صداقة القديس نكتاريوس والشيخ دانيال الكاتوناكي


تعريب شادي مخّول

 

يقول كاتب المزامير «مَعَ البَارِّ تَكُونُ بَارًّا. وَمَعَ الزَّكِيِّ تَكُونُ زَكِيًّا. وَمَعَ القَويمِ تَكُونُ قَويمًا وَمَعَ الأَعْوَجِ تُبْدِي تَبَرُّمًا» (مز17: 25-26).

كان الشَّيخ دانيال أخًا محبوبًا جدًّا للقديس نكتاريوس ومُحتَرَمًا منه جدًّا. بدأت علاقتهما عندما زار القديس الجبل المقدَّس، ويوم بعد يومٍ، جعَلَت المراسلةُ والمساعدةُ والصلاةُ المتبادلةُ بينهما هذه العلاقةَ وَثيقةً وقويّةً. الشَّيخ دانيال هو أحد المُختارين: هو قديسٌ غير معروف مقَرَّب من القديس المعروف الذي ذاعَ صيتُه وعظمتُه في كلِّ العالم في عصرنا.

القديس نكتاريوس، كونه ضحيّة لافتراء الرئاسات الكنسيَّة في عصره، وجدَ السَّكينة في صداقة الشَّيخ دانيال. والشَّيخ بدوره تلقَّى دعمًا كبيرًا من القديس في بناء منسكه واعتَبره «بنَّاءً وأبًا ورئيسًا لهذه الأخويَّة المباركة». تلقَّى بين الحين والآخَر نسخات من كُتُب القديس مكتوبةً بيده، ككتاب الخريستولوجيا[1]، اعرف ذاتك، مُختارات أنطاكيَّة، دليل الكاهن، ثيوطوكاريون، إلخ.، وقد تمَّ الحفاظ عليها في مكتبة الدانياليّين.

تلقَّى الأسقف بدوره مساعدةً من الشَّيخ. يسأل في إحدى رسائله من أجل ديره النسائي في آيينا: «ستُحسِنُ إلينا كثيرًا إن تفضَّلتَ وكتبتَ كلمةً روحيَّةً لتشجيع العذارى. فرسالة مكتوبة منك عن العمل والتأمُّل ستشدّدهنّ بهذا التعليم المُعاش، وستكون حُبورًا ودعمًا روحيَّين حقيقيَّين».

كفِعل طاعةٍ ومحبَّة، ردَّ الشيخ دانيال بــ«رسالةٍ حول نماذج الرَّهبنة». لا يعالج في هذه الرِّسالة الطَّاعة والفقر والعفَّة والصَّلاة، إلخ. بشكلٍ عام أو كمصطلحاتٍ مُجرَّدة فحسب، إنَّما يذهب إلى ما هو أعمق:

«...عندما تشمُّ راهبةٌ أي رائحة عطرة أثناء الصَّلاة، أو تُبصِرُ نورًا داخليًّا أو خارجيًّا أو منظرَ ملاكٍ أو قديسٍ، أو المسيح، عليها ألَّا تَقبَل رؤيا كهذه، سواء إن حدثت أثناء النَّوم أو اليَقظة، لأنَّه بتخيُّلاتٍ كهذه قد ضلَّلَ الشَّيطان الشرِّيرَ كثيرين.

...إن أُثيرت فضيحةٌ بين راهبتين، في وقتٍ ما، بسبب حسد الشَّيطان، سيتطلّب هذا جهدًا كبيرًا لتستبق الواحدة الأُخرى عن طريق الصَّمت، وتُقلِع عن المُبرِّرات الطائشة التي يدسُّها شيطان المخاصمات البغيض عبر لوم النَّفس (وإن لم تُخطئ) قائلةً للأُخرى: «باركي، أُغفري لي من أجل المسيح، فإنَّني قد تكلَّمتُ كالحمقاء»، على الأصغر سنًّا أن تتصرَّف كذلك، لكن إن بدت الأصغر سنًّا عنيدة الطِّباع وغير مُتَبصِّرةٍ لمقولة «اعرف ذاتك»، فلتَقُم الاخرى بذلك كونها الأكثر حكمة، وبذلك يُمكنها أن تكسب الأضعف... لكن لا تدعنَ الشَّمس تغرب من دون مصالحةٍ لائقة».

هكذا كانت النصائح – جوهر معرفته العميقة وخبرته الغنيَّة بالأمور الروحيَّة. لطالما ساند القديس الجديد الشيخ دانيال أيضًا، لا سيَّما في إحدى تجاربه الخطيرة حيث كان ملاكَ تعزية. كانت الأحداث على النحو التالي:

رجلٌ نبيلٌ وأنيقٌ من العالم جال في الجبل المقدَّس وجمع تبرُّعاتٍ لمجموعة «أعمال القديس يوحنا الذهبي الفم» التي قال إنَّه مزمعٌ أن ينشرها. عملٌ مرضيٌّ لله كهذا يستحقٌّ الدَّعم، والشَّيخ دانيال بذل ما بوسعه ليساعده. على الرَّغم من موارده الضَّئيلة، لم يتردَّد في اقتراض خمسين جنيهًا من دير اللّافرا الكبير ليعطيه إيّاها. 

مضى وقتٌ طويل لكنَّه لم يسمع عن نشر «أعمال القديس الذهبي الفم». لاحقًا، عَلِمَ أنَّ هذا الرَّجل النَّزيه والنَّبيل كان مخادعًا وقد كُشِفَ أمره. يا لها من تجربة! وبِحُزنٍ شديدٍ كتب للقدّيس نكتاريوس ليُخبرَه عن مشكلته. فأرسَلَ إليه القديس نكتاريوس جوابًا جديرًا بقدّيس، رسالةً فريدةً بِعُمقِها الفلسفي. يشرحُ فيها بطريقةٍ مُتقَنَةٍ أنَّ التَّجاربَ تقود النفسَ إلى الفلسفة الحقيقيَّة، وأنَّه على كلِّ المسيحيّين أن يصيروا «فلاسفة»، وأكثر من ذلك أن يُصبحوا مُحِبِّينَ للفلسفة، أي رهبان. يُرسل الله التجارب لنا بغية بلوغ الكمال. تفتح التَّجارب أعيننا وذهننا لنتمكَّن من النَّظر والتَّفكير أبعد، إلى اللَّامنظور والأزلي.

لكنَّ من الأفضَل لنا أن نُتابع هذه الرِّسالة منذ بدايتها:

 

إدارة مدرسة ريزاريو الكنسيَّة

أثينا، آذار 1903

الأب الأقدس في المسيح دانيال، أعانق محبَّتك كأخ.

تلقَّيتُ رسالتك المباركة، وقد ملأني الحزن لقراءتها ومعرفة أنَّ هذا الأسى يُكَدِّر سلام نفسك. حقًّا إنَّ ما حدثَ هو أليم، لكنَّنا نعلم أنَّ كلَّ الأشياء تعمل معًا للخير للَّذين يحبُّون الله. وبتأكيد الرَّسول، لحقيقة هذا القول الرَّسوليّ سلطة مطلقة ككلمةٍ إلهيَّة. وبِثِقَتي بالمحبَّة الإلهيَّة، أومن أنَّني أتلقَّى منافع جزيلة من التَّجارب.

محبَّتك المباركة تعرف أنَّ التَّجارب تقود إلى الكمال؛ ما من أحدٍ غيرَ مُجَرَّب جديرٌ بالتقدير؛ ما من أحدٍ غيرَ مجرَّب يسمو فوق المستوى الأرضي، الذي عليه ينتصب ويستند سلَّم الفضائل الذي يبلغ السَّموات. تصبح التَّجارب، لمحبِّي الله، بمثابة مُدَرِّبين للرُّوح في الفلسفة. تقود المسيحيَّة إلى الفلسفة الحقيقيَّة التي يجب أن يُسرع المسيحيّ إليها؛ فما من أحدٍ ليس فيلسوفًا يبلغ معايير الكمال التي يجب أن يصل إليها. وإن كان على كلِّ المسيحيِّين أن يصبحوا فلاسفة، ليُصبحوا كاملين حسب وصيَّة الرَّب، فكم بالأحرى أولئك الذين يحبّون الفلسفة والكمال يكرّسون أنفسهم لها؟ إن كانت التَّجارب تدرِّب على الفلسفة، والفلسفة تقود إلى الكمال المسيحيّ، فإذًا التَّجارب هي ضروريَّة.

التَّجارب التي تُعلِّمُ المرء الفلسفة، تُعلِّمه أيضًا الصَّبر؛ فالصَّبر هو الأخ المُقرَّب للفلسفة، لذلك ما من فيلسوفٍ ليس صَبورًا، وما من أحدٍ ليس صَبورًا يكون فيلسوفًا. حقًّا إنَّ التَّجارب تمتحن حجر أساس الفضائل، أي الصَّبر، الذي يقود إلى الخلاص؛ فمن خلاله لا يخضع المسيحيّ الفيلسوف للشيطان وحسب، إنَّما يكتسبُ شجاعةً وطول أناةٍ وفرحًا. نعم، إنَّه يبتهج حقًّا، فبالنسبة لبولس الرَّسول هو يمجِّد في الآلام، عالمًا أنَّ الآلام تولِّد الصَّبرَ، والصَّبرَ يولِّد الخبرةَ، والخبرةَ تولِّد الرَّجاءَ، والرَّجاءَ لا يخزي لأنَّ محبَّةَ الله قد انسكبت في قلبه.

التَّجارب، كما يعلم أتباع الفلسفة الحقيقيَّة، تحدث عبر التَّدبير الإلهيّ، والمشيئة الإلهيَّة، والسَّماح الإلهيّ، وذلك بغية لإيقاظ عقولنا لفهم أفضل لهذا السِّر المحيط بنا. الإنسانُ الذي لم يُجرَّب سيبقى جاهلاً للحقيقة. التَّجارب هي شهاداتٌ يَقينيَّة لمحبَّة الله ورأفته على الإنسان، لهذا عليه أن يقدّم الشّكر في كلِّ شيء. عدم كمال الإنسان يستدعي تجارب لِتجعلَه كاملاً وتَصقُلَه؛ تفتحُ التَّجارب أعينَ ذهن الإنسان المحبّ لله  إلى نور الحقّ، وتجعلها مُشِعّة وقادرة لا على رؤية ما هو قريبٌ وحسب إنَّما ما هو بعيدٌ أيضًا. إنَّها تجعل الذِّهنَ قادرًا لا على استيعاب ما هو مفهومٌ وحسب إنَّما ما يفوق الإدراك؛ ولا أن يفهم فقط بل أن يعرف بدقَّةٍ، لأنَّه في الكمال تتجلَّى المعرفةُ التَّامة، فهذه المعرفةُ هي التي تقود إلى الكمال. بالتالي، هناك حاجةٌ لأن نُمتَحَن لنبلغ الكمال. هذه حاجةٌ مُلِحَّة، لا لأنَّنا خُلِقنا بحسب الصُّورةِ وعلينا أن نبلغ المثال أيضًا، بل لأنَّنا نُقاسي نتائج الخطيئة الجديَّة. تتعرَّض قوى النَّفس للهجوم والإضعاف، بحيث على النَّفس أن تُنخَسَ بشوكةٍ لتتقوّى وتنهض؛ أيضًا هي بحاجةٍ لنورٍ سماويٍّ لصفاء الذهن. إذًا، كما تعلم، إنَّ الكمال يشملُ الإنسانَ المخلوقَ على صورة الله ليبلغَ إلى مثاله، هذه هي أسمى درجة في السُلَّم الرُّوحيَّ التي يبلغ السَّماء، وهي التي على الإنسان أن يطأها. ولكن ألا يحدثُ أنّه بينما يتسلَّقُ ويرتقي بثباتٍ نحو العُلويَّات أن ينزلق نحو الأرضيَّات، أي التَّجارب التي لا يفتقر إليها، فيما لا يبلغ النهاية المرتجاة التي أسرع إليها والتي يتوق إليها قلبه؟

يا أخي في المسيح، إنَّ التَّجارب التي تخضع إليها، بتدبيرٍ إلهيّ، ستُنتِج مَنفعةً روحيَّةً عظيمةً. يقول لي قلبي إنَّكَ الآنَ أفضل ممَّا كنت عليه سابقًا. لذلك أتوسَّلُ إليك: كُفَّ عن الحزن، ومَجِّد الرَّب الذي يرحمك.

إنَّني أُرسلُ إليك مجلَّدات الذَّهبي الفم بواسطة شَحن إلى «دافني»، وهي موضوعةٌ في علبةٍ بِإسمِك وُضع عليها علامة D.A.

أعانقك مع أخويَّتك بتحيَّةٍ أخويَّةٍ في المسيح. أتوسَّل إليك أن تذكرنا أيضًا بشفاعتك أمام الله.

أبقى للحاجة أخًا لك في المسيح،

نكتاريوس أسقف المدن الخمس  

الطردُ يحمل عنوان D.A.، الجبل المقدَّس، كاتوناكيا.

 

تبدَّد حزن الشَّيخ دانيال فور تَلَقّيه رسالة القدّيس. فكلمات أسقف المدن الخمس لم تكن تعزيةً بشريَّة، إنَّما «روحٌ وحياة»، لأنَّ الأسقف تكلَّم وكتب بنعمة المسيح. وكان لديه دومًا مبدأٌ لا يتغيّر، أن يُثبِّت كلامه بالأعمال. فقد أرسلَ إلى الشَّيخ دانيال طَردًا يحتوي على ثلاثة عشرَ مُجَلَّدًا ضخمًا للقديس الذَّهبي الفم (منشورات البندقيَّة، 1734-1741، Bernardi de Montfaucon). كان هذا «كالندى النَّازل من حرمون». كان بحرًا من المحبَّة الحقيقيَّة، لم يتردَّد بِتَقدِمة ما هو مهمٌّ روحيًّا وماديًّا. فكيف بوسع الشَّيخ دانيال أن يعبّر عن فرحه وشكره لله؟

مجلَّدات أعمال القدّيس يوحنّا الذَّهبي الفم محفوظةٌ الآنَ في مكتبة الدانياليّين، حيث يشهدون على وحدة وانسجام نَفسَين تطربان الآنَ بــ«وحدة المحبَّة الأزليَّة» في السَّموات.

رسالةٌ أُخرى من القديس نكتاريوس للشيخ دانيال

هذه الرِّسالة للقديس نكتاريوس أُرسِلَت أيضًا إلى الشَّيخ دانيال، والنَّسخة الأصليَّة محفوظةٌ في قلَّاية الدانياليّين:

من دير الثَّالوث القدُّوس للرَّاهبات في آيينا، 18 آب، 1913.

 

الأخ الأقدس في المسيح دانيال، أعانق قَداستَك كأخ.

أستمدُّ الشجاعة من محبَّة قُدسِكم لنا، كي أوكِلَك بمسألةٍ تحت عنايتك المضمونة، التي أعتبرها مناسبة لإتمام عملٍ ذي أهميَّةٍ كُبرى لنا. أنت تعلمُ أنَّنا نرغب بشراء قلَّايةٍ في البقعة الجنوبيَّة من الجبل المقدَّس، مع حديقةٍ وماء وكنيسة إن أمكن، لأنَّني أفكِّر حاليًّا بإرسال اثنين من أبنائي الرُّوحيِّين، فهما يبتغيان عيش الحياة الرُّهبانيَّة في الجبل المقدَّس. بعد فترةٍ من الزَّمن، عندما أكون قد انتهيتُ من بعض الأمور التي تَوَلَّيتُها في دَيرِنا، سأقصد الجبل المقدَّس لفترةٍ وجيزةٍ بهدف التَّجديد الرُّوحي.

إضافةً إلى ذلك، أتوسَّلُ إلى قداستك أن تتولَّى مهمَّة إيجاد شيخٍ فاضلٍ ليأخذ على عاتقه مهمَّةَ إرشاد أبنائنا الرُّوحيِّين المبتدئين، الذين يحتاجون لمدرِّبٍ صالحٍ ليُدخلَهم إلى ميدان الجهاد ولكي يُعينَهم في جهادهم الرُّوحي بالمثال والكلام. سيُزوِّدُك حامل هذه الرِّسالة، لوقا كالانتزيس، شفهيًّا بكلِّ المعلومات ذات الصِّلَة.

أخيرًا، أعانق محبَّتك الأخويَّة، وأبقى الدَّاعي لك أمام الله.

نكتاريوس أسقف المدن الخمس

ملاحظة: أُرسلُ لك أيضًا مع حامل الرِّسالة إصداراتي الجديدة، جُزئين في الإنشقاق، ودراستَين عن الكنيسة والتَّقليد الشَّريف.

أنتظر إجابتك.

 

From Contemporary Ascetics of Mount Athos, vol. 1, by Archimandrite Cherubim; St. Herman of Alaska Brotherhood Press, 1991, pp. 289-296.

المصدر:

https://www.johnsanidopoulos.com/2009/11/saint-nektarios-and-elder-daniel-of.html

 

[1]  بما يخصُّ الهديَّة «الخريستولوجيا»، كَتَبَ إليه القديس نكتاريوس: «لقد أبطأتُ بالرَّد على رسالتك العزيزة جدًّا لأنَّني أردت أن أُرسِلَ إليكَ تذكارًا صغيرًا عربونَ محبَّة. أرسِلُ إليكَ شيئًا رمزيًّا هو صورتنا المُرفَقَة وأحدَ أعمالنا، الخريستولوجيا المُقدَّسة، التي تتحَّدث عن شخص ربِّنا ومخلِّصنا يسوع المسيح وعمله». (رسالة من آيينا، 6 تشرين الثاني، 1915). 



آخر المواضيع

القديس ديمتريوس التسالونيكيّ كراهب
الفئة : مواضيع متفرقة

إيروثاوس ميتروبوليت نفباكتوس 2024-10-25

تَقريظٌ لقطع رأس النّبيّ السّابق المجيد يوحنّا المعمدان
الفئة : مواضيع متفرقة

القديس ثاودوروس الستوديتي 2024-08-28

النشرات الإخبارية

اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني

للإتصال بنا