الحياة الروحية في أيّامنا

الحياة الروحية في أيّامنا

الأرشمندريت يوستينوس بارفو

نقله إلى العربية: ماهر سلوم

 

الأرشمندريت يوستينوس بارفو هو أحد الشيوخ الرومان المحبوبين والمُكَرَّمين، وهو معاصرٌ لنا (1919-2013). اعتُقِلَ سنة 1948 وحُكِمَ عليه بالسَّجن 12 سنةً بسبب "آرائه السياسية.” وفي نهاية مَحكوميّته، سنة 1960، حُكِمَ بأربع سنين أخرى في السجن لِرَفضه إنكار الإيمان الأرثوذكسي. بعد سقوط النظام الشيوعي في رومانيا، أصبح مؤسّس ورئيس دير بترو فودا (Petro Vodă). ماذا يجعل أيّامنا أصعب من فترة اضطهاد المؤمنين علنًا، من وجهة نظر روحية؟ ما المشاكل التي تواجهها الرّهبنة المعاصرة؟ كيف يجب أن نعيش في عصر الفقر الروحي هذا؟ يجيب الأرشمندريت يوستينوس عن هذه الأسئلة وأسئلة أخرى عن الحياة الروحية.

 

- ماذا يمكنك إخبارَنا عن الأيام الصعبة التي سوف نمرّ فيها أيضًا؟

- فعلاً، بما مررنا به، وما سوف تمرّون به! لقد بدأتم بالتَّحَسُّس بهذه الأوقات. بخلاف أوقات أخرى، سوف يسمح الله بأن يلمس العدوّ النفس؛ سوف يكون تعذيبًا نفسيًّا أكثر، ولن تستطيعوا أن تختبئوا حتى في شقوق الأرض. الأمر ليس سهلاً، إنها أوقات صعبة.

مثلاً، في أيام النُّسّاك العظماء، لم تكن الشرطة ولا الولاية ولا السلطات المالية تدخل صحراء طيبة لإزعاج الرهبان. كان لديهم اكتفاء ذاتي وحرية تخوّلهم الجهاد في أعمالهم بكامل محبتهم. وفي أيّامنا، يجب أن نجاهد ضد المنظور وغير المنظور – أن نجاهد ضد أنفسنا، ضد العالم، ضد الشيطان. الجهاد ضد الشيطان؟ يكفي أن ترسم إشارة الصليب فيرحل. لكن الأعداء المنظورين لا يرحلون؛ يقتحمون حياتكم ويزيدون أعباءكم؛ يأتون بال666، ثم ببطاقات الهويّة، بالآلات الجَرّارة والمحرّكات، بالشَّريحات الإلكترونيّة، بالأشعّة، بالمَحرقة – وكل هذا يؤثّر عليكم.

لذلك، على سبيل المثال، هؤلاء المؤمنون الذين يتقاطرون من كل مكان نحو الأديار، هم مجدَّدًا إشارة إلى أن الجميع يعيشون في هذه الاضطرابات، في هذا القِدر الذي يغلي، متنقّلين من شر إلى آخر. أمّا الراهب، عليه في جميع الأحوال أن يلتقي بهم، أن يقدّم لهم النصائح والشُّروحات، أن يتلو الصلوات عليهم كي يتركوا الدير متغيّيرين، ولو قليلاً، عن الحال التي أتوا بها. على الراهب أن يقوم بواجبه ويستجيب لحاجات المؤمن المسيحي. في الأيام الماضية، لم يكن أحد يزعج القديس، الناسك.

وكم لائحة أسماء كان لدينا منذ سبعين وثمانين سنة في دير دوراو (Durau) أو سيكو (Secu) لنذكرهم في الصلوات؟ كان الكاهن يذهب لتهيئة الذبيحة ويبدأ الخدمة. يدقّ الناقوس على بوابة المدخل، فيعلم الجميع أن الكاهن دخل الكنيسة. والقندلفت يكون هناك مسبقًا. ما هي طاعة القندلفت؟ هو يذهب إلى الكنيسة، يقوم بسجدة، يأخذ البركة من كرسي الأسقف، يسجد أمام أيقونة والدة الإلهة الفائقة القداسة وأمام أيقونة المسيح المخلّص، يدخل الهيكل المقدّس، يقوم بثلاث سجدات أمام الباب، وثلاث سجدات خلف المذبح، ويبدأ، بخوف الله، بإشعال الشموع: شمعتين على المذبح، والمصابيح. كان يوجد سلّمٌ ذو ثلاث درجات للوصول لها. كان القندلفت المسكين يتسلّقه، وهو يلهث بصعوبة، لكنه يريد أن يضيء المصابيح في كل خدمة نصف الليل، وأن يكون هناك أولاً، قبل أن يحضر الكاهن. ثم يذهب إلى الكاهن ويأخذ البركة كي يدقّ السيماندرون والجرس، والكاهن في كامل جهوزيّته ويقظته.

والآن لديه سيّارة ذات ثماني مقاعد مليئة بالأمتعة، يستقلّها يومًا لشراء الزجاجات ويومًا آخر لشراء مكنسة، ثم أدوات للمكنسة، ويظلّ يروح ويجيء، يحضر مؤتمرًا أحيانًا، يذهب للامتحانات، وأماكن أخرى، غير أنه لا يأتي إلى الكنيسة ولا صلاة السَّحَر. وليس للقندلفت أي مكان يذهب إليه، ليدقّ السيماندرون مع خمسٍ وعشرين بركة من… مصباح الإضاءة. كنّا ننتهي من ذكر الأسماء قبل مجيء الكهنة، أمّا الآن فلدينا ثلاث أو أربع دفاتر من لوائح الذكرانيّات في اليوم الواحد.

أيضًا، لِنَعُد للنقطة الأساسيّة، لم يكن هناك العديد من الحاجات والأمراض. والآن تكاثرت الأمراض النفسيّة والعضويّة والمَسّ الشيطاني. لم يكن هناك هذا الكَمّ من الأبنية والحيوانات والناس. علاوةً عن ذلك، لدينا الآن تجارب التكنولوجيا الفائقة، هذه الأنظمة الحاذِقة التي تدخل فيكم لدرجة أنها تعرف أفكاركم. وحالما استولت على تفكيركم، فقد وصلت إلى النفس أيضًا. وحالما يأتي الشيطان، يصير الوضع صعبًا جدًّا. إنها حرب ضدّ النفس.

ألا ترَون ماذا يفعلون الآن؟ هل تريد فرصة عَمَلٍ أفضل؟ عليك أن تشترك في مَحفِل ماسوني وتنكر المسيح. وجميع هذه امتحانات وتجارب وصعوبات تمزّقنا وترمي بنا خارج أهداف الحياة الحقيقيّة. إنها تختزل حياتنا الروحية إلى لا شيء.

 

- كيف تَرَون إعادة إحياءالرَّهبنة؟

- مع هاتف خلويّ وسيّارات فاخرة… سوف يحصل ذلك مع إعادة إحياء المسيحيّة. الرَّهبنة عضو في جسد المسيحيّة، وهي تضعف معه. لقد وصلنا لدرجة حيث أضحى الرّهبان مثل العِلمانيّين، والعِلمانيّون مثل الشياطين. أضحت المسيحيّة ضعيفة جدًّا، ولا أعلم إذا ستستعيد صِحَّتَها.

 

- هل هي الحال حتّى إذا قامت المسيحيّة بتضحية جديدة؟

- إذا كان هذا لا يزال ممكنًا. لكن بِنَظَري، كانت السّجون أسُسَ إعادة إحياء مسيحيَّتَنا. بكلام آخر، علينا أن نسعى نحو الأعمال الطوعيّة: الصّوم، السَّهَر، الصلاة، والعَيش باسم الله. اشعروا بحضوره أينما كنتم. كذلك أقيموا الطّاعة في طعامكم –ثلاث مرّات في اليوم- اخدموا إخوتكم، وهلمّ جَرًّا.

 

- لماذا لا يمكن تصحيح الحياة الروحية فيما بعد؟

- لأن المحبّة ضعفت بين الإخوة، ولا يستطيع الناس إيجاد لغة مشتركة فيما بعد. فكيف يمكن بناء شيء من جديد بدون وحدة.
 

- ماذا يمكن أن نفعل للمحافظة على المحبة والوحدة بيننا؟

- يجب أن نصلّي كثيرًا، لأن الصلاة تدعم التفاهم المتبادل. لكننا نهتمّ الآن بالأشياء المادّيّة أكثر من الأمور الروحيّة. كانت قِوى الشر، فيما قبل، مُقَيَّدة بصلوات النُّسّاك العظماء؛ كانت صلاتهم تمتلك قوّة عظيمة. لم يفلت الله قوّات الشيطان بعد، لأن الناس ليسوا جاهزين. قوة الشيطان موجودة في أهوائنا وشُرورِنا.

 

- ما هي أهمّ مميّزات الرَهبنة الحديثة؟

- يفتقر رهبان اليوم بشدّة للطاعة، ولا يعرفون كيفيّة الاعتراف؛ لا يعترفون بِصِدق. إن قال أحد الرهبان الحقيقة في الاعتراف فهو يموت. يطلب اليوم بَرَكة للذهاب إلى ياش (Iași) لكنه يُمضي إل كونستانتسا (Constanța)، لأنها… كانت في الطريق1. لقد سُخِّفَت فضيلة الطاعة كثيرًا وصارت نسبيّة. لم يعد للرّهبان القوة لطاعة شيوخهم كما في السابق.

انهارت العلاقة بين التلميذ ومرشده، وربما هذا السبب أن الله انتزع هذه الموهبة منّا. لكنني أتفهّمهم: رهبان رومانيا مضطربون وضعفاء من أن يُطيعوا الأوامر، لأن شعب رومانيا هو هكذا. شعب رومانيا هو بطبيعته مُبَعثَر؛ لم يعد لدينا الدّاسيّون2 (Dacians) أو المسيحيّون القدماء؛ أمّا الآن فهناك اختلاط، فطبيعتنا ورَكيزتنا النفسيّة تتغيّر. كل هذا الاندماج يؤدّي إلى هذه العُيوب واللعنات الموجودة في عائلاتنا. لكنني لا أعتقد أن النفس يجب أن تخضع لذلك. ما أزال أعطي العلمانيّين بعض النصائح، لكنني أترك الرّهبان كما هم.

 

- ماذا يمكن أن نفعل لنشدّد إيماننا ونحتمل كل ما ينتظرنا؟ نعرف من نبوءات القديسين أنه إذا احتمل المسيحيّون مآسي الأيام الأخيرة، سيكونون أعظم من المسيحيّين الأوائل. حتى أن القديس باييسيوس الآثوسي يقول أن عدّة قديسين يتمنّون لو عاشوا في أيّامنا.

- فَكِّروا بالموت. ألا يملك الرّاهب والمسيحيّ هذه المهمّة العظيمة بأن يتهيّأ للرَّحيل؟ بَلى! أنتم لا تهتمّون إن عشتم وكيف تعيشون. أصبح الناس أكثر صعوبةً وتضاءلت طاقاتهم الفكريّة وقدراتهم العقلانيّة.
 

- أبونا، نحن نعلم أنه منذ أيّام القديس سمعان اللاهوتي الحديث، هناك عدد أقلّ من المرشدين الرّوحيّين. اليوم نشهد افتقارًا روحيًّا عظيمًا، كيف يمكن أن نميّز قائدًا روحيًّا؟ لقد أشار القديسان كاليستوس واغناطيوس اكسانثوبولوس إلى ثلاثة معايير: أن يكون واسع الفهم، ذا فكر متّضع، ووديعًا في تصرّفاته3.

- يصعب إيجاد واحد، لكن لا يجب أن تُصابوا بالجنون وأنتم تحاولون إيجاد مرشد روحيّ. كل شخص يحاول حقًّا إيجاد مرشد روحي سوف يستطيع، بطبيعة الحال، أن يعرف مَن هو. تشعر النفس بِمَن يجب أن تثق به، لأن الله يضع المحبة في قلب الشخص الذي وَجَده جديرًا بأن تتبعوه. انتظرت الخروج من السجن بفارغ الصبر كي ألتقي بالأب باييسيوس (أولارو). كان قلبي مُضطَرِمًا في صدري بالشوق لِرُؤياه، وعندما أُخلِيَ سبيلي، ذهبتُ مباشرةً إلى قلاية الأب باييسيوس وانتظرتُه يومين على الباب كي يقبلني للاعتراف. ولم أنفصل عن محبة وعناية الأب باييسيوس لمدّة ثماني سنوات. أرسلني في البداية إلى الأب كليوبا، لكنني لم أشعر بالسلام الروحي معه، رغم أنه، بعد ستة عشر سنوات في السجن، بدأ بالاطّلاع على قوانين الرّهبنة.

العلاقة بين التلميذ والأب المُعَرِّف قويّة جدًّا، ويمكنها أن تصنع العديد من العجائب. لكن لا يكفي أن يُمتَحَن المرشِد – يجب أن يكون بنفس الرّوح كالتّلميذ.
 

- أبونا، ما هو أهمّ ما تعلّمتُم من الأب باييسيوس (أولارو)؟

- التواضع ومحبة القريب. كان رجلاً ذا دفء ورِقّة روحيّة نادرة. كان الأب باييسيوس مع الناس دائمًا وبلا كَلَل، حتى أنه نَسِيَ نفسَه بالكامل.

 

- هل هو حسنٌ أن نبحث عن مُرشِدين روحيّين في أيّامنا؟

- الأفضل أن تتعلّم القليل من الفهم الروحيّ لوحدك، فالأيام آتية حين لن تستطيع إيجاد مُرشدٍ فحسب، بل لن تستطيع إيجاد كلمة من الكتاب المقدّس أو الآباء القديسين. لقد نَصَحَنا الآباء القديسون أن نسترشد بالكتاب المقدّس وكتابات الآباء القديسين، لكن يأتي وقتٌ حين لن تكون هذه بِحَوزَتِنا.

 

- وإلى أن تأتي تلك الأيام؟

- حتى ذلك الوقت، تَعَلَّموها غيبًا. في السجن، كنّا نقوم دائمًا ببراكليسي مختصر (moleben) لوالدة الإله وعدّة مدائح (akathist) حَفِظناها في ذهننا، وقد ساعدتنا جدًّا. الصلاة الحقيقيّة غير متوفّرة في الدير، حتى إذا كانت الشروط الخارجيّة موجودة للتأمّل والصلاة. في السجن، كنّا مَحرومين من جمال جبال كارباثوس: كنّا ببساطة نجلس داخل أربع حيطان لأيّام عديدة من دون رؤية أي شعاع للشمس من خلال شقوق الشبابيك. وإن حدث وتسلّقتَ لرؤية شعاع للشمس، كان الحارس بانتظارك ليصدر فيك حُكمًا للمُكوث في الحبس الإنفراديّ لمدّة خمسة أيّام، فلا تخرج من هناك بصحّة جيّدة.

هذه المُعاناة هي الحالة الرهبانيّة الحقيقيّة. المعاناة هي من أساسات الدير. هل تريد العيش كمسيحيّ، لكي تقترب من الله؟ يجب أن تسعى للانتقال إلى ما هو أبعد من تسابيح الكنيسة، أن لا نتلوها كمجرَّد كلمات، بل أن نختبر دفء النعمة التي فيها ونحوّلها إلى روح، أن ننزع ما هو مادّيّ من الكلمات، التي نشوّهها أحيانًا عندما نستعجل لإنهاء الخِدَم، حين نرتّل القدّاس الإلهي بِتَهَوُّرٍ، في وقتٍ يجب أن نطرح عنّا كل الاهتمامات الدنيويّة.

الخبرة والمعاناة توقظ الصلاة في الراهب. اتّباع القوانين والأوامربدون هذه الخبرة المُعاشة يؤدّي إلى التَّشَتَُت ويطفئ روح الصلاة. لا يحتاج إليك الله أن تتلو له الصلوات، لكنه يريد أن تصبح كلماتك شفّافة.

 

https://orthochristian.com/156015.html

 

1. تحوي مدينة ياش (Iași) أعظم كنوز رومانيا الروحية – رفات القديسة باراسكيفا العجائبيّة، بينما كونستانتسا (Constanța) تحوي الشواطئ والمنتجعات، إلخ. تبعد المدينتان 260 ميلاً عن بعضهما البعض.

2. الدّاسيّون (Dacians) هم أجداد شعب رومانيا، إنهم قبائل من تراقيا القديمة قاموا بمحاربة الرّومان.

3. انظر الفيلوكاليا، الجزء 5، القانون والطريقة الصحيحة للهدوئيّين، فصل 14.