الصلاة والصوم

الصلاة والصوم عند القديس غريغوريوس بالاماس

الصلاة والصوم عند القديس غريغوريوس بالاماس

للأرشمندريت غريغوريوس اسطفان

من كتاب أعمدة الايمان الأرثوذكسي

 

الصلاة، بالنسبة للقدّيس غريغوريوس، ليست أمرًا تقنيًّا أو ممارسة عقليّة فقط، إنّما اشتراكٌ للإنسان كلّه في جهاد وصراع ضدّ الأهواء والأفكار. الصلاة هي الوسيلة الّتي بها تُعطى إمكانيّة النموّ في تطبيق وصايا المسيح، إلى أن يبلغ الإنسان نقاوة القلب والمعرفة الإلهيّة والتكلّم باللاهوت، صعودًا إلى الله والاتّحاد به. يقول: «قوّة الصلاة، بطريقة مقدّسة، ترفع وتُتحد الكائنات البشريّة مع الله. إنّها رباطُ الخليقة العاقلة مع خالقها». إنّ الإنسانَ يدخلُ في شركةٍ مع الله، «عبر الصلاة والتسبيح». لهذا يُكمل قدّيسنا قائلاً، إنّه لأجل هذه الشركة والاتّحاد بالله، على الصلاة، «عبر النوح المتّقد، أن تتجاوز الأهواء والأفكار التخيّليّة»؛ لأنّ الذهن، طالما هو مستعبد للأهواء، لا يمكنه أن ينال رحمة الله ويتّحد به[1].

هناك مثلّث يتكلّم عليه بالاماس يمثّل مسيرة حياة المسيحيّ نحو الكمال الروحيّ، وهو: حفظُ الوصايا، نقاوة القلب، الثيوريّا أو المعاينة الإلهيّة. يقول قدّيسنا: «بعد حفظ الوصايا توجد نقاوة القلب»، الّتي هي غاية الجهاد الروحيّ: «كلُّ وصيّةٍ إلهيّةٍ، وكلّ شرعة مقدّسة تنتهي، حسب الآباء، بنقاوة القلب»؛ وبعد نقاوة القلب توجد أشياء أخرى كثيرة: هناك عربون خيرات الدهر الآتي الموعود بها منذ هذا الدهر. لكن ليست كلُّ صلاة قادرة على البلوغ إلى هذه الحالات السامية، إنّما فقط الصلاة النقيّة القلبيّة، «كلُّ شكل ووجه من أشكال ووجوه الصلاة يتمّ بالصلاة النقيّة». فبعد الصلاة، يُكمل بالاماس، توجد «الرؤية الّتي لا يُنطق بها، والإنخطاف في الرؤية والأسرار الخفيّة»[2].

إنّ معظم مواهب الروح، لا بل كلُّ مواهب الروح تقريبًا، «تُمنح للجديرين بها أثناء الصلاة»[3]. يتكلّم قدّيسنا على أنّ التجلّي ومعاينة نور المسيح غير المخلوق على جبل ثابور، حدث أثناء الصلاة، «وفيما هو يصلّي تغيّرت هيئته...» (لو29:9). فالمسيح لم يكن بحاجة إلى الصلاة ليتجلّى، لأنّ مجده هذا كان في ذاته في طبيعته الإلهيّة، «لكنّه كان يشير إلى التلاميذ من أين يمكن أن يأتي هذا الإشعاع، وكيف يمكن أن يُرى منهم». أيْ لكيّ يشير إليهم أنَّ «الصلاة هي فرصةٌ لمعاينة الله المباركة تلك، ولنا لنتعلّم أنّه عبر اقترابنا بالفضيلة والاتّحاد الذهنيّ به، يظهر ذلك اللمعان»[4].

بمثل هذه الصلاة النقيّة يبلغ الإنسان أيضًا إلى المعرفة المستنيرة بالله وإلى التكلّم باللاهوت؛ لا بالدراسات والأبحاث، بل بتنقية الحواس الداخليّة للنفس. هذا ما يقوله بالاماس بوضوح: «أولئك الّذين لا يعرفون كيف يتكلّمون مع الله، لا يستطيعون أن يتكلّموا بأمان على الله». فلا بدّ للذهن من أن يستكين ويهدأ لكي يعود إلى ذاته ومن هناك إلى الله[5].

المثابرة على الصلاة المركّزة هي حاجةُ النفس الّتي تتوق إلى الاتّحاد بالله. يتكلّم بالاماس على أولئك «الّذين يعرفون الإله الواحد الحقيقيّ»، أنّهم يصلّون لأنّهم يعرفون «أنّهم لا يستطيعون شيئًا من دونه». ويُكمل قدّيسنا ذاكرًا عن الحالات الروحيّة الّتي يختبرها في النعمة الإلهيّة، أولئك الّذين صارت قلوبهم تهذّ بصلاة القلب غير المنقطعة ليلاً ونهارًا. إنّ أولئك الّذين يضطرمون بالشوق الإلهيّ ويتوقون إلى الإتّحاد بسيّد الكون، يداومون على الصلاة، «ويردّون ذهنهم إلى ذاته. وهكذا يتهيّأون للاتّحاد الإلهيّ، فيتلقّون عطيّة الصلاة المستيكيّة والسريّة والروحيّة، فترافقهم على الدوام. وتارّة تجتذب معها الذهن الّذي اقتبلها نحو الإتّحاد السرّي جدًّا، وتُنبع فرحًا مقدّسًا؛ وتارّة أخرى تُدندن مصلّية مع الذهن المتّجه نحو الله في الصلاة. فتصير حينذاك مثل موسيقىً للمستعدّ أن يُنشد هذه الترنيمة. إنّ هؤلاء يشتركون هكذا في النعمة المتحرّكة على الدوام والعديمة التعب. هم يقتنون الصلاة متجذّرةً في أنفسهم وفاعلةً على الدوام، وفق ما قال: «أنا نائمة ولكنّ قلبي مستيقظ» (نشيد2:5)»[6].

هذه الصلاة الدائمة، غير المنقطعة في القلب، هي عطيّة حقيقيّة من الله، ثمرةُ حركة الروح القدس في النفس المُحِبّة لله؛ لكن تحتاج، ككلّ شيء آخر، إلى مشاركة الإنسان. وعملُ الإنسانِ يكمنُ على صُعدٍ عدّة:

أوّلاً: الابتعاد عن الأهواء وكلّ ما يسبّب الخطيئة[7].

ثانيًا: أن يتحرّر من كلّ همّ دنيوي؛ أن يغذّي إيمانه بالمسيح، ويحيا دون أن يقلق لأيّ شيء بشريّ. وفي الوقت ذاته ألاّ ينسلخ عن ذكر الله في كلّ أعماله البشريّة؛ أي «أن ننكبّ على الصلاة الدائمة، المتيسّرة لنا دائمًا، بأعمالنا وأفكارنا، إلى أن ننال العطيّة»[8].

ثالثًا: أن يغلب الأهواء والأفكار، وهذه تحتاج حتمًا إلى نسك. «حين نصلّي، نحتاج بالتأكيد إلى التعب الجسديّ الّذي يولّده السهر والصوم والممارسات الأخرى المماثلة»؛ فإنّ هذه الأتعاب لا بدّ منها، والألم الجسديّ، «وحده يميت قابليّة الجسد للخطيئة ويُخفّف الأفكار الّتي تُثير الأهواء العنيفة ويُضعفها»[9].

رابعًا: التواضع، لأنّ الله لا يُسرّ بصلاة المتكبّرين والّذين يدينون الآخرين[10].

          فالذهن بعد السقوط دخلت فيه الأهواء وأصبح يتشتّت بسهولة في كلّ الأمور الدنيويّة والاتجاهات. الجهاد الحقيقيّ في الصلاة هو جهادٌ في تجميعِ الذهن إلى ذاته باستمرار، ليصيرَ موحّدًا في ذاته، موحّدًا في القلب، حيث هناك يصرخ مع الروح: «أبّا، أيّها الآب»[11]. ويُعطي بالاماس مثل إيليّا النبيّ الّذي سبق مجيء المسيح، قائلاً: «إنّ إيليّا نفسه، الأكثر كمالاً بين معايني الله، وضع رأسه بين ركبتيه وجمع ذهنه في ذاته بجهد كبير، فأوقف جفافًا دام سنين عديدة» (مل42:18-45). ويُقاوم بالاماس هنا برلعام الّذي سخر من الهدوئيّين النساك الّذين كانوا يتبعون طريقة انحناءة الرأس على الصدر، للتركيز على الصلاة الداخليّة وإدخال الذهن إلى القلب، ويقول إنّ هذه كانت «هيئة الصلاة التي برّرها الربّ عند العشّار»، الّذي «لم يَكن يتجرّأ على رفع عينيه إلى السماء». ويدحض بالاماس افتراء برلعام للهدوئيّين أنّهم «سَرَيّي النفس» Ομφαλοψύχους، قائلاً: «مَن بين هؤلاء (الّذين يمارسون هذه الطريقة في الصلاة) قال يومًا إنّ النفس في السُّرَّة»[12].

          ويُريد قدّيسنا أيضًا أن يشدّد على أنّ الإنكباب على الصلاة الدائمة يتطلّب الكثير من الجهد والتركيز والعناء، إلى درجة أنَّ ممارسة الفضائل الأخرى تُعتبر خفيفة وسهلة جدًّا مقارنة بالجهد الّذي تتطلّبه الصلاة. يُواجه القدّيس بالاماس أولئك الّذين يعتقدون أنّ الهدوئيين استبدلوا الطريق الصعب أي حفظ الوصايا واقتناء الفضائل، بالوسيلة السهلة، و«الميكانيكيّة» للصلاة. يقول قدّيسنا: «نحن نرى مدى خطأ أولئك الذين يَرَون في الصلاة الذهنيّة لدى الهدوئيّين، محاولةً لإيجاد وسيلة سهلة للخلاص، بتجنّب ممارسة الفضائل، وبلوغ حالة من الحماس المستيكيّ، «آليًّا ودون عناء». بالحقيقة، يُشير غريغوريوس إلى أنّ الصلاة العقليّة هي الطريق الأصعب، والأضيق والأكثر ألمًا لبلوغ الخلاص، ولكنّها تلك التي تؤدّي إلى أعلى مستويات الكمال الروحيّ؛ شريطة أن تكون ممارسة الصلاة في انسجام مع بقيّة نشاطات الإنسان (هذا الشرط المطلق لنجاح الصلاة يبيّن جيدًا أنّه لا يوجد فيها شيء من «الآليّة»)[13].

          هذه الصلاة الداخليّة تجد كمالها حين يمنح الله نعمة الدموع للمصلّي. ففي حين اعتبر برلعام، «المعلّم الجديد للصلاة السامية»، كما سمّاه بالاماس، استنادًا إلى نظرته العقلانيّة للحياة الروحيّة، أنّ الدموع تُفسد الصلاة وتؤذيها، شدّد بالاماس، استنادًا إلى خبرة آباء الكنيسة النسكيّة، أنّ الدموع مرتبطة بالصلاة كارتباط الأم بابنتها. «الصلاة هي أمّ الدموع وابنة لها أيضًا»[14]. الدموع «يمنحها الله بمثابة نعمة، وفقًا لمن يقول: إن كنت قد حصلت في صلاتك على الدموع فلأنّ الله قد لمس عينيّ قلبك فاستعدت النظر العقليّ»[15].

          هذا الترابط بين الصلاة والحزن، الّذي بحسب الله، والدموع وذكر الموت، «لا تعطي النفس فقط المقدرة على إبعاد كلِّ هجومات الشياطين، إنّما أيضًا إمكانيّة الجسد أن يشترك في القداسة، مقتنيًا قوّة الامتناع الكليّ عن الشرور»[16].

 


[1] Περί Προσευχής και Καθαρότητος Καρδίας, 1, PG. 150, 1117BC.

[2]  الثلاثيّة الأولى، 3، 18، ص 92.

[3]  الثلاثيّة الثانية، 2، 13، ص 72.

[4] Ομιλία 34, 10, ΕΠΕ. 10, σ. 368-370.

[5] First letter to Barlaam, 41-42: ΠΣ 1, 248-250, 23-24 (W 22); See:Robert E. Sinkewicz, Gregory Palamas, p. 156.

[6]  الثلاثيّة الثانية، 1، 31 و 2، 4، ص 42-43، 61.

[7] Ομιλία 2, 8, ΕΠΕ. 9, σ. 54; PG. 151, 24Α.

[8]  الثلاثيّة الثانية، 1، 31، ص 43. أنظر أفاغريوس، في الصلاة، (58, 9, PG. 147, 900A)

[9]  الثلاثيّة الثانية، 2، 6، ص 65.

[10] Ομιλία 2, 8, ΕΠΕ. 9, σ. 56; PG. 151, 24Α.

[11]  الثلاثيّة الأولى، 2، 7-8 و 2، 3-4 ص 60-64.

[12] الثلاثيّة الأولى، 2، 10، ص 67. الثلاثيّة الثانية، 1، 2، ص 17. Επιστολή πρός Βαρλαάμ, 49, Συγγράμματα 1, σ. 288.

[13] PG. 150, 1180CB, 1056A; Arch. Basile Krivochéine, La doctrine ascétique et Théologique de saint Grégoire Palamas, p. 50-51.

[14]  الثلاثيّة الثانية، 2، 7، ص 66. أنظر السلّم إلى الله، ، (28, 1, PG. 88, 1129A)

[15]  الثلاثيّة الثانية، 2، 7، ص 66. أنظر القدّيس مرقس الناسك، (12, PG. 65, 908A)

[16] Ομιλία 12, 11, ΕΠΕ. 9, 342; PG. 151, 153C.