العنف ضدّ الأهواء
الأرشمندريت غريغوريوس اسطفان
نقلا عن نشرة كنيستي الصادرة عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس - العدد 38
الأهواء هي قوى في النفس البشريّة انحرفت عن مسارها بعد السقوط، وأصبح معنى الكلمة يُشير إلى جذور الخطيئة. تحوّل الأهواء جعل الجسد يشتهي ضدّ الروح والروح ضدّ الجسد. مسيرة النفس تحوّلت ممّا هو روحيّ إلى حياة الجسد، والجسد تحوّل إلى مصنع أهواء فاسدة. لقد تحطّم ذكر الله في النفس ودخلت الأفكار الأهوائيّة، مستبدلة ذكر الخيرات الأزليّة، بتذكّر أشياء باطلة وفانية.
**********
المسيحيّ الحقيقيّ يعلم أنّ الأهواء المعابة، كالشهوات الجسديّة والغضب والحسد وحبّ المال وحبّ الكرامات البشريّة والعُجب والتكبّر... هي أهواء يقوم عليها ناموس هذا العالم، تلتصق بطبيعتنا الأصليّة بقوّة وتؤذي مسيرة خلاصها. تقويم هذه المسيرة ليس ممكنًا من دون عنف على هذه الطبيعة. فما اعتادت عليه طبيعتنا، خاصّة مع اللّذة التي يُقدّمها الهوى، لا تتخلّى عنه إلا بآلام وضيقات كثيرة. الألم وحده يُطفئ اللّذة بأنواعها. لهذا يتحوّل هذا الجهاد إلى صليب يوميّ. أليس هذا ما عناه الرسول حين استعمل كلمة صليب ليُشير إلى عنف الجهاد ضدّ الأهواء، "الّذين هم لِلمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشّهوات" (غلا24:5).
**********
هيجان الأهواء على الإنسان سببه ثلاثة أشياء: تنعّم الجسد، الأفكار الناشئة من مشيئة الجسد الطبيعيّة، وحسد الشياطين. تنعّم الجسد هو المدخل المباشر للأهواء والتجارب الأخرى كافّة. يقول القدّيس اسحق السريانيّ: "الراحة والبطالة هلاك للنفس وقد يؤذيان أكثر من الشياطين". مسؤوليّة الإنسان المباشرة هي في استسلامه لتنعّم الجسد وإراحته. الثقافة المعاصرة تدعو، وبقوّة، إلى هذه الرفاهيّة وإراحة الجسد إلى أقصى الحدود. ويظنّ أغلب المسيحيّين أنّ هذا أمر طبيعيّ وحقّ شرعيّ. مسيرة خلاص النفس، الّذي تعلّمه الكنيسة، يتعارض مع راحة الجسد والتنعّم. الراحة تغذّي الأهواء فيتوجّه الذهن بسهولة نحو الشهوات المختلفة. لهذا تلعب الأتعاب والضيقات دورًا أساسيًّا في طرد الأهواء. "ما أضيَق الباب وأكرَبَ الطّريق الّذي يُؤدّي إلى الحياة، وقليلون هم الّذين يجِدونَه" (مت14:7).
**********
أتعاب الجسد تُزيل من النفس عدم الحسّ وقساوة القلب وتلد مكانها روح منسحقة قادرة أن تتوب. إنّ قساوة هذه الجهادات الطوعيّة، مع احتمال الآلام "غير الطوعيّة"، كالأمراض الجسديّة والتجارب الآتية من الخارج، يُخمد اللّذة الحسيّة والرغبات الفاسدة والتعلّق بالأرضيّات؛ وهذه بداية مرحلة تنقيتها من الخطيئة؛ لأنّ هذه القسوة هي الوسيلة الوحيدة التي تجعل النفس تكره أهواءها. يقول في كتاب الآباء الشيوخ: روّض جسدك بكثرة المطّانيّات والسهرانيّات والأتعاب النسكيّة الأخرى، لأنّ من عادة البطالة والرخاوة والنوم الكثير أن تُثير فينا لا شيطان الزنى فحسب، بل شيطان الضجر والمجد الباطل وشيطان التكبّر أيضًا. أمّا الأصوام التي فيها انقطاع عن الطعام فهي تُذبل الأهواء وتقود إلى يقظة الذهن.
**********
هذا النسك ليس قتلاً للجسد إنّما لقمع توثّباته، فالعنف ضدّ الأهواء يكون إلى الحدّ الّذي لا يتأذّى فيه الجسد. حسب خبرة آبائنا القدّيسين، نتدرّب في الجهاد النسكيّ على قتل أهواء الجسد لا الجسد.
ولا بدّ من أن تواكب الصلاة كل حركة نسكيّة، لإنّ النسك لا يصير فاعلاً وقادرًا على طرد الأهواء إلا من خلال الذكر المستمرّ لاسم الربّ يسوع. الصلاة المركّزة والطويلة هي جزء من هذا العنف الداخليّ لتجميع الذهن المشتَّت والمبعثَر بعنف سيلان الأفكار التي تُغذّي الأهواء.
إخضاع الأهواء بالقسوة، وحده يقود إلى قطع واستئصال ميل النفس ونزوعها إلى الخطيئة. وما لم يتحوّل ميل النفس من اللّذة الحسيّة والمجد الباطل إلى ما هو روحيّ، لن تستطيع أن تحبّ الله وتشتهي ملكوته.
آخر المواضيع
آباء الفيلوكاليا
الفئة : عظات اﻷرشمندريت غريغوريوس اسطفان
من هم الروم الكاثوليك؟ (1724 - 2024) (3/3)
الفئة : عظات اﻷرشمندريت غريغوريوس اسطفان
من هم الروم الكاثوليك؟ (1724 - 2024) (2/3)
الفئة : عظات اﻷرشمندريت غريغوريوس اسطفان
النشرات الإخبارية
اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني