القديس سابا المتقدِّس والجهاد ضدَّ الهرطقة

القديس سابا المتقدِّس والجهاد ضدَّ الهرطقة

نقلها إلى العربيَّة نديم سلُّوم

 

تزينت السنوات العشرون الأخيرة من حياة القديس سابا بأعمال مذهلة أخرى إلى جانب تأسيس الأديرة ورعاية الرهبان في الحياة الروحية، وكانت لها أهمّية كبيرة في التاريخ الكنسي والعام. انتقلت الكنيسة الأرثوذكسيَّة في الشرق تحت ضغط أتباع الإمبراطور المونوفيزيتي1 أنسطاسيوس (491-518) والمونوفيزيتي سَويروس "الذي لا رأس له" وفيلوكسينوس وسوتيريخوس، تدريجيًّا إلى الأساقفة المونوفيزيتيين. وبإصرار من إيليا، بطريرك أورشليم الأرثوذكسيّ (494-516)، وصل القديس سابا في العام 512 إلى القسطنطينيَّة حيث أقنع الإمبراطور بعدم إرسال إيليا إلى المنفى، مستفيدًا من سلطته وسُمعَتِه الرَّفيعة. وعندما قرّر الإمبراطور في العام التالي نفي البطريرك الأرثوذكسيّ مرة أخرى، جمع القديس سابا في أورشليم جميع الرهبان للدفاع عن إيليا وحَرْمِ مَبعوثو الإمبراطور الهراطقة. وبالمثل، وبدعم من القديس ثيودوسيوس رئيس الأديرة، اجتمع النُّسّاك مرّة أخرى بعد ثلاث سنوات في العام 516 من أجل تثبيت البطريرك يوحنا الثالث (516-524) في الإيمان الأرثوذكسيّ. وقد ساعد هذا التمثيل بالإجماع على إبقاء كنيسة أورشليم في الأرثوذكسيَّة، بينما انتقلت كنائس القسطنطينيَّة والإسكندريَّة وأنطاكية إلى البطاركة المونوفيزيتيين. وبعد وقت قصير، استُعيدَت الأرثوذكسيَّة في كل الأقطار.

 

من حياة القديس سابا الموقَّرة. لقاؤه مع يوستينانوس في القسطنطينيَّة ورقاده (516 – 532).

لقد كانت زيارة القديس سابا الثانية إلى المدينة العُظمى بعد عشرين سنة من الزيارة الأولى، وذلك سنة 530، وكان عمره تسعين سنة. لقد استطاع سابا أن يحرِّر فلسطين من الإجراءات القاسية التي أراد يوستينانوس أن يتّخذها بعد الاضطرابات التي أعقَبَت تمرُّد السامريين واليهود (سنة 529). علاوةً على ذلك، أقنع القديسُ الإمبراطورَ التقي، الذي كُشِفَت له قُدْسيَّة سابا في رؤيا، أن يتّخذ إجراءات ضد هرطقات آريوس ونسطوريوس وأوريجانس وغيرها من الإجراءات المفيدة لفلسطين. ولهذا وعد سابا بأنَّ سلطة الإمبراطور ستمتدّ إلى أفريقيا وإيطاليا. وحقًّا تمّت بركة القديس سابا ونبوَّته: إنَّ انتصار القائدَين فيليزاريوس ونارسيسوس أعاد الأجزاء الغربيَّة من الإمبراطوريَّة إلى سلطة القسطنطينيَّة. هذه كانت موهبة النبوَّة التي قدَّمها القديس سابا.

يمكننا أن نروي معجزات كثيرة للقديس لدرجة أنَّه من الصعب تحديد أي من معجزاته تستحق الإعجاب أكثر. لقد وُهِبَ نعمة عظيمة لدرجة أنَّ صلواته أنقذت أورشليم من جفافٍ دام خمس سنوات بعد نَفي البطريرك إيليا ظُلمًا، مِمّا جَلَبَ غضبَ الله على المدينة (سنة 520). كما كانت عودته من المدينة العُظمى بمثابة بداية نهاية حياته. انتقل أبونا القديس سابا المتقدِّس إلى الرب بعد أتعابه الأرضية في 5 كانون الأول سنة 532. لقد عاش في دير القديس فلافيانوس عشر سنوات حتى بلغ الثامنة عشرة من عمره، وعاش سبع عشرة سنة في دير القديس ثيوكتيستوس في فلسطين وتسعة وخمسين عامًا في صحاري مختلفة في اللافرا الكبير. وفي حوالي عام 547، تم العثور على رفاته الشريفة كاملة ولم يعتَرِها فساد في قبره. بعد عدة قرون، نُقِلَت إلى القسطنطينية، ومن هناك أخذها الصليبيون عام 1204 إلى البندقيَّة. وفي العام 1965، أُعيدت ذخائر القديس إلى الأبد إلى اللافرا الكبير. كُتبت حياته لأول مرة للمؤمنين على يد كيرلّس من سكيثوبوليس حوالي العام 557 م.

بحسب كلمات ربّنا يسوع المسيح الصادقة، من ثماره يُعرف الإنسان (متى 7: 20؛ لو 6: 43). لذلك فإنَّ نمو دير القديس سابا الكبير المقدَّس هو نتيجة ثِمار القديس الإلهيَّة، وشهادة لمجده ودالَّتِهِ وقُرْبِهِ من الله. ولهذا السبب لا تزال هذه الجماعة الرهبانيّة المهمّة للغاية موجودةً حتى يومنا هذا في صحراء اليهوديّة. ما يُثير الذُّهول حقًا ليس فقط معجزاته التي لا تُعَدّ ولا تُحصى، ولكن أيضًا انعكاسها في حياة اللافرا، التي أصبحت مثالاً للأديرة الأخرى وتأثيرها العميق على الحياة الرهبانيَّة وقاعدة الخِدم الإلهيَّة في جميع أنحاء الكنيسة الأرثوذكسيَّة. علاوةً على ذلك، بزغ من اللافرا عددٌ كبيرٌ من الرجال القديسين، سواء كانوا معروفين أو غير معروفين، ومن بينهم اللاهوتي الشهير والعظيم في القرن الثامن، القديس يوحنا الدمشقي. انتشر تكريم القديس سابا بسرعة من روما إلى جورجيا في القوقاز. جعل رؤساء الأديرة الذين خلفوا القديس مِنَ اللافرا معقلاً للأرثوذكسيَّة في فلسطين ضد الأوريجنيَّة2 والمونوثيليَّة3 ومحاربي الإيقونات والبابويَّة4، أمام واجهة العالم الأرثوذكسي بأكمله. وبعد مرور العصور الوسطى، كانت اللافرا لا تزال مدرسة أخويَّة القبر المقدَّس، حيث يتلقَّى أعضاؤها إعدادَهم الأوَّليّ للحياة الرهبانيَّة وخبرتهم في شؤون الكنيسة في اللافرا. كل هذا تمّ بفضل عَظَمة القديس سابا ومثاله. "كانت أعمال أبينا سابا المتقدِّس لامعة وموحى بها من الله: كان نمط حياته مجيدًا وسيرته فاضلة وإيمانه أرثوذكسيًّا. وقد ذكرنا ذلك في جزء منه أعلاه."5

يا أبانا القديس سابا المتقدِّس صلِّ إلى الله من أجلنا في هذه الأزمنة الصعبة!
 

https://orthochristian.com/136144.html


 

1. أتباع هرطقة "الطبيعة الواحدة” (المترجم)

2. نسبةً لتعاليم أوريجنس الهرطوقية (المترجم)

3. هرطقة "المشيئة الواحدة” (المترجم)

4. نسبةً لهرطقات بابا روما واللاتين (المترجم)

5. Kyrillos von Skythopolis. Leben des Sabas, hrsg. Eduard Schwartz (Texte und Untersuchungen, 49/2), Leipzig 1939, S. 125.