد بل عن الإيمان؛ لا عن الضّلال بل عن الحقّ؛ لا عن الجهل بل عن الإعلان».
للأسف، إنّ الذين يتفاخَرون بِتَشابُهِهم بالحيوانات يسعَون لِتَوظيف أتباع جُدُد. يَسعَون لإيجاد عامِلين بين الشّباب لإسقاط أخلاق الإنسانيّة وأُسُس الأخلاقيّات؛ يبحثون عن مُنَقِّبين جُدُد للمساعدة في تَقويض أساسات المجتمع وإفساد البشريّة. إليكم المبادئ اللاأخلاقيّة التي تؤلّف مهمّتهم المُتَحَضِّرة: يقولون إنّ «اللذّة» و«الفُجور» والحبّ هي أمور صالحة؛ لكن الكراهيّة هي كذلك أيضًا. الحقيقة هي صالحة طالما تجلب لنا بعض المتعة؛ لكن الخِداع والنفاق والتَّضليل هي أمور صالحة أيضًا إذا كانت قادرة على زيادة أموالِنا. الإيمان صالِحٌ طالما هناك استفادة منه؛ لكن الغِشّ هو صالحٌ أيضًا إن كان يؤمّن لنا رِبحًا أكبر. الزّواج صالحٌ طالما يجعلنا سُعَداء؛ لكن الزِّنى هو صالحٌ أيضًا عندما لا يُلَبّي الزّواج شهواتِنا. الحياة صالحةٌ طالما تبقى لُغزًا؛ لكن الانتحار مَقبولٌ أيضًا عندما يتمّ حَلّ هذا اللُّغز.
http://www.bio-orthodoxy.com/2014/09/st-nektarios-on-darwinistic-evolution.html
[1]هو القول إن الطبيعة هي الوجود كلّه، وإنه لاوجود إلّا للطّبيعة. إنه فلسفة إلحاديّة لأنه ينفي وجود الله وهو يُرَوِّج لنظريّة التَّطَوُّر الدّاروينيّة. (المُعَرِّب)
آخر المواضيع
تيك توكر يونانية شهيرة تصبح راهبة أرثوذكسية
الفئة : مواضيع متفرقة
تَقريظٌ لقطع رأس النّبيّ السّابق المجيد يوحنّا المعمدان
الفئة : مواضيع متفرقة
مَحبَّةُ الذّات: هوى عصرِنا الحاضر
الفئة : مواضيع متفرقة
النشرات الإخبارية
اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني