عظة الأرشمندريت غريغوريوس اسطفان في أحد السجود للصليب

أحد السّجود للصليب 22/3/2020

المجد للآب والابن والرّوح القدس، آمين.

في هذا اليوم الذي هو الأحد الثالث من الصوم، نُقيم عيد السّجود للصّليب. الصّليب بالنّسبة لنا ليس مجَرَّد شعارٍ إنّما هو كلَّ حياتنا، هو مسيرة. تكلَّلَت مسيرة المسيح على الأرض بالصليب، وكلّ ما تلاه أي القيامة والصعود إلى السماوات وإرسال الرّوح القدس، هي ثمرة الصليب. لو لم يكن الصليب لما وُجِدَت القيامة. وكما تكلَّلت مسيرة المسيح بالصَّليب، هكذا يجب أن تكون مسيرة كلِّ إنسانٍ مسيحيٍّ مسيرةَ صليب. من يهرب من الصليب يهرب من المسيح. لذلك يجب أن تدور كلّ حياتنا حول ما يقوله لنا المسيح في الإنجيل: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي». (مر8: 34).

بقولنا إنَّ الصليبَ هو مسيرة، نُشيرُ إلى الجهادات الرّوحيّة والتعب والنسك والأصوام، والأكثر من كلّ ذلك، المقاومة الحقيقيّة لروح هذا العالم وأوثانه. يقدّم لنا العالم أوثانًا لنسجد لها على أنّها آلهة حقيقيّة. مع الأسف، أغلبيّة المسيحيّين تتبع هذه الآلهة فتسجد للمال والمجد الباطل وخيرات هذا العالم وشهواته. لكنّهم يطمئنّون لأنّهم يشاركون في القدّاس الإلهيّ. إن لم تكن مسيرة الصليب مسيرة إنكارٍ حقيقيٍّ للذات، لا تكون مسيرةً مسيحيّةً حقيقيّة.

لكلّ زمنٍ أوثانه. إنّنا نشاهد تطوّر الأمور اليوم وما آلَت إليه من تداعياتٍ، حتى وصلت الأمور إلى حدّ إقفال الكنائس ووقف القداديس. هذه أسوأ كارثة! أسوأ من كلّ الأوبئة والزّلازل وأيّة كارثةٍ تهدّد الكون. تنبّأ آباؤنا القدّيسون منذ زمنٍ بعيدٍ عن الأزمنة الأخيرة عندما سيأتي المسيح الدجّال أي ضدّ المسيح، فيقولون إنّه في هذه الأيام ستنوح الخليقة كلّها وتتألّم لأنّ القداديس والليتورجيّات ستتوقّف في الكنائس. نحن نهرب من الوباء لنقع في ما هو أخطر منه، نهرب من الموت الجسديّ لكنّنا نموت روحيًّا.

تمكّن الشيطان من أن يزرع فينا الخوف على أجسادنا، بالتالي تحقّقت مسيرته التي تبتغي أن يسجد الإنسان لأوثان هذا العالم. هكذا تبدأ مسيرة إنكار الإيمان بيسوع المسيح. فالخوف على الجسد والخوف من الموت، كما يقول القدّيس يوحنّا السلميّ يأتيان نتيجة خطايا نقترفها ولا نعترف بها. لذلك نهرب من المسيح نفسه، هو يطلبنا لكنّنا نهرب منه، فينكر الإنسان إيمانه دون أن يدري.

إذًا هناك ما يتعارض مع إيماننا بالمسيح. فالإنسان المؤمن يعي أنّه ينبغي أن يسلّم حياته وكلّ وجوده للرَّب، هكذا يسلك في الإيمان. يتعارض الإيمان مع المنطق البشريّ القائل بأنّه علينا أن نهرب من كلّ شيءٍ لنحفظ ذواتنا. أمّا إيماننا بيسوع المسيح فيشدّد على عدم توقّف مسيرة الصليب في هذا العالم، مسيرة مقاومة كلّ ما يؤثّر علينا روحيًّا.

تستمرّ مسيرتنا في الكنيسة، فنحن نأتي إليها لنحيا ونتجَدَّد، أي لتحيا نفوسنا التي تهلكها الخطيئة. هذه المسيرة لا تعرف التوقّف، فأي توقّف في مسيرة الصليب هذه، يُحيي الإنسان القديم الذي يُقاوم صليبَ المسيح. «فمَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ (وربح حياته الأرضيّة) وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟ أَوْ مَاذَا يُعْطِي الإِنْسَانُ فِدَاءً عَنْ نَفْسِهِ؟» (مر8: 36). ماذا لدينا في هذا العالم لنقدّمه فداءً عن نفوسنا سوى اقتناء المسيح، إقتناء نعمة الرّوح القدس في داخلنا! فقط هذه النعمة هي القادرة على فداء نفوسنا في اليوم الأخير. الكلّ خائفون من الأوبئة، لكن ما من متكلّمٍ عن رحمة الله المخلِّصة. نحن نريد أن نعالج الأمراض بذكائنا وبقوتنا وبإختراعاتنا، لكن هل من طالبٍ للمسيح القادر وحده أن يخلِّص هذا العالم؟

لطالما التجأت الناس إلى الكنائس عند تفشّي الأوبئة. إلتجأوا إلى والدة الإله والقدّيسين ساجدين أمام أيقوناتهم العجائبيّة وطالبين شفاعتهم. وعندما يُبصر الله توبة شعبه، يغفر له وينزع عنه كلّ وباءٍ وكلّ مرضٍ. هذه هي حياة التقوى المسيحيّة.

نحن نتصرّف مع الأمور الإلهيّة بحسب المنطق البشريّ. ما من أمرٍ أسهل من توقيف القدّاس الإلهيّ، لكن ما هي نتائج ذلك على الخليقة؟ فكلَّ مرّةٍ نُقيم فيها القدّاس الإلهيّ تُزهر الخليقة كلّها وتتجدَّد، وعندما تتوقّف القداديس والليتورجيّات تأتي نهاية العالم. يقول القدّيس أفرام السرياني «ستنوح الخليقة كلَّها في الأيام الأخيرة لأنّه لن يكون هناك بعد ليتورجيّات تتمّ لأجل حياة الخليقة».