الإيمانُ مسيرةٌ نحو اللّه
الأرشمندريت غريغوريوس اسطفان
عن نشرة الكرمة - العدد 12
في 25 آذار 2018
في هذا الأحد المبارك يبدأ الأسبوع الأخير من الصّوم الأربعينيّ، قبل أن ندخل الأسبوع العظيم، أسبوع الجهادات العظيم، الّذي فيه تكتمل كلّ مسيرة هذا الصّوم بتحوّل الموت إلى قيامة.
آحاد الصّوم هي مسيرة تصاعديّة، تدرّج روحيّ للوصول إلى معاينة الله في نور قيامة المسيح من بين الأموات. الأحدان الأوّلان، أحد الأرثوذكسيّة وأحد غريغوريوس بالاماس، يمثّلان خبرة الإيمان الحيّ المستقيم، الّذي عليه يقوم كلّ ارتقاء روحيّ حقيقيّ نحو الإله الحيّ الّذي نؤمن به. الأحدان الأخيران من الصّوم الأربعينيّ، أحد يوحنّا السلّميّ وأحد مريم المصريّة، يمثّلان خبرة التوبة والجهاد الرّوحيّ لبلوغ الحياة الكاملة في المسيح. وفي وسط هذا الصّوم المقدّس، تمرّ خبرة الإيمان وخبرة النسك بخبرة الصليب، الّذي يمثّل خبرة الإيمان الحيّ بابن الله وخبرة تسليم مشيئتنا له. يمثّل الصليب صلة بين العقيدة والحياة، لأنّه حقّق غلبة المسيح على الخطيئة والشيطان والموت، وكشف حاجة الإنسان لصليب المسيح. أصلح المسيح عصيان الإنسان الأوّل بالطاعة حتّى الموت، موت الصليب. فأصبح هذا الصليب الرّابط الّذي لا ينفكّ بين الإيمان المستقيم والحياة المستقيمة. أمّا الأسبوع العظيم فهو تتويج لهذه المسيرة التصاعديّة، حيث النهاية تصير بَداءَةً، في ولادة جديدة روحيّة، حين تتحقّق فينا خبرة الموت والقيامة، الغلبة مع المسيح.
مسيرة الإنسان التصاعديّة نحو الله هي، أوّلاً، مسيرة إيمان. لكنّ الإيمان يحتاج إلى أعمال نسك جدّيّة؛ الإيمان يحتاج إلى أعمال، والأعمال لا يمكن أن تصير صالحة وكاملة من دون نسك يطهّرها من أهواء محبّة الذات الفاسدة. كما يحتاج الجسد إلى الخبز هكذا تحتاج الأعمال إلى جهادات نسكيّة. لهذا نقول إنّ الإيمان الحيّ يحتاج إلى نسك. هذا النسك نعبّر عنه بهذه الأصوام المباركة والصلوات الطويلة والأسهار والأتعاب المختلفة. هذه هي الوسيلة التي تمنح النفس أن تُسلّم، بالإيمان، مشيئتها لله وتحيا فيه. النسك هو غذاء الإيمان الحقيقيّ، لأجل أن يصير كاملاً، لا مجرّدًا نظريًّا. الإيمان من دون حياة نسك يموت حتمًا، أوّلاً في عقلانيّته ومنطقه المحدود، وثانيًا، بفعل الأهواء، يتّجه إلى ذاته لا إلى الله. يقول القدّيس إسحق السريانيّ: "إنّ تحمُّل الضيق، طوعًا وبمحبّةٍ، يُبرز صدق الإيمان، أمّا عمل الرّاحة فيصير بالضمير الفاسد. لقد امتُحنَتْ محبّة القدّيسين بالضيقات لا بالرّاحة، لأنّ العمل الصائر بدون تعبٍ هو فضيلة أهل الدنيا الّذين يعملون الإحسان ظاهريًّا ولا ينتفعون منه شيئًا".
بالإيمان أسلم القدّيسون أنفسهم لله وبالنسك طهّروا مشيئتهم، فقمعوا أجسادهم وأخضعوها لوصاياه. يُشير القدّيس هيلاريون بواتييه إلى أنّ النفس القلقة لا تجد راحتها إلّا في تسليم الإيمان، وهذا ما يدفعها للشهادة، بدون خوف، لإيمانها الحيّ.
الإيمان الحيّ وحده يربط المخلوق بخالقه. هذا الإيمان ليس قناعة خارجيّة في الإنسان، إنّما يعمل فيه من الداخل ويوجّه قوى النفس لتصل إلى معرفة لله يقينيّة. شدّد المسيح في تعليمه على عمل الإيمان؛ وظهر هذا التشديد حين ألحّ في السؤال، في حادثة النازفة الدمّ: مَن لَمَسني؟ وذلك ليقول إنّنا لا نستطيع لمسه حقيقة إلّا بالإيمان. كثيرون لمسوه كإنسان لكنّ واحدة لمسته كإله (القدّيس أفرام).
وهذه كانت حالَ العذراء مريم، في بشارتها من الملاك، الّذي أنبأها بحلول ملء الزمان؛ لمست عقليًّا الطفل الحالّ فيها كإله، أو، على الأقلّ، لا كإنسان عاديّ. إنّ تسليم مريمَ الفوريّ هذا لمشيئة الله، بعد سؤالها الملاك، كشف قوّة الإيمان الّذي كانت تحيا عليه. وقوّة إيمانها أظهرت طريقة حياتها النسكيّة، لأنّ قوّة الإيمان تظهر في قبول مشيئة الله باتّضاع وبتسليم ذات دون خوف أو تردّد. ولعلّ الله أراد هذا العيد أن يقع وسط الصّوم الكبير لأنّه حقًّا يعبّر عمّا يهدف إليه الصّوم: تطهير مشيئة الإنسان الذاتيّة، عبر بلوغ أقصى التواضع، لكن، أيضًا، بلوغ أقصى درجات الإيمان.
لهذا كان إيمان مريم سرًّا أمات جحود حوّاء، حين قبلت أن يأتي منها سرّ تدبير الخلاص. بفعل إيمان مريم أتى المسيح واختفى آدم؛ استعيدت بنوّة الكنيسة عوض نفي الفردوس، وبشارة الملاك أبطلت تجربة الحيّة، وأُعطيت الحياة الأبديّة عوض الموت والهلاك الأبديّ.
هذا الإيمان الّذي نتكلّم عليه لا يمكن أن يكون مبعثرًا لأنّه واحد ومقدّس. في الأرثوذكسيّة لا يوجد إيمان مجرّد، إيمان غير محدّد بعقائد وقوانين. إيماننا بالله يصعد على درجات هذه العقائد المحدّدة والمقدّسة. يعبّر القدّيس أبيفانيوس القبرصيّ، في كتابه "المرساة"، عن مفهوم الإيمان القويم، أنّه كمرساة يحتاجها الإنسان في رحلته عبر بحر هذه الحياة، المملوءة بالتجارب والضلالات والشّياطين والهرطقات.
مسيرة الإيمان الحقيقيّ ليست فقط من الإنسان؛ كمال الإيمان عطيّة من الله. يتكلّم القدّيس كيرلّس الأورشليميّ، في تعليمه، على درجتين في الإيمان: "الإيمان العقائديّ"، ويتعلّق بموافقة النفس، وهو وسيلة لتربح هذه النفس إيمانًا آخر هو "عطيّة النعمة، وهبة المسيح". هذا الإيمان هو أسمى من تحليلات المنطق البشريّ، لأنّه يُنير النفس من الداخل ويؤهّلها لتأمّل الله ومكافآت الدهر الآتي.
المسيحيّون يملكون سرّ المسيح، ليس بالبراهين المنطقيّة بل بقوّة الإيمان المستقيم. لهذا، الكنيسة الحيّة، الأمينة لوصيّة مسيحها، تغرس في قلوب أبنائها عِشق المسيح في محبّة الإيمان الأرثوذكسيّ المستقيم، وفي الهذيذ بكلمة الله والصلاة الداخليّة، وفي التعب الرّوحيّ لأجله. إنّ مسيحنا ليس مسيح مؤسّسات، بل مسيحُ الآب الأزليّ.
يُمكنكم قراءة المقال باللغة الإنكليزية على الرابط التالي:
http://orthochristian.com/111733.html
آخر المواضيع
من هم الروم الكاثوليك؟ (1724 - 2024) (3/3)
الفئة : عظات اﻷرشمندريت غريغوريوس اسطفان
من هم الروم الكاثوليك؟ (1724 - 2024) (2/3)
الفئة : عظات اﻷرشمندريت غريغوريوس اسطفان
من هم الروم الكاثوليك؟ (1724 - 2024) (1/3)
الفئة : عظات اﻷرشمندريت غريغوريوس اسطفان
النشرات الإخبارية
اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني