أن تتحمّلوا المسؤولية في حياتكم


المطران أثناسيوس ميتروبوليت ليماسول

حديث مع الشبيبة في ليماسول – 23 كانون الثاني 2020

تعريب: ماهر سلوم

 

قرّرنا هذه السنة أن نُرَكِّز على مسائل ذات أهمّية خاصة لكم جميعًا. إحدى الأسئلة التي طَرَحتُم هي التّالية: هل يقرّر الله مَن سيكون زوجكم أو زوجتكم؟

يجب أن نعلم جميعًا أنّ الله لا يحدّد أيّ شيء مُسبَقًا في حياتكم. بالفعل، إن كان يحدّد كل شيء في حياتكم، فسوف يكون مسؤولًا لِما يحدث لنا. مثلًا، أنا راهب، إن كان الله قد حدّد لي هذا مُسبَقًا، لَكُنتُ عارَضتُ قائلًا: "لِماذا لم يسألني أحد إن كُنتُ أرغب أن أصبح راهبًا؟" أم إذا ثَبُتَ أن الاختيار كان خاطئًا لَكُنتُ اشتكيتُ قائلًا: "لم يكن لديّ أي رغبة بأن أصبح راهبًا، كل المَلامة تقع على الله". بالعكس، إذا ما اتّخذتُ قرارًا، أيًّا كان هذا القرار، عليّ أن أتحمّل مسؤولية خَياري إذ لم يُرغِمني أحد به – ولا حتّى الرب ذاته. الأمر ذاته ينطبق في الزّواج. لا يحدّد الربّ مَن سيصير زوجك، هذا الأمر بِيَدِنا حَصرًا. سوف تسألون: "هل يعلم الله مَن سيكون زوجي أو زوجتي؟" بالتأكيد يعلم، لا شيء مَخفيّ عنه، هو يعرف كل شيء. لكن علينا أن نفهم شيئًا واحدًا.

لا شيء مِمّا نقوم به يستند على حقيقة أن الله يعرف ما نريد. الله يعرف ما نريد فقط لأننا نتّخذ هذا القرار. مثلًا، إن تزوّجتُ ماريا، هذا لا يعني لأنني اخترتُها أن تكون زوجتي لأن الله يعلم هذا الأمر. الله يدرك المرأة التي سأتزوّجُها لأنني اخترتُها أن تكون زوجتي. ليس الله الذي يفرض عليّ الزواج بماريا، بل أنا الذي اتّخذ هذا القرار كإنسان حر. يمكنني أن أبدّل رأيي متى شئتُ.

لماذا تنتهي العديد من الزّيجات بالطّلاق؟ هل تظنّون أنها مشيئة الرب أن يرى العديد من الناس يدمّرون عائلاتهم؟ لا أبدًا. هل يعلم الرب أنهم سوف يُطَلِّقون؟ بالتأكيد يعلم. لماذا يُطَلِّقون؟ هذا خَيارُهم الذّاتي. يقرّرون إذا كان يجب أن يكونوا سويّة أم لا. يريد الرب أمرًا واحدًا: يريدنا أن نخلّص نفوسنا بالزّواج، أن نكون أبناءه الحقيقيّين، أن نتّحد ونكون معه للأبد. إذًا، مشيئة الرب هي أن يرانا نعيش الزّواج روحيًّا. كما تكلّمنا سابقًا، الفرح والأولاد والحياة السارّة هي ليست القصد من الزّواج. كل هذه الأمور هي أساسيّة بالتأكيد. نتمنّى أن نكون مسرورين وأن ننجب الأولاد وأن يكون لنا وظيفة وأن نكسب المال وأن نُلَبّي جميع حاجات عائلتنا وأولادنا وحياتنا؛ وهذا ليس أمرًا سيّئًا. لكن يجب ألّا ننسى أن كل ما نفعل، بكل خطوة نقوم بها، يجب أن يكون له هدف واحد: أن نكون مع المسيح، في هذه الحياة وفي الحياة الأبديّة. بالتالي، كل ما يحصل لنا ولعائلتنا (ضيقات ومشاكل وتجارب وطلاق أو أي شيء لا نرغب به، بِغَضّ النّظر إن كان ذَنبنا، هذا أقلّ أهمّية)، يجب أن نستخدم هذه التَّغييرات في حياتنا لمنفعة نفسنا.

يجب عليكم أيضًا أن تنظروا إلى أخطائكم الرّوحية. كيف يمكن هذا؟ بأن تتواضعوا وتضعوا المسؤوليّة على عاتقكم، أو حتى القبول بِخَطَئكم وتصلّوا إلى الله طالبين منه أن يرحمكم ويبارككم، وأن يساعدكم بالتّعامُل روحيًّا مع هذه الصّعوبات. إذًا، يمكن لأخطائنا أن تكون ثمينة جدًّا إن تطلّعنا إليها من مَنظور التّوبة. سوف أعطيكم مثلًا: الزِّبل هو براز الحيوانات، هل هناك شيء مُقرِف مثل الزِّبل؟ من ناحية أخرى، يمكن للزِّبل أن يكون ذو قيمة عالية إذ نستعمله كَسَماد للنباتات؛ إنه السَّماد الأفضل. يساعدنا كي نَجني قِطافًا وَفيرًا. لأجل هذا يجب أن نتعلّم أن نستخدم أخطاءنا للإفادة.

لهذا السبب يا أصدقائي، إن تطلّعتُم إلى شخص وقرّرتُم أنه أو أنها ستصير شريكة حياتكم، عليكم أوّلًا أن تصلّوا إلى الله كي لا ترتكبوا خطأً. لكن إذ تتّخذون قراركم، لا تسألوا أنفسكم إن كان الله يريد هذا الشخص أو إذا هذا الشخص هو نَصيبكم في الحياة. الأفضل أن تسألوا أنفسكم: هل أريد أن يكون هذا الشخص زوجي أو زوجتي؟ هل هو مناسب لي؟ إن كنتم تشعرون أنه مناسب وأنه الشخص الصحيح، امضوا قُدُمًا ولا تخافوا من أي شيء. لكن انتبهوا أن لا تحوّلوا مسؤوليّتكم تجاه الله، لأن القرار يعود لكم. هكذا، إن ظهر بعد يوم أو يومَين أنكم كنتم مُخطئين أو أنكم لم تختاروا الشخص، لا تَلوموا الله قائلين: "يا رب، الذّنب يقع عليك، جَعَلتَني مع هذا الشخص وإنني الآن أتألّم". لا يجب أن تشتكوا قائلين: "لا أستطيع أن ألتقي مع أحد"، وهلمّ جَرّا. لقد اخترتُ هذا الإنسان، هذا العمل، هذه الطّريقة في الحياة، وأنا مسؤول عنها كلّها. إن تمّ كل شيء على ما يُرام، سوف أعطي مجدًا لله وأشكره؛ ولن أقع في اليأس إن لم تحصل الأمور جيّدًا. يجب أن تقولوا: "إنه خطأي (إن كان الأمر يتعلّق بالزّواج أو أي مشكلة)، وكيف يمكن لحياتي الرّوحية أن نستفيد منه؟" تذكّروا أن شيئًا واحدًا هو مهم: حال حياتنا الروحية. أي مهما يحصل في حياتنا – فرح أم شِدّة – فهناك شيء واحد مهم بالحقيقة: هل نستفيد روحيًّا من هذه الحادثة تحديدًا أم لا.

لقد سَنَحَت لي الفرصة أن ألتقي بامرأة (هي مُتَوَفّية الآن) كانت مُتَزَوِّجة بِطاغية، بالحرف! عاشت معه حياةً كشهيدة حقيقيّة، لكن كَونَها امرأة صالِحة، عامَلَتهُ كمسيحيّة. بالتأكيد، لقد عانت كثيرًا، كابدت الإهانات والخِزي، لكنها نظرت لكل هذه الأمور أنها شيء يمكن أن يساعدها في خلاص نفسها. كانت تلك المرأةُ "هيكلَ الروح القدس فعلًا، ورقدت كقدّيسة. كان بإمكانها القول: "إنها غلطة من قِبَل الله أن يكون هذا الرّجل زوجي". لكنها قالت: "هذا الرجل زوجي وسوف أحاول أن أصبر على بؤس حياتي من أجل إفادتي الروحيّة". كان عليها أن تعمل بِكَدّ، لكنها فازت في حربها الروحية.

يمكن أن يحصل أن بعض الناس ليس باستطاعتهم أن يَتَحلّوا بالصّبر. سيقولون: "لقد نجحت تلك المرأة، استطاعت أن تحمل صليبها، لكنني لا أستطيع" أو، "لا أريد أن أحمل ذلك الصليب". لا مشكلة إذا لا تريدون حِمل الصّليب، لديكم الحق أن تقوموا بِخَيار آخر، أن تتواضعوا وتقولوا: "أنا آسف، لكنني لا أستطيع ولا أريد أن أتألّم أكثر. سامِحني يا رب! سامِحوني جميعًا، لكنني لا أقدر، إنني على حافّة الانهيار". الإقرار بالضّعف هو أيضًا شكل من التّواضع. ألاحِظ أنه ليس باستطاعتي فيما بعد أن أتحمّل هذه الطّريقة في الحياة وأقرّر تغييره بتواضع.

لكن لا تنسوا، يجب ألّا تُلقوا اللَّوم على الله أو أي شخص آخر. ولا يجب أن تيأسوا إن ارتكبتُم خطأً ما. الشخص المتواضع لا يُلقي مسؤوليّة خَطَئِه على أي شخص آخر، ولا يَكتئب قائلًا: "لقد ارتكبتُ خطأً وعليّ الآن أن أدفع الثّمن، إنها نهاية حياتي". عليهم القول بالأحرى: "أعترف أنني ارتكبتُ خطأً، سامِحني يا ربّ لكنني لا أستطيع أن أكمل حياتي بالخطأ، لا أقدر أن أتألّم إلى النهاية". بكلام آخر، أقول للرب ما أقدر أن أفعل وما باستطاعتي القِيام به. فبتواضع وببساطة، يكمل الشخص حياته أو حياتها، مُحاوِلًا بناء علاقة مع المسيح في الظّروف الرّاهنة.

أيّها الإخوة، أريد أن تتذكّروا أن الحياة الرّوحية لا تنتهي أبدًا بطريق مَسدود. بعد ارتكاب أفظع الأخطاء، لن تواجهوا طريقًا مَسدودًا أبدًا إذ هناك دائمًا طريق للخروج – التوبة والتواضع والصلاة. المسيح هو الطّريق للخروج من الخطأ. مثلًا، يصنع إنسانٌ ما قنبلة نوويّة ويقتل الميليارات من الناس، وها هو الآن الإنسان الوحيد الباقي في العالم. حتى في هذا الوضع الرّهيب هو يملك الرّجاء بالخلاص. يُعطيه الله هذا الرّجاء لتوبته، مهما عَظُمَ الشر الذي اقترفه. هناك قول للآباء الآثوسيّين: "احرق الجبل المقدّس وقُل ’يا رب ارحم’". بكلام آخر، إذا تُبتَ فإنّك تستحقّ الغفران. طريقة التّفكير هذه هي صعبة عند النّاس الأرضيّين، شيء لا يستطيعون فهمه. في الفطر الأرضيّ، إن ارتكبتَ شرًّا ما فيجب عليك أن تدفع ثَمَنَه.

 تعلمون جميعًا بالحرائق التي تندلع في الغابات كل سنة ويموت بعض الناس. أتى رجل إلى جبل آثوس مَرّةً، غاضِبًا بسبب ما يحصل وشاكيًا: "أريد أن يموت مَن يُشعِلون هذه الحرائق بها. يجب أن نربطهم بالأشجار ونتركهم في الغابات التي تحترق". ما كان يحصل هو كارثة فعلًا. لقد أشعِلَت الغابات بدون سبب، وأدّت الحرائق إلى موت بعض الناس وتدمير المنازل. لكن ذلك الرّجل لم يكن جاهزًا للإقرار بأن مشعِلي النار لا يمكن أن يتوبوا ويطلبوا المغفرة من الله. نعم، لقد أحرقوا الغابات في بلدهم الأم، لكن بإمكانِهم أن ينالوا المغفرة حتى ولو أحرقوا كوكب الأرض بكامله. ماذا لو قرّر أحدهم الانتقام منهم والقيام بما اقترح ذاك الرجل؟ ماذا يحصل عندئذٍ؟ هكذا يعمل المنطق الأرضيّ، لكننا لا نتوافق معه. إذا أدرك مُفتَعِل الحريق أنه ارتكب خطأً ونظر للأمر من ناحية روحية سيقول: "إن ذلك الرجل على حق، أستحق أن أُحرَق كما حرقتُ الغابة، لأنني قمتُ بذلك عن سابق تَصَوُّر وتصميم، ولم يكن حادِثًا".

تاليًا، الإنسان يخلّص نفسه إن تواضع وتاب. أكثر من هذا، يمكن أن يصبح قدّيسًا. هل تريدون مثلًا؟ حسنًا، اللص الشَّكور. مَن كان أول شخص يدخل الفردوس؟ مَن كان الأول الذي أخذه المسيح معه؟ لقد كان لِصًّا وسَفّاحًا ومُجرِمًا ومُحتالًا وربما قاتلًا أيضًا. وماذا حصل له؟ لقد تاب وتوسّل المغفرة من المسيح، طلب منه أن يذكره متى أتى في ملكوته السماوي، وأجابه المسيح: «ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ ٱلْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي ٱلْفِرْدَوْسِ» (لوقا 43:23). هذا كل ما كان عليه القيام به. تواضعه وتوبته خَلَّصاه، وهذا أساس الإنجيل. لا يمكنك القَول أنك لا تستحق المغفرة أبدًا بسبب الشر الذي اقترفتَ، بسبب أخطائك وسَيِّئاتك. حتى إن فَجَّرتَ العالم بِأَسرِه وبقيتَ الإنسان الوحيد الباقي، يمكنك الرّجاء بالخلاص لأنه توجد توبة نابِعة من التّواضع. الشخص المتواضِع يتوب بكل تأكيد، بعكس الشخص المُتَكَبِّر الذي ينتهي أمره فقط في اليأس.

لأجل هذا، أيّها الأصدقاء، كل القرارات التي نتّخذ في الحياة تأتي من اختيارنا الذّاتي؛ لا يقرّر الرب حياتنا مُسبَقًا. نحن نحدّد مسيرة حياتنا ونتحمّل مسؤولية خَياراتِنا. يجب أن نأخذ كل ما يحصل معنا – أخطاءنا وخطايانا وسَقَطاتنا واضطراباتنا – بهدوء واعتبار، مُحاوِلين أن نستخلص منها بعض الفائدة لنفوسنا. لا يؤدّي التّكبُّر إلّا لليأس ولفهم خاطئ للأمور، إلى ما هو غير مألوف للشخص المؤمن. حالما أقوم بِخَيار، هذا يعني أنني سأفعل ما بِوِسعي بتواضع، وأكون متأكِّدًا بالكامل أنني إذا طلبتُ المساعدة من الله بتواضع، فسوف يساعدني كي أنهي ما بدأتُ.

https://orthochristian.com/133348.html

 



آخر المواضيع

عظة في إنجيل الإيوثينا الحادية عشرة (يوحنا21: 14 - 25)
الفئة : مواضيع متفرقة

الميتروبوليت إيروثاوس فلاخوس 2024-04-04

عظة في إنجيل الإيوثينا العاشرة (يوحنا21: 1 - 14)
الفئة : مواضيع متفرقة

الميتروبوليت إيروثاوس فلاخوس 2024-03-29

عظة في إنجيل الإيوثينا التاسعة (يوحنا 20: 19 - 31)
الفئة : مواضيع متفرقة

الميتروبوليت إيروثاوس فلاخوس 2024-03-22

النشرات الإخبارية

اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني

للإتصال بنا