كيف أنّ دَيْرًا من ولاية ميشيغان الأمريكيَّة بَقِيَ مفتوحَ الأبواب في الفصح من دون قُيود
الأرشمندريت باخوميوس (بلكوف)
تعريب الياس سعد ونوف الدغل
في المقال التّالي، يشرحُ الأرشمندريت باخوميوس (بلكوف) رئيس دير القدّيس سابا، التّابع للكنيسة الروسيّة في بلاد الانتشار الواقع في هاربر وود، ميشيغان، كيف استطاعَ الدّير أن يبقى مفتوح الأبواب خلال الصّوم الكبير والأُسبوع العظيم والفصح، وكَمَّ الفرحِ والنعمةِ اللّذَيْن اختبرَهما المئات مِن الّذين مَجّدوا قيامةَ المسيح. هذا المقال لا يَهدفُ إلى معاتبة الذين امتَثلوا لبركةِ أساقفتهم وبَقيوا في المنزل، أو الّذين أَغلقوا الكنائسَ تحت التهديد بدفع الغرامات أو الاعتقال. لكن المجد لله أنْ أُوجِدَ مكانٌ كهذا حيث كان بمقدورِ المؤمنين تناولُ القدسات، بالرّغم من مشاعرِ الخوف التي تُهَيْمنُ على المحيط.
عندما بدَءَ ذكْر فيروس كورونا في وسائل الإعلام، وبدأَتِ الهِستيرية العامّة، كنتُ شديدَ الحُزن ومُكتئبَ الرّوح على ما أَقْدَم عليه أساقفةُ جميعِ السّلطات الكنسيّة في أمريكا من إقفالٍ فوريّ للكنائس. كنتُ مَذهولاً ممّا يحصل لأنّي اعتقدتُ أنّه استسلامٌ، مِن دون أيّة مقاومةٍ للدّفاع عن الأسرار الكنسيّة. أمّا أنا فقاومْتُ، لا كيْ أظهَرَ بمَظْهر المتمرّد، لكنْ لأنّ ما يَحصل هو ضدّ جميعِ ما قد عَلَّمَتِ الكنيسة.
في الأحد الأوّل أَلقيْتُ عِظةً تتضمّنُ حقائقَ تاريخيّة ًعن كلّ الأوبئة التي ضَربَتِ الإمبراطوريّة البيزنطيّة: طاعون جستنيان وهلمّ جَرًّا، حتّى أنّ هناك تسجيلاتٍ عن عددِ الجثَث التي كانت مكدّسةً في الكنيسة. وهذا يُخبِرُنا أن الكنيسةَ لم تُغلِق حتّى في أكثر الأوقات صعوبةً. مع الملايين من الناس الذين يموتون من الطّاعون، كانتِ الكنيسة مفتوحةً للخِدَم و الصلوات. الأسرار المقدّسة هي دواءٌ للأرواح.
كَرُهبانٍ، نعيشُ من أَجل ملكوت السّماوات، لا من أجل هذه الحياة الأرضيّة أو حتّى من أجل صحّة هذا الجسد. خلال زمن الصّوم الكبير، كان الدّير مفتوح الأبواب لإقامةِ جميع الخِدَم، وللخِدَم الدَيْريّة اليوميّة، كانَ هناك المئات مِمَن حَضَروا. كُنّا الكنيسةَ الوحيدة، من بين خمسِ ولايات، المفتوحةَ الأبواب من دون عددٍ محدّدٍ من الأفراد (ملحوظة: كان هناك كنائس أرثوذكسيّة أخرى مفتوحة لكن لِعددٍ محدّد).
لا يُمكنني التّصديقُ أن العالمَ كان يُذيع أنّه من الخَطَر أن يُمسحَ الناسُ بِسِرّ مَسحة الزّيت المقدّس من نَفْس الرّيشة، لأنّه من الممكن أن يمرضوا. الهدف الوحيد لِسِرّ مَسحة الزّيت أن يَشفيَ الناسَ بالزيت المقدّس. عندما بدأَتِ الأمورُ تثيرُ الهلعَ وبدأَ الناسُ يُصابون بالذُعر والقلق، قرّرْتُ أن أستشيرَ خمسةً من الأطبّاء الأرثوذكسيين الّذين يتردّدون على الدّير. أرشدوني من مُنطلق طبيّ ما هي الإجراءاتُ التي عليَّ اتّباعُها لأَتأكّدَ من سلامةِ الجميع بدون تعريض صحّةِ أو خلاصِ أحدٍ للخطر. فَباشرْنا بِطَلَب الكمّامات والقفّازات المطّاطية، والمناديل المعقَّمة، وشدّدْنا على أنْ يَستعملَهم كلُّ من يَحْضُر، من أجل سلامةِ الشيوخ والأولاد والّذين يعانون من المَشاكل الصحيّة.
عندما بدأ الخبَرُ بالانتشار، استاءَ الإكليروس الأرثوذكسيّ للغاية، معتقدين أنّنا كنّا نُحْرجُهم في إبقاء كنيستِنا مفتوحة. قال البعضُ إنّني كنتُ أتحدّى البطريرك ورئيسَ الأساقفة بذلك، لكنّني لم أفعل ذلك. في الولايةِ التي أعيشُ فيها، ميشيغان، والعديد من الولايات في الولايات المتّحدة، على عَكس ما أُخْبِرَ به النّاس، لم يكن من الإلزاميّ إغلاقُ أيّة مؤسسةٍ دينيةٍ، بسبب وجودِ فصلٍ بين الكنيسة والدولة. في ولاية ميشيغان، لم يتمّ إغلاقُ الكنائس مطلقًا، ولم يكنْ هناك قانونٌ منصوصٌ يفرضُ التباعدَ الاجتماعيّ أو تحديدَ عددِ الأشخاصِ المتواجدين في الكنائس. عندما نشرْتُ هذا على موقع الدير، وعندما دَعَوْتُ جميعَ المسيحيّين الأرثوذكسيّين إلى القُدوم للمشاركةِ بالأسرار المقدّسة التي تُقامُ في زمن الصّوم والفصح، تَمَّ للأسف وَصفي بأني مُحَرِّض وكذَّاب، على الرغم من أنّني عَرَضتُ إثباتاً على القانون من مكتب الحاكم. حتّى أن أحدَ الأساقفة أبلغَ كهنتَهُ أنّ المؤمنين مَمنوعون من القُدومِ إلى الدير – وأنّهُ من الأفضل لهم مشاهدةَ الخدمات التي يتمُّ بثُّها مباشرةً في المنزل. لكن هذه ليست مسألةً تتعلّق بالولاية - إنّها مسألةٌ تتعلّق بالروحِ والأسرار المقدّسة، ومسؤوليّةِ الكنيسة التي لا هَوادة فيها في الخدمة تحت أيّ ظرف.
مع العِلْم باقتراب الفصح، اتّصلتُ بإدارة الشرطةِ المحلّيّة في مدينتي، ورتّبْتُ لقاءً. لقد كانوا من الدّاعمين للديرِ لسنواتٍ عديدة، و يعرفوننا معرفةً شخصية. طمأنني قسمُ الشرطة ومحامي المدينة، أنّني في الحقيقةِ لم أُخالفْ أيّةَ قوانين. أودُّ أنْ أُضيفَ أنّه بعد ظُهرِ يومِ سبت النور، حيث كُنّا نحاول بشكلٍ جدّيّ أن نتهيّأَ لإقامة القدّاس الإلهيّ في الهواء الطلق، ظهرَ أفرادٌ من الشّرطة. فاعتقدْتُ في بادئ الأمر أن هناك تغييرًا في القرار، لكنّ الشرطة قالت: «ابقَ هادئًا أبي، نحن هنا لإظهار دعمِنا الكامل ومناقشة ِالتفاصيل المتعلّقة بكيفيّة تَسييرِنا لِحركة المرور وتقديمِ المساعدة».
لم تُغلقْ الولايةُ أبدًا أيّة مؤسّسات دينية. لكنّ السلطات الدينيّة هي مَن أغلقَتِ الكنائسَ في معظم الولايات، وليس الحكومة. هذا محزنٌ جداً. وقالَتْ الصفحاتُ الأولى من الصّحف أن رئيسَ الأساقفة الكاثوليك أَمَرَ الكهنةَ بإفراغ أوعيةِ المياه المقدّسة حتى لا يمرضَ الناس. لقد أُصِبْتُ بالصّدمة عندما قرأْتُ هذا - على الصفحة الأولى. ثمّ فَعَلَ الأرثوذكسيّون في الحقيقة نفْسَ الشيء، من خلال السّماح للكاهن بالخدمة مع قائد الجوقة فقط ولا أَحَد تقريبًا في الكنيسة - ربّما خمسة أشخاص.
بعد أن حصلْتُ على تأكيدٍ من رئيس البلديّة وقسم الشرطة ومحامي المدينة، تواصلتُ مع سيادة متروبوليتنا هيلاريون وأعلمْتُه بالحقائق، وقد أرسلَ هو شخصيًّا بيانًا يُشيرُ فيه إلى أنّ الديرَ يقعُ تحت إدارتِه، وأنّنا حَصَلْنا على البَركةِ بإبقاء الدير مفتوحًا! كان سعيدًا جدًّا بأنني استطعْتُ الاستمرار في إقامة الخِدَم لِعَدَدِ الناس الّذي أَمكن أنْ أخدمَه، لأقدّمَ لهم الأسرار المقدّسة.
مِنَ المشاكلِ الرّئيسيةِ أنّ لكلّ ولايةٍ قوانين مختلفة وكان من الصعب للغاية على مَجمع الأساقفة التعامل بشكلٍ مُنفرد مع كلّ كاهن ودير في كل ولاية بطريقةٍ سريعة، مع كل هذه التعقيدات. استنادًا لدستور الولايات المتحدة، يُمنع حظْر التجمّعات الدينيّة أيًّا كان نوعها، وبالتّالي لا يحقُّ لأيّ ولاية إغلاقَ أي مؤسسة دينيّة.
سيادتُه تمنّى لي فصحًا مجيدًا ، مشيرًا إلى أنّنا سنحتفل هذا العام من أجل الجميع!
أودّ أن أضيف أنّه بينما تعرضَتْ ميشيغان ومنطقة ديترويت لضررٍ شديدٍ - وكانت من بين الأسوأ- من جرّاء هذا الفيروس، لم يمرضْ أحدٌ من جماعة الدير أو يَمُتْ أو تَظهرْ عليه أيّة أعراض.
هنا لا زِلنا في أوائل الربيع، والطقس متقلّب. يومٌ دافئٌ ومشمسٌ، وآخر شديدُ البرد ومثلجٌ... تقريبًا كارثيّ. تستوعب كنيسةُ الدير حوالي ٢٣٠ شخصًا، لكن مع تهافت الكثير من الناس - لأن جميع الكنائس الأخرى مغلقة - كانت كنيسةُ الدير مزدحمةً خلال الأسبوع العظيم، لذا قرّرْتُ الاحتفال بالفصح في الهواء الطلق.
في العام الماضي، تُوُفّيَ أحدُ المتبرّعين الأعزاء وترك هبةً لبناء نصب تذكاريّ في الدير تكريمًا له. كان اسمه ستيفن ستولاروك. أردْتُ جدًّا بناء رِواق لإقامة الخدمات في الهواء الطلق، يُستخدم في مناسبة ما. الجميع، الإيبوذياكون، خدّام الهيكل الشباب، الشمّاس، وأنا، باشرْنا ببناء هذا الصّرح الكبير. واصلْتُ العمل بإصرارٍ بُغْية أن نُتِمّ نَصْب السقف قبل نهاية العام الماضي، لأن هذا الأمر ظلّ يراودُني في الحلم. ثمّ ضرب هذا الوباء و تَغيَّر كلُّ شيء، واستخدمْنا الرِواق، غير منجَزٍ تمامًا، لإقامة قدّاس عيد الفصح في الخارج من أجل مئات الناس.
مسيحيّون ناطقون باللّغة العربيّة أتوا ومعهم مرتّلون ورتَّلوا باللُّغة العربيّة، رومانيّون أيضًا جاءوا ورتّلوا باللُّغة الرومانيّة، وكان لدينا روس وأوكران ومقدونيّون وصرب ويونانيّون، كلّهم يحتفلون بالفصح سَويًّا كما في أورشليم.
كان هذا العيد واحدًا من أكثر احتفالات عيد الفصح تأثيرًا وترسيخًا في الذّاكرة يُمكن لأحَدٍ منّا أن يَختبره على الإطلاق، بما فيهم أنا، على امتداد ٣٠ عامًا من الكهنوت. خلال أسابيع الصّوم التسعة، لم يمرضْ واحدٌ منّا، الكلُّ استعدَّ وكان متحمّسًا لتلقّي الأسرار المقدّسة. تَبارَكْنا برؤية مثل هذا الإيمان، والاستعداد لدعم الكنيسة حتّى النهاية.
تحدثْتُ مع المتروبوليت يونان على الهاتف أمس، وكان لديه نفْسُ القصّة تقريبًا لِيَرويها، على غِرار ما فَعَل كلٌّ منّا نحن الّذين واصلنا المسيرة وتَبِعنا ما تعلّمناه في معهد اللّاهوت - ألّا نَحرمَ الناسَ من الأسرار تحت أيّ ظرف، ولقد تَباركنا بنعمةٍ عظيمةٍ هذا الفصح.
تزامنًا مع بداية الوباء، كان إنجيلُ الأحد عن المخلّع الذي تمّ إنزالُه من سقف الكوخ بسبب وجود الكثير من الناس، لكي يشفيَه يسوع. لم يتمّ نبذُ المفلوج بحجّة خوف الناس من الإصابة بالمرض - ولا حصل ذلك مع الأبرص أو في أيّة قصّة أخرى من الكتاب المقدّس عن أناس جاءوا إلى يسوع طلبًا للشّفاء. قال الرب: «تعالوا إليّ يا جميع المتعَبين و الثقيلي الأحمال وأنا أريحُكم» (متى ١١:٢٨). لم يقلْ «ابتعدوا عنّي وابقوا بعيدًا عن الكنيسة لأنّكم ستنقلون المرض للجميع».
لدَيْنا مَثَل الفتيان الثلاث القدّيسين الذين تَحَدّوا حكم الملك نبوخذ نصَّر، ومن أجل إيمانهم بالثالوث القدوس، تُرَتَّل لهم أنديفونة عظيمة في كلّ سبت مقدّس صباحًا. لدينا تَبريك القمح للقديس ثيودوروس، متذكّرين حين تمّ تسميم الطّعام في السوق، وأبلغ الملاكُ المسيحيين من خلال البطريرك ليأكلوا القمحَ المسلوق.
أنا فخورٌ بجميع الأرثوذكسيين من كافّة الخلفيّات العرقيّة الذين أتوا من منازلهم إلى الدّير مع سِلالِهم وشموعِهم ومع كمّاماتِهم وقفّازاتِهم، لاستقبال الرب في بيته المقدّس، المفتوح للجميع، والمملوء نورًا وحياةً.
كان أسبوعًا مرهِقًا لأنّني كنتُ الكاهن الوحيد الذي ناول القُدُسات لكلّ هؤلاء الناس. بعد ظهرِ يوم الفصح، بعد صلاةِ الغروب، ذهبْتُ إلى غرفتي لأستلقي، وغفوْتُ حتى منتصف اليوم التّالي. حين استيقظْتُ، كانَتْ هناك رسالةٌ تلقّيْتُها على هاتفي، بَعَثَتْ ابتسامةً كبيرةً على وجهي ونعمةً مُضافةً. كانَتْ معايدةً فصحيةً شخصيّةً من غبطة بطريرك أورشليم مرسِلًا بركتَه من فيضان النور المقدّس لِدَيْري - روحيًّا - وداعيًا للاستمرار في إنقاذ أرواح الناس. دَيْري له علاقاتٌ وثيقةٌ مع بطريركيّة أورشليم وأديار الأراضي المقدّسة.
لنتعلّمْ جميعُنا أن لا دواء أعلى من الأسرار المقدّسة، أنّ الأهمّ أن نتمكّن من الذّهاب إلى الكنيسة أوّلًا، ثمّ إلى مَتْجر البقالة المَحَلَيّ، أنّ الله لا يبتعدُ عنّا، وعلينا ألّا نبتعدَ عنه وعن بعضنا البعض، أنّ الصلاة ورسالة الإنجيل أهمّ ُ بكثير من ضجيج الأخبار ووسائل الإعلام.
هذا هو يومُ القيامة، هذا هو فصحُ الربّ الخلاصيّ، هذه هي البداية التي جَلَبَتْها يمينُ الله. المسيحُ قام !
في ٣٠ نيسان ٢٠٢٠
المصدر:
https://orthochristian.com/130650.html
آخر المواضيع
القديس ديمتريوس التسالونيكيّ كراهب
الفئة : مواضيع متفرقة
تيك توكر يونانية شهيرة تصبح راهبة أرثوذكسية
الفئة : مواضيع متفرقة
تَقريظٌ لقطع رأس النّبيّ السّابق المجيد يوحنّا المعمدان
الفئة : مواضيع متفرقة
النشرات الإخبارية
اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني