الأسقفيّة والمجمعيّة
الأرشمندريت غريغوريوس اسطفان
عن نشرة الكرمة،
الأحد 1 تموز 2018، العدد 26
في عيد الرّسولين بطرس وبولس، وسائر الرّسل، تحتفل الكنيسة بمحطّة هامّة من حياتها المقدّسة.
الرّسول في المسيحيّة هو الذي ائتمنه الله على رسالة إلهيّة أو مهمّة مقدّسة. فالرّبّ اختار رسله، أحبّهم وعلّمهم، وكان لهم مثالاً في كلّ شيء، ليصيروا مسحاء آخرين، قادرين على أن يُتلمذوا كلّ الأمم وأن يُعمِّدوهم ويأتوا بهم إلى محبّة وصاياه. لقد ائتمنهم الرّبّ على سرّ خلاص الإنسان، على عقيدة ملكوت السّمَوات، أعطاهم سلطان الحلّ والرّبط، وسلطان شفاء الأمراض وطَرد الشياطين، وإقامة الأسرار الإلهيّة، والمهمّ أيضًا سلطان أن يُقيموا خلفاءَ لهم: "أُذكّرُك أن تُضرِم أيضًا موهبة الله التي فيك بِوضع يديّ" (2تيم6:1).
إنّ موهبة الرّسوليّة التي أسّسها الرّبّ يسوع المسيح، كان طبيعيًّا لها أن تستمرّ بعد موت الرّسل. فانتقلت إلى خلفائهم الّذين اختاروهم هم أنفسهم. وهذا واضح في رسائل العهد الجديد التي تتكلّم على شيوخ وأساقفة ورعاة، والكنيسة الأولى كانت تعي، بعمقٍ، هذه الحقيقة.
كليمندس أسقف رومية، في نهاية القرن الأوّل، في رسالته إلى الكورنثيّين، يتكلّم بوضوح كيف أنّ الرسل وضعوا خلفاء لهم ليقودوا الكنيسة. الأساقفة في الأرثوذكسيّة هم خلفاء الرّسل المباشرون، إنّهم استمرار للرّسوليّة التي اختارها ربّنا ليقود العالَم من خلالهم إلى الحقّ الوحيد.
هذا ما يعنيه كلام الرّبّ يسوع لهم: "ها أنا معكم كلّ الأيّام إلى انقضاء الدّهر". إنّه معهم من خلال خلفائهم الأساقفة. هؤلاء الأساقفة أصبحوا لا فقط رسلاً للمسيح، إنّما، أيضًا، أنبياء العهد الجديد. فبعد أن توقّفت وظيفة النبوءة، كموهبة خاصّة في الكنيسة، في بَداءات القرن الثاني للمسيح، استلم أساقفة العهد الجديد مع وظيفة الرّسوليّة النبوءة أيضًا.
إنّهم رُسل يبشّرون بيسوع المسيح، ودورهم، كأنبياء، أن يُعلنوا مشيئته للكنيسة ولشعب الله. وهكذا، الكنيسة، التي رأسها الرّبّ يسوع المسيح، مَبنِيّة "على أساس الرّسل والأنبياء، ويسوع المسيح نَفسه حجر الزّاوية" (أف20:2). وهذه المواهب تنتقل إلى الكهنة، معاوني الأساقفة، عبر طاعة هؤلاء الكهنة للأساقفة، حين لا تتعارض هذه الطاعة مع إيمان الكنيسة وتقليدها وقوانينها.
لقد كانت المجمعيّة والشورى صفة كنيسة الرّسل الأولى، والرّسل حكموا الكنيسة من خلال المجامع. بولس الرّسول لم يتفرّد بمشيئته وقراره بل قال إنّه صعد إلى أورشليم ليعرض إنجيله على المعتبرين لئلّا يكون قد سعى أو يسعى باطلاً. مجمع أورشليم الرّسوليّ الأوّل حقّق كمال الصورة المجمعيّة للكنيسة، وكشف أنّ المجمعيّة هي جزء من طبيعة الكنيسة. لهذا، على مثال هذا المجمع كانت الكنيسة، عبر الزمن، تعقد مجامعها، وتجاهد لتحفظ روح المجمعيّة في وسطها.
استمرّت المجامع بعد عهد الرّسل تشكّل الصّيغة القانونيّة التي تعبّر عن اجتماع الكنيسة كلّها. فانعقدت المجامع المحلّيّة والمسكونيّة، والأساقفة الذين اجتمعوا فيها يمثّلون شعب الله وهم مؤتمنون عليه. وهذه الرّوح المجمعيّة لها انعكاسات على كلّ حياة الكنيسة، لا بل، حتّى، على إيمان الكنيسة.
فالرّوح المجمعيّة هي التي تجعل حياة الكنيسة تنمو بطريقة حرّة مواهبيّة، غير محكومة بالخوف من تسلّط الرأس الواحد المتفرّد بالحكم، الّذي يكون في العادة هو نفسه تتسلّط عليه أهواء عديدة، ويكون غير قادر على تقبّل من يُعارض طريقه ونهجه.
وبهذه الرّوح المجمعيّة المواهبيّة تحدّدت العقائد المقدّسة، ونما لاهوت الكنيسة بطريقة أرثوذكسيّة مستقيمة، كما نَمَت حياة الكنيسة الليتورجيّة بطريقة روحيّة نسكيّة.
وبهذه الرّوح صيغت القوانين، لا لتُخيف المؤمنين إنّما لتحفظ مسيرتهم من ضعف الطبيعة، وتجعلها سهلة العبور إلى الملكوت. لا توجد حرّيّة خارج المجمعيّة، ولا لاهوت مواهبيّ خارج المجمعيّة، لأنّ حركة النّعمة تتحوّل حينها إلى الرّوح المؤسّساتيّة الدنيويّة لخدمة توجّه الرأس المتسلّط، إمّا خوفًا منه أو تزلّفًا له.
في المجمعيّة الحقيقيّة يعمل الرّوح الواحد من خلال مواهب الكثيرين لبناء جسد المسيح الواحد، ولا يمكن لهذا الروح أن يعمل خارج الحياة المجمعيّة. لهذا قال المسيح: "حيثُما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهُناك أكون في وسطهم" (متّى 20:18).
كلّ مظاهر حياة الكنيسة الأرثوذكسيّة هي مجمعيّة، من الرّعيّة حتّى المجمع المسكونيّ. وكلّ ما يُساهم في تغذية الفرديّة التسلّطيّة لدى الكهنة أو الأساقفة (أو البطاركة على صعيد الكنيسة المحلّيّة) يشكّل خطرًا حقيقيًّا على كلّ مسيرة الرّوح في الكنيسة المقدّسة، ويُعطّل مواهب الرّوح القدس لدى المؤمنين.
إنّ تسلّط الأسقف في الكنيسة هو دليل على تسلّط روح الكبرياء والأنانيّة المقيتة وهوى العَظَمة في نفسه.
لقد علّم المسيح رسله أوّلاً فضيلة إنكار الذّات، حين كانوا يتنافسون على المراكز الأولى، قائلاً لهم: "رؤساءُ الأمَم يَسودونَهُم، والعُظماء يَتسلّطون عليهم، فلا يكون هكذا فيكم" (متّى 20: 25 و26).
فإن كان فينا هذا النّوع من التسلّط فبماذا نختلف حينها عن رؤساءُ الأمم الّذين دانهم المسيح؟ ألا تتحوّل الكنيسة حينها إلى مؤسّسة من أمم هذا العالم، ويتحوّل أساقفتها إلى أسياد دنيويّين على شاكلة زعماء هذا الدّهر؟
هذه هي العوامل التي أدّت إلى سقوط الكنيسة في الغرب، وتحوّلها، عن حقّ، إلى كنيسة بابويّة، حين اختصرت الكنيسة كلّها في شخص البابا وجعلته فوق المجامع، ناقضة كلّ المفهوم الإكليسيولوجيّ الّذي سارت عليه الكنيسة مدّة ألف سنة.
لقد أصبح البابا هو الكنيسة، وحين سقط من جهة الإيمان سقطت الكنيسة التي هو رأسها كلّها معه، وأصبحت خارج جسد المسيح. لهذا، حيث لا توجد مجمعيّة لا توجد كنيسة.
في الأرثوذكسيّة، المجامع المحلّيّة لها الدور العمليّ الأوّل في مواجهة التحدّيات المعاصرة التي لا تتوقّف.
يعمل مجمع الأساقفة المحلّيّ بروح المجامع المسكونيّة المقدّسة، حافظًا أرثوذكسيّة عقائدها وقوانينها من التعاليم الملتوية واللّاهوت الكاذب الاسم.
المجامع المسكونيّة هي السلطة العليا في الكنيسة الأرثوذكسيّة ولا يمكن لمجمع محلّيّ أن ينقض شيئًا من تعاليمها أو قوانينها. يمكنه فقط استخدام التّدبير عند الضرورة.
والدّور الآخر للمجمع المحلّيّ هو تعليم هذا الإيمان لشعب الله، وكيفيّة عيشه بروح التوبة والاعتراف والمشاركة الحيّة في الأسرار الإلهيّة، ومقاومة الرّوح الدّهريّة التي تنتشر في حياة الكنيسة مدمِّرة روح التقوى فيها.
إنّ هذه المجمعيّة تعيشها الكنيسة في كلّ اجتماع افخارستيّ، ومن هذا الاجتماع الأفخارستيّ تستمدّ الكنيسة أسس بناء مجمعيّتها.
هناك، حيث يكون الاِعتراف بالإيمان الأرثوذكسيّ الواحد، يكون السيّد حاضرًا والمؤمنون حوله مع أسقفهم يشكّلون، بقوّة الرّوح القدس، مجمعًا إفخارستيًّا تتجلّى فيه كلّ الأبعاد المسكونيّة لمجمعيّة الكنيسة الواحدة.
آخر المواضيع
آباء الفيلوكاليا
الفئة : عظات اﻷرشمندريت غريغوريوس اسطفان
من هم الروم الكاثوليك؟ (1724 - 2024) (3/3)
الفئة : عظات اﻷرشمندريت غريغوريوس اسطفان
من هم الروم الكاثوليك؟ (1724 - 2024) (2/3)
الفئة : عظات اﻷرشمندريت غريغوريوس اسطفان
النشرات الإخبارية
اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني