في قِراءَةِ الأَناجيل

مُقتَطَف من "الخِبرة النُّسكِيَّةِ" للقدِّيس إغناطيوس بريانتشانينوف
(ترجمة الأب سيرافيم داود)

 

عندَ قراءَة الإنجيل لا تَسعَ إلى المِتْعَة، لا تَبحَث فيه عن سبيل للتشامُخ ولا تَبحث عن أي أفكار مُذهِلة بَلْ إِسعَ لِرُؤْيَة الحَقيقَة المُقدَّسة غير المُحرَّفة.

لا تَرضَ بِقِراءةٍ للإنجيل غير نافعة، بل إسعَ جاهداً لتحقيقِ وصاياه، اقرأهُ بأفعالِك. فهو كتابُ الحياة، وعليكَ أن تقرأهُ بحياتِك.

لا تظنّنَّ أنّه لا يوجد سببٌ لماذا تبدأ أكثر الكتب قداسةً، الأناجيل الأربعة، بإنجيل القديس متى وتُختَتَم بإنجيل يوحنا. يُعلِّم إنجيل مَتّى كيفيّة تحقيق إرادة الله، تعاليمُه مناسِبة بشكلٍ خاص للمُبتدئين في الطّريق إلى الله. يتوسّع يوحنا في شرح صورة اتّحاد الله بالإنسان المُتجدِّد عن طريق الوصايا ويمكن فقط للمُتَقَدِّمين في السبيل الإلهيّ أن يدركوا هذه التعاليم.

عند فَتْح الإنجيل المقدَّس لقراءته، تذكَّر أنّه يقرِّر مَصيرنا الذي سَتَتِمّ محاكمتُنا وِفقاً لهُ، واعتماداً على كيفيّة حياتنا على الأرض. ووفقاً لذلك سوف نتلقَّى الكثير إمّا من البركات الأبديّة أو العقاب الأبديّ (يوحنا 12: 48)

أظهرَ الرَّبُّ إرادته لذرّةٍ تافهةٍ من الغبار ألا وهي الإنسان. تجد في يدَيْك الكتاب الذي ينصُّ على مشيئة الله العظيمة والمقدَّسة. يمكنك أن تَقبلَها أو أن تَرفُض إرادة الخالق والمخلِّص. كلّ هذا يعتمد على إرادتِك الشَّخصيَّة حيث أنَّ حياتك الأبديَّة وموتك الأبديّ في يدَيْك. فَكِّر فقط كم يجب عليكَ أن تكونَ حكيماً ومنتبهاً. لا تَعبث بمصيركَ الأبديّ.

صلِّ بروحٍ نادمةٍ إلى الرَّبّ، فبذلك يفتحُ اللهُ عينَيْك لترى العجائب المُخَبّأَة في رُسومِه (المزامير 18:18) التي هي الإنجيل. ستُفتَح عينَيْك وستُشفى روحكَ شفاءً عجيباً من الخطيئة بكلمة الله. إنَّ هذا الشفاء من العوائق الجسديّة كان دليلاً على شفاء النَّفس، ودليلاً للنّاس الجسديِّين ذَوي العقول المُكَبَّلة بالشَّهوانيَّة (لوقا 5: 24)

إقرأ الانجيل بِتَبَجُّلٍ وانتباهٍ عظيمَيْن. لا تعتبر أيّ شيءٍ فيه ذا أهميّة قليلة أو أنَّه لا يستحقُّ التأمّل. كلُّ ذرَّةٍ فيه تَشُعُّ بالحياة، وأن تكون مُهمِلاً للحياة فهذا هو الموت. 

إقرأ عن البُرص، عن المشلولين، عن العُميان، عن العُرْج وعن المَمسوسين بالشيطان الذين شَفاهم الرَّب. تأمَّل حقيقةَ أنَّ روحكَ التي تَحملُ أشكالٍ مختلفةٍ من جِراح الخَطيئة هي أسيرةُ الشَّياطين مثل هؤلاءِ المَرضى. تعلَّم من الإنجيل الإيمان بأنَّ اللهَ الذي شفاهم سيَشفيك أيضاً إذا صلَّيتَ نحوَهُ بجدٍّ من أجلِ شفائكَ.

إسعَ لإكتساب الرُّوح التي تُمكِّنُكَ من الحصولِ على الشِّفاء، فإنَّ هؤلاء القادرين على تَلَقِّي الشِّفاء هُم الذينَ يُدرِكونَ خطيئَتَهم ويَسعَون للتخلّي عنها (يوحنا 9: 39-41). الإنسان الذي هو بار من جهة ولكنه مُتَكَبِّر من جهة أخرى هُو الذي لا يرى إِثْمَهُ، ويعتبر المُخلِّصَ عديمَ النَّفع وغيرُ ضروريٍّ لهُ (متى 9: 13).

تُعتَبر رُؤيتنا لأخطائنا وَلِحالة الجنس البشريّ السَّاقطة هِبَة خاصَّة من الله. فلنُصلِّي لأجل هذه الهِبَة وعندها ستكونُ الأناجيلُ، الأطبّاءَ السَّماويّين، أكثر فَهْماً بالنِّسبة لنا.

إسعَ جاهداً لاستيعاب الإنجيل بِذِهنِكَ وبقلبكَ، وعندها سيتكلَّم ذِهنُكَ ويتغلغل ويعيشُ في الإنجيل. كما ستُصبح تصرُّفاتُكَ ونشاطاتُكَ أكثر إنجيليَّةً. هذا يتحقَّقُ من خلالِ القراءَةِ المُتواصلَةِ للكتابِ المُقدَّس.

عَرَفَ القدِّيسُ باخوميوس العَظيم (وهُوَ أحدُ الآباءِ القُدماءِ المَعروفِين) الإنجيلَ عن ظهر قلب وأوصى تلاميذَه، بحسب ما كَشَفَ الرَّبُّ لهُ، بضرورة تَعَلُّمِه. هكذا صار الإنجيل يُرافقُ تلاميذهُ في كلِّ مكانٍ ويقودُهُم دائماً.

لماذا لا يعمل المُعلِّمون المَسيحيِّون على زرع الإنجيل في ذاكرةِ الأطفال الأبرياء بدلاً من نَفْثِ الخرافات والأشياء العديمة القيمة فيهم؟

يا للسَّعادة! ويا للغِنَى في اكتسابِ وحفظِ الأناجيل بالقلب والذّاكرة. لا يُمكننا أن نتوقَّع التَغيُّرات الجَذْريّة والكوارث التي يُمكن أن تَحدُثَ لنا طوال حياتنا الأرضيّة. لذا، إن حُفِظَ الإنجيل بالذّاكرة، فيُمكنُ أن يُقرَأَ من قبل المَكفوفين، كما أنه يُرافق السَّجين إلى السِّجن، يتحدَّثُ مع العامِلِ في الحَقل، يُرشدُ القاضي خلالَ المُحاكَمَة، ويُعَزّي المرضى في أوقات أرَقِهم ووِحدَتِهم.

لا تَتجرّأ على تَفسير الإنجيل وغيرهِ مِنَ الكُتُبِ المُقدَّسة بِنَفسكَ. لأنَّ هذا الإنجيل أُعلِنَ مِنْ قِبَل الأنبياءِ والرُّسل ليسَ وِفقاً لإرادتِهم الخاصَّة، بَل بإلهامٍ مِنَ الرُّوحِ القُدُس (رسالة بطرس الثانية 21:1). فَمِنَ الجُنون أن تقوم بتَفسيره وِفْقاً لإرادتِكَ الخاصَّة.

بعدَ أن أُعلِنت كَلمةُ الله مِنْ قِبَلِ الأنبياء والرُّسل، شَرَحَها الرُّوحُ القُدس لنا بواسِطَة الآباءِ القدِّيسين. لذلكَ تُعتَبَر كَلمةُ اللهِ وشَرْحُها هديَّتان مِنَ الرُّوحِ القُدس. هذا هو التَّفسير الوَحيد الذي تَقبَلُهُ الكنيسة الأرثوذكسيَّة ويقبلُه أبناؤُها الرُّوحيِّون.

مَن يُفسِّر الأناجيلَ والكُتُبَ المُقدَّسة وِفْقاً لإرادتِهِ يَرفُضُ تفسيرالآباءِ القدِّيسين وبالتّالي يَرفُضُ تَفسيرُ الرُّوح القُدس للكتاب المُقدَّس وكأنَّهُ يَرفُضُ بذلكَ الكُتُب المُقدَّسة بِحَدِّ ذاتها.

يُمكن أن تُصبِحَ كلمةُ اللهِ و كَلمَةُ الخَلاص لِمُفسِّريها المُتَعَجرِفين تَذَوُّقاً للموت. فهي سَيفٌ ذُو حَدَّيْن، حيثُ يمكنُهم من خِلالها إقْحام أنفُسِهِم في الهَلاك الأبديّ. (رسالة بطرس الثانية 16:3). (كورنثوس الثانية 2: 15-16). إنَّ آريوس، نَسطوريوس، إفتيخيوس وغيرُهم من الهَراطقة، أهْلَكوا أنفُسَهم إلى الأبد لأنَّهم قاموا عن قَصدٍ بشَرح الكتاب المُقدَّس لِدَرَجة التَّجديف بِهِ.

"وَإِلَى هَذَا أَنْظُرُ: إِلَى ٱلْمِسْكِينِ وَٱلْمُنْسَحِقِ ٱلرُّوحِ وَٱلْمُرْتَعِدِ مِنْ كَلَامِي." (أشعياء 2:66). يقولُ الرَّبُّ كُنْ على هذا النَّحُو في ما يَتَعلَّقُ بالإنجيل فالرَّبُّ المَوجود فيه.

أُترُك حَياتَكَ الخاطئَة وراءَكَ، أُترُك شَهواتِكَ ومَلذّاتِكَ الأرضيَّة، انبُذْها من رُوحِكَ وعِندَها سيُصبِحُ الإنجيل سَهْلاً ومَفهوماً بالنِّسبَة لكَ.

يقولُ الرَّبُّ: مَنْ يُبْغِضُ نَفْسَهُ فِي هَذَا ٱلْعَالَمِ – أي الرُّوحُ التي رَفَضَت السُّقوط وحُبّ الخَطيئة في حياتها - فإنَّهُ يَحْفَظُهَا إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ. (يوحنا 25:12). أمّا الإنجيل فيكُون مُغلَقاً أمام الذي يُحبُّ حياتَه الخاصّة وليسَ لهُ عَزمٌ على إنكار ذاتِهُ. هذا يقرأُ الحُرُوفَ فقط. أمّا كلمَةُ الحياة والرُّوحُ فهي مَخفِيّة عَنهُ وراءَ حِجابٍ لا يُمكنُ اخْتِراقُهُ. عندَما كانَ الرَّبُّ على الأرض بجَسَده النَّقيّ رآهُ الكثيرُ مِنَ النّاس بينَما آخرونَ لم يتمكَّنوا مِنْ رؤيته.

ما الفائدَة في أن يَرَى الإنسان بِعُيونِهِ الجَسديَّة التي يتشاركُها مع الحيوانات ولا يَرَى بعيونِ روحِهِ وعقلِهِ وقلبِهِ؟ في أيّامنا هذه يقرَأ الكثيرُ من النّاس الإنجيل ولكنَّهم لا يعرفونه على الإطلاق.

فَكَما قالَ أحدُ نُّسّاك الصحراء، يجبُ أنْ يُقرأَ الإنجيل بعقلٍ نقيٍّ ويُفهَم وِفقاً للمعيار القائل إنَّ على القارئ أن يُحقِّق الوَصايا بأفعالِهِ. ولكنْ لا يُمكِنُ الحصولُ على الوَحْي الدَّقيق والكامل للإنجيل مِنْ خِلالِ جُهودِكَ الخاصَّة فقط. هذه هِبَةُ المَسيح.

فعندما يأتي الرُّوح القُدُسُ لِيَسكُنَ ويلتزمَ بالإنسانِ المُؤمِنِ الحقيقيّ، يجعَلهُ قارِئاً مِثاليًّا ومُحقِّقاً فعليًّا للإنجيل.

الإنجيل هو رَسمٌ لصِفاتِ الرَّجُلِ الجَديد، الرَّبُّ مِنَ ٱلسَّمَاءِ (1 كور 47:15). هذا الإنسان الجديد هو الله بالطَّبع. وبالتَّالي فإنَّ أُمّة شعبه المقدَّسة، الذي يؤمنون به ويتحوّلون به، يتألّهون بحسب النعمة.

فأنتم الَّذين تَغرقون في مُستَنقَعٍ قَذِرٍ من الخطايا وتَجدونَ المِتعَةَ فيه! إرفعوا رؤوسَكُم وانظروا إلى السَّماء النقيَّة، هذا هو مَكانُكُم! إنَّ اللهَ يمنحُكُم كرامَةَ الآلهة وأنتم تَرفُضونَها مُختارين لأنفسكم قيمَةً أُخرى وهي قيمةُ الحيوانات الأكثرَ نَجاسَةٍ. إتَّبِعوا حَواسَّكُم واتْركُوا ذلكَ المُستَنقَع النَّتِنِ الرَّائحَة. طَهِّروا أنفُسَكم من خلال اعترافِكُم بخَطاياكُم. إغْسِلُوا ذواتَكم بدموعِ النَّدَم. إرْتفعوا عن الأرض واصعَدوا نحوَ السَّماء. فالإنجيل يدعوكُم إلى هناك. "ما دام لكُم النُّور" – أي الإنجيل الذي يَختَبئُ فيه المَسيح كَكَنزٍ – " آمنوا بالنُّورِ لِكَي تَكُونُوا أُبْنَاءَ النُّورِ" الَّذي هُوَ المَسيح (يوحنا 12: 36)

 

 

http://www.orthochristian.com/103426.html