أكاذيب المسكونيّة، وحقيقة الأرثوذكسيّة – جزء 1

هل انقسمت الكنيسة الواحدة؟

أكاذيب المسكونيّة، وحقيقة الأرثوذكسيّة – جزء 1

هل انقسمت الكنيسة الواحدة؟

إعداد: روني سعيد
 

قد يبدو الأرثوذكسيّ المتمسّك بعقائد إيمانه "المسلّم مرةً للقديسين" (يهوذا 1: 3)، شخصًا قاسيًا، متصلّبًا، ومتخلّفًا عن ثقافة العصر اللاعقائديّة، والرافِضة لوجود حقيقةٍ واحدة وإيمانٍ واحد. ولكن، ليس هناك أقسى من رؤية إخوتنا الأحباء متخلّفين عن ثقافة المسيح والرسل، وهم "لا يحتملون التعليم الصحيح، بل بحسب شهواتِهم الخاصّة يجمعون لهم معلّمين مُسْتَحِكَّةٌ مسامعُهُم، فيصرفون مسامعهم عن الحق، وينحرفون إلى الخرافات" (2 تيموثاوس 4: 3-4).

على أيّة حال، الشيطان قاسٍ جدًا وقبيحٌ جدًا، وإن بدا لطيفًا وجذّابًا؛ والمسيح عذبٌ جدًا وبهيٌّ جدًا، وإن بدا جافًّا وشاحِبًا. من هنا، يدعونا الرسول يوحنا اللاهوتي: "لا تحكموا حسَبَ الظاهر، بل احْكُموا حُكْمًا عادِلًا" (يوحنا 7: 24). والحقيقة أنَّ الإنسان لا يستطيع أن يحكم بعدلٍ واستقامة على الأشياء والتعاليم والأفكار المعروضة أمامه – وما أكثرها اليوم – ما دام هذا الإنسان غير قادر على "التمييز" بين روح المسيح وروح العالم، بين النور والظلمة، بين الحقيقة والأكذوبة.

وليس التمييز بين الأرواح والتعاليم مسألة رأي أو اجتهاد بشريّ، إنّما كما يقول القديس باييسيوس الآثوسي: "التمييز هو قمّة الفضائل وتاجُها. وبحسب حالتنا الروحية ونوعية فضائلنا يكون تمييزنا ... التمييز هو مشاهدة روحيّة، والمشاهدة الروحيّة يقتنيها من كان ذهنه طاهرًا وروحه شفّافة فتحلّ عليه الاستنارة الإلهيّة"1. ولم يصل إلى تلك المشاهدة الروحيّة إلا القديسون الذي جاهدوا "الجهاد الحسن" (2 تيموثاوس 4: 7)، فتطهّروا من أهوائهم، فاستنار ذهنُهُم، فتألّهوا وصاروا آنية للروح القدس الذي وهبهم نعمة التمييز؛ وبالتالي استطاعوا أن يطيعوا ويعملوا بالوصيّة الإلهيّة: "أيها الأحباء، لا تصدّقوا كل روح، بل امتحنوا الأرواح: هل هي من الله؟" (1يوحنا 4: 1).

وأما نحن الخطأة الذين نؤمن إيمانًا أرثوذكسيًّا، الإيمان الذي حفظه هؤلاء الآباء القديسون المستنيرون، نعترف يقينًا بأنَّ الروح الذي يعمل بالقديسين واحد، الروح الناطق بهم هو روحٌ واحدٌ غيرَ منقسمٍ على ذاته وغيرَ مشوَّش، على عكس الروح أو الأرواح الناطقة بفلاسفة هذا الدهر. وبالوقوف على أكتاف آبائنا المجيدين، نستطيع نحن الأقزام أن نرى أكثر مما يرى عمالقة هذا العالم، فنرصد الأكاذيب الذي تنشرها الحركة المسكونيّة منذ قرابة القرن من الزمن، وذلك في ترويجها وتهيئتها للمسيح الدجّال.

والواقع، إنَّ مهمة حثّ الناس على أن ينبذوا الهرطقة المسكونية ليهتدوا إلى الحقيقة الأرثوذكسيّة، هي مهمّة تبدو مستحيلة إذا ما نظرنا بالمنطق البشريّ، فالحركة المسكونيّة تخاطب "قلوب" الناس الدنيوية، لا أذهانهم الروحيّة وكيانهم العميق؛ إذ إنّها تتوجّه إلى الإنسان المعاصر "الجاهل"، "الأناني"، و"اللامبالي بالحقيقة"، فتدغدغ مشاعره وعواطفه الخالية من "التقوى". فكيف يمكننا يا ترى أن نسير عكس التيّار، فنخاطب بالمعرفة الإلهيّة والحقيقة المسيحيّة، أذهان الذين ما يزالون "بعدُ أطفالًا مضطَربين ومحمولين بكلّ ريحِ تعليمٍ، بحيلة الناس، بمكرٍ إلى مكيدة الضلال" (أفسس 4: 14).

ولكن، لمّا كان كلُّ شيءٍ مستطاع عند الله، سوف نقوم بمقارنة الأسس والمبادئ التي تقوم عليها الحركة المسكونيّة، مع تلك التي تقوم عليها كنيستنا الأرثوذكسيّة؛ هذا يعني أنّنا سنضع الأكاذيب المسكونيّة المهلِكة في مقابل الحقائق الأرثوذكسيّة المخلّصة. ومن أجل أن يكون عملُنا مختصرًا وبسيطًا، وفي الوقت نفسه شاملًا ونافِعًا، ارتأينا أن نضع عشرين أكذوبة تقوم عليها الهرطقة المسكونيّة، وهي الأكاذيب الأساسيّة والكافية لفهم ماهيّة هذه الهرطقة الشاملة – أو هرطقة الهرطقات كما يصفها آباؤنا القديسون – وندحضها بعشرين حقيقة مسيحيّة أرثوذكسيّة جاء بها المسيح، وبشّر بها الرسل، وحفظها الآباء القديسون المُلهَمون من الله.

 

الأكذوبة المسكونيّة الأولى: "كنيسة المسيح منقسِمة على ذاتها، وعلينا إعادة توحيدها وبنائها من جديد"!

لعلَّ هذا المبدأ الكاذب هو الأساس الذي تقوم عليه الحركة المسكونيّة، والتي لا تترك مناسبة إلا وتردّده؛ فيمكننا أن نجد هذا المبدأ في شتّى صفحات الكُتيّب الرسميّ لما يُسمّى "أسبوع الصلاة لأجل وحدة المسيحيّين"، مثلًا: "يا إله الكل، نعترف بخطايا الظلم والانقسام التي اقترفناها ... لكنّنا جميعًا ننتمي إلى جسد المسيح الواحد"2. فالمسكونيّون يعتبرون أن جميع المذاهب والجماعات المسيحيّة على اختلافاتها، تنتمي إلى جسد المسيح أي إلى الكنيسة، لأنَّ جسد المسيح وفق الكتاب المقدس هو الكنيسة (أفسس 5: 23 و كولوسي 1: 24)؛ وفي الوقت نفسه يعتبرون أنَّ هذه الكنيسة هي منقسِمة على ذاتها.

كما يعبّر بطريرك سابقٌ، وهو أحد الروّاد الكبار للمسكونيّة في أنطاكيا، عن هذا المبدأ المسكوني بطريقةٍ أخرى، قائلًا: "لسنا وحدنا على الأرض، ولسنا وحدنا الكنيسة الجامعة المقدسة الرسولية"؛ بمجرّد أنَّ الكنيسة الأرثوذكسيّة هي كنيسة، وفي الوقت عينه ليست الكنيسة كاملةً، بل هناك جماعات منشقّة تشكّل كل واحدة منها كنيسة على الرغم من هرطقاتها، إذًا الكنيسة منقسِمة على نفسها. وبالتالي لا وجود اليوم لكنيسة واحدة جامعة مقدّسة رسوليّة، وينبغي علينا استعادة هذه الوحدة المفقودة.

لقد أخذ المسكونيّون فكرتهم المضلّة والتجديفيّة السابق ذكرها من البروتستانت الإنجيليّين؛ كيف لن يأخذ المسكونيّ أفكاره منهم، والحركة المسكونيّة نفسها هي في الأساس اختراع بروتستانتي، إذ كانت المسكونية في نهاية القرن الثامن عشر مختصرة على الفئات البروتستانتية المنقسِمَة على نفسها، وكان هدفها توحيد هذه الجماعات3. فمن أجل تبرير هذا العدد الهائل من الجماعات البروتستانتيّة المنقسِمة على نفسها، وبالتالي تبرير مبدأهم الأساسي الفاسد القائم على إمكانيّة كلّ مسيحي تفسير الكتاب المقدس على هواه، اعتبر البروتستانت – لا سيّما الكاريزماتيك منهم – أنَّ الكنيسة غير المنظورة هي واحدة غير منقسِمة، وأما الكنيسة المنظورة فهي منقسِمة إلى كنائس متعدّدة.

آمن اللاتين (الكاثوليك) دائمًا على مرّ تاريخهم أنّهم كنيسة المسيح الواحدة والوحيدة، وكذلك آمن الأرثوذكس في كلّ مكانٍ وزمان، فكما يقول القديس مرقس الأفسسي أنّنا طالما نحن مختلفون جذريًّا، ومنفصِلون عن بعضنا البعض، فينبغي أن يكون أحدنا على صواب والآخر على خطأ، وبطبيعة الحال إحدى الكنيستَيْن – لا كليهما – هي كنيسة المسيح الواحدة والوحيدة التي فيها ملء الحق. ولكن، جاء في آخر هذه الأزمنة، البروتستانت المتفلّتون من كلّ معيار كنسي، وابتدعوا نظريّة انقسام الكنيسة المنظورة، بل إنّهم استطاعوا إقناع معظم اللاتين، واليوم معظم الأرثوذكس.

 

الحقيقة الأرثوذكسية المضادة: كنيسة المسيح "واحدة" غير منقسِمة إلى الأبد!

في كلّ كلامه عن الكنيسة، لم يتحدّث المسيح عن كنيسة غير منظورة موجودة في العالم الروحي كما يدّعي الخيال المريض للمسكونيّة، بل عن كنيسة منظورة هي جسده الذي لا ينقسم (أفسس 1: 22-23)، لأنَّ أعضاء جسده ليسوا إلا البشر الساكنين على هذه الأرض الذين "اعتمدوا إلى جسدٍ واحد" (1 كورنثوس 12: 13)، وهؤلاء البشر أعضاء الكنيسة هم الأمم الذي آمنوا إيمانًا صحيحًا بالمسيح، فأصبحوا "رعيّة واحدة وراعيًا واحدًا" (يوحنا 10: 16).

كما أنَّ الرسول بولس يوصي الأساقفة قائلًا: "احترزوا إذا لأنفسكم ولجميع الرعية التي أقامكم الروح القدس فيها أساقفة، لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه" (أعمال 20: 28)؛ فهل يرعى الأسقف كنيسةً غير منظورة؟ وهل صُلب المسيح لأجل ما هو غير منظور، أم أنّه، كما يقول دستور الإيمان، "تجسّد وصُلب لأجلنا نحن البشر" المنظورين؟ وعلى أيّة حال، يعترف دستور الإيمان بوضوح، كما أعلنه المجمعان المسكونيّان الأول (325) والثاني (381)، أنَّ الكنيسة هي "واحدة" لا اثنين أو ثلاثة أو مئة أو ألف...

ولقد حدّد المسيح معيارًا مهمًا لسقوط أي مملكة، وهو "الانقسام على نفسها": "كلُّ مملكة تنقسم على نفسها تخرب، وكل مدينة أو بيتٍ ينقسم على نفسه لا يثبت" (متى 12: 25). والمسيح نفسه وعد بأن "الكنيسة لن تسقط"، وأنّه سيبنيها على صخرة الإيمان، و"أبواب الجحيم لن تقوى عليها"! (متى 16: 18).

ولكن العالم اليوم يطالب بكلّ وقاحة بتوحيد الكنيسة، مدّعيًا أنَّ الكنيسة منقسمة على نفسها! فهل سقطت الكنيسة؟ هل قويت أبواب الجحيم عليها؟ هل وعد المسيح كان كاذبًا؟! من هو الكذاب؟ أهو المسيح؟ أم هو العالم، و"رئيس هذا العالم"؟

رئيس هذا العالم هو الشيطان حسب كلام الرب يسوع (يوحنا 14: 30)، هو الذي أوحى بهذه الأكاذيب والهرطقات، هو الكذاب وأبو الكذب (يوحنا 8: 44).

يقول القدّيس كبريانوس القرطاجي في القرن الثالث: "الكنيسة لا يمكن أن تنقسم، لأنَّ المسيح أعلن أنَّ الوحدة هي عنصر يتعلّق بجوهريّتها"4.

ثم يقول الروح القدس الواحد الأزلي الذي لا يتغيّر مع الزمان والمكان على لسان قديسٍ معاصرٍ هو القديس صفرونيوس زخاروف (+1993) الذي عاش في القرن العشرين: "أريدكم بشدة (وأدعو الله لهذا) أن لا تنخدعوا بكل ذلك، بل أن تقتنعوا بحزمٍ في قلبكم وعقلكم بأن على هذه الأرض كنيسة وحيدة وصحيحة أسّسها المسيح. وأن هذه الكنيسة تحفظ تعليم المسيح غير معابٍ، وأنها في كليّتها (وليس في أعضائها كأفراد) تمتلك ملء المعرفة والنعمة والعصمة"5.

ومثله يقول قديسٌ آخر من مكانٍ آخر، ولكن في زمانٍ متقارب هو القديس الصربي نيقولاوس فيليميروفيتش (+1956): "يتحقق اتّحاد الكنائس بعودة جميع المسيحيين إلى الكنيسة الواحدة غير القابلة للتجزئة التي ينتمي اليها أسلاف جميع المسيحيين في العالم كله خلال القرون العشرة الأولى بعد المسيح. إنها الكنيسة الأرثوذكسية المقدسة"6.

يتبع ...

 

 

1 القديس باييسيوس الآثوسي، الأهواء والفضائل، ترجمة دير الشفيعة الحارة "سلسلة ياروندا"، "5"، بدبا، الكورة، ص251

2 أسبوع الصلاة من أجل وحدة المسيحيين، إعداد ونشر المجلس الحبري لتعزيز الوحدة المسيحية ولجنة إيمان ونظام في مجلس الكنائس العالمي، تعريب مجلس كنائس الشرق الأوسط، 2023، ص14.

3 أنظر موقع حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة:

https://mjoirshad.wordpress.com/2014/01/22/%D9%85%D8%AD%D8%B7%D9%91%D8%A7%D8%AA-%D9%87%D8%A7%D9%85%D9%91%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A3%D8%B3%D8%A8%D9%88%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%84%D8%A7%D8%A9-%D9%85%D9%86-%D8%A3/

4 Ιωαν. Ε. Αναστασίου, Εκκλησιαστική Ιστορία, τομ. 1, εκδ. Επίκεντρο, θεδδαλονίκη, σ. 152.

5الجهاد لأجل معرفة الله، الرسالة 11 في: مجلة التراث الأرثوذكسي، السنة الرابعة عشر، عدد11، تشرين الأول 2018

6 عن المسكونية والدهرية، ترجمة الأب أنطون ملكي، في: مجلة التراث الأرثوذكسي، السنة الثانية عشر، حزيران 2016