المسكونية (الجزء الثّالث)

منشورات دير البراكليت - اليونان

ترجمة: نديم سلوم

صفحة القدّيس غريغوريوس بالاماس

 

 

تطَوُّر المسكونيَّة بين الأديان

ظهرت أزمة عميقة في وقتٍ مبكرٍ تتعلَّق بِتَوَجُّهات الحركة المسكونيَّة؛ أزمة أجبَرَتْها بشكل أساس على معالجة  المشاكل السياسيَّة – الإجتماعيَّة للناس والتَّخلِّي عن اللاهوت كطريق للوحدة، ثم دَفَعَتْها لاحقًا للإنفتاح إلى الدِّيانات غير المسيحيَّة. هناك قبول في الحركة المسكونيَّة أنَّ كلّ الدِّيانات تَتَضَمَّن طُرُقًا تقود إلى الخلاص بما فيها المسيحيَّة، وأنَّ الروح القدس ناشطٌ ويعمل فيها أيضًا. شعارها هو مُسَلَّمة "العصر الجديد" القائلة: "آمن بما تريد، فقط لا تزعم أنك تملك حَصْرًا الحقيقة وطريق الخلاص."

لذلك، فهي تعقد إجتماعات بين الدِّيانات، وهي ليست مُجَرَّد مؤتمرات علميَّة كما يؤكِّد مُنَظِّموها، بل كجمعيَّات طوائفيَّة متَّحدة بإيمان بالله الواحد كمؤسِّسها. لهذا السبب، غالبًا ما تشمل عروضًا مشتركة للعبادة حيث أنَّ الأرثوذكس وغير الأرثوذكس وغير المسيحيِّين يُصلُّون معًا. بالنسبة للأرثوذكسيَّة، الله الحقيقيّ والثالوثيّ والذي كشف ذاته، ليس هو نفسه "الله" الذي يعبده غير الأرثوذكس وباقي الدِّيانات؛ بل هو "إله" خياليّ تمَّ اختراعه وتخليده من قبل حاجة الإنسان السَّاقط الدِّينيَّة.

لسوء الحظ هذا الإنفتاح الدِّيني يتشاركه أيضًا الرؤساء الأرثوذكس المسكونيُّون الذين يعبِّرون عن مواقفهم هكذا:

"لقد بدأت الحركة المسكونيَّة كحركة مسيحيَّة أمَّا الآن فعليها أن تكون حركةً لكلِّ الأديان... جميع الأديان تخدم الله والإنسان... هناك فقط الله الواحد..."[1].

"بشكل أعمق، الكنيسة أو الجامِع يتطلَّعان الى الكرامة الروحيَّة نفسها للإنسان".[2]

"في القرآن، يتكلَّم الإسلام عن المسيح والعذراء، لذلك علينا أن نتكلَّم عن محمد بالجرأة والشَّجاعة نفسها. يجب أن نبحث في التَّاريخ ونرى ما يقدِّمه لنا؛ يجب أن ننظر إلى تعاليمه عن الله الواحد وحياة أتباعه، الذين هم أتباع الله الواحد...".[3]

"لقد حان الوقت لنا نحن الكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت واليهود والمسلمين والهندوس والبوذيين والكونفشيوسيين، أن نحقِّق كلُّنا معًا، المبادئ الروحيَّة للمسكونيَّة... نحن كلّنا متَّحدون في روح الله الواحد".[4]

الهدف الرئيسي من الاجتماعات بين الأديان هو اختراع نقاط مشتركة بين الدِّيانات تُسهِّل مقاومة موحَّدة لإيجاد حلول للمشاكل الدوليَّة والاجتماعية. يتمّ استغلال هذا الهدف في بعض الأحيان من قبل قادة العالم الأقوياء الذين يُطوِّعون مساعدة الأديان بُغية تعزيز مصالحهم الشَّخصيَّة غير المشروعة. ظهر هذا واضحًا بعد الحادي عشر من أيلول2001، عندما أُقيمَت تَجَمُّعات ما بين الأديان "تحت الأمر"!

بهذه الطريقة، بدل أن تحاسب وتُدين كنيستُنا هذه الفوضى، تحوَّلت الى داعمة ومؤيِّدة لها. أصبحت كنيستُنا مقيَّدة بالنظرة الأرضيَّة للدِّيانات المختلفة وهبطت إلى مستوى ديانة دنيوَّية ذات شخصيَّة وذَريعة نَفْعِيَّة. في الوقت عينه أُجبِرَت على رفض مهمَّتِها الرسوليَّة التَّبشيرَّية بما أن مُمَثِّليها الرسميِّين قَبِلوا أنَّ كلَّ الدِّيانات تضمُّ "الطُرُق إلى الخلاص بمشيئة الله"![5]

كذلك يَصِلُ الأمر ببعض المسكونيِّين الأرثوذكس أن يتكلَّموا عن السَّلام والعدالة والحرِّية والمحبَّة وباقي الصِّفات الروحيَّة بأسلوب بارد ودُنْيَوِيّ وبلا مُبالاة. يتجاهلون ذِكْر أنَّ هذه الصِّفات الروحيَّة هي ثمار الروح القدس والتي هي مواهب إلهيَّة أُعطيت إلى الذين تَعَهَّدوا أن يُناضلوا روحيًّا بـ"يسوع المسيح" وليس داخل الاجتماعات بين الأديان.

مع ذلك، يجب أن نؤكِّد أنَّ الأرثوذكسيَّة ليست ديانةً، وليست أفضلَ الدِّيانات. إنَّها الكنيسة: الإعلان الإلهيّ وتجلِّي الرَّب في التَّاريخ.

تعي الأرثوذكسيَّة دَورَها المسكونيّ (الجامعيّ) والحقيقة بشأن المسيح التي تمتلكها، ولهذا لا تخاف في إقامة علاقات مع غير المسيحيِّين. بالتَّالي تدرك الحدود في هذه العلاقات بالاستناد إلى التَّقليد الآبائي والخبرة الأسراريَّة. مثلاً، تجادل القديس غريغوريوس بالاماس مع العثمانيِّين الأتراك في ظروف من الأسر القاسي. بالرُّغم من الخطر على حياته، لم يتردَّد في تَبْكيت معتقداتهم المضلِّلَة والخاطئة. أكثر من هذا، كيف واجه الشهداءُ القدِّيسون عُبَّادَ الأوثان وكيف واجه الشُّهداءُ الجُدُد المسلمين؟ أَلَم يعترفوا بالحقيقة؟ هل يمكننا أن نتخيَّل أنّهم كانوا يُصلُّون مع بعضهم؟ ما كان لدينا شهداء في هذه الحالة.

إذًا، ترفض كنيستنا التَّضحية بأصالتها على مذبح النفعيَّة والقبول بالشِّعار المسكونيّ "مهما اختلفت التَّسْمِيات، جميع الأديان تعبد الله الواحد". تؤمن الكنيسة الأرثوذكسيَّة أنَّ الإنسان يَخْلُص فقط من خلال المسيح، وفقًا للقول الرسوليّ: "وليس بأحد غيره الخلاص. لأن ليس اسم آخر تحت السماء، قد أعطيَ بين الناس، به ينبغي أن نخلص" (أع 4: 12).

 

أخيرًا، ما هي المسكونيَّة؟

بعد هذه التطَوُّرات المتلاحِقة والابتعاد التَّدريجي للحركة المسكونيَّة عن أهدافها الأصليَّة، يحقُّ للمؤمن الأرثوذكسيّ أن يتساءل: أليس واضحًا أنَّ هدف الحركة المسكونيَّة ليس مُجَرَّد وحدة المسيحيِّين بل هيمنة للتَّوفيقيَّة وديانة عالمَيَّة وتسوية الأمور وتحويل كنيسة المسيح إلى "نادٍ دينيّ"، إلى مُنَظَّمة دنيويَّة، عاطفيَّة وغير روحيَّة، مثل الأمم المتَّحدة؟

مع ذلك، كيف يُنْظَر إلى المسكونيَّة من قبل أرثوذكسيتنا التَّقليديَّة؟

"المسكونيَّة، بكل ما للكلمة من معنى، هي هرطقة بالطبع، لأنَّها تَعني التَّخلِّي عن المبادئ الأساسيَّة للإيمان الأرثوذكسيّ، على سبيل المثال، القبول بنظريَّة الأغصان، بأنَّ كلّ كنيسة تمتلك جزءًا من الحقيقة وعلى جميع الكنائس أن تتَّحد وتجمع هذه الأجزاء لتشكيل وحدة متكاملة. نؤمن أنَّ الأرثوذكسيَّة هي الكنيسة الواحدة الجامعة المقدَّسة الرسوليَّة. هي كذلك وهذا غير قابل للنقاش؛ بالتَّالي، كلّ من يعترف عكس ذلك يُمكن أن يُدعى بالمسكونيّ وبالتَّالي بالهرطوقيّ". (خريستوذولوس، رئيس أساقفة أثينا، مقابلة في إذاعة الكنيسة، 24/5/1998).

"المسكونيَّة هي الإسم الجامِع للمسيحيَّات المزيَّفة، للكنائس المزيَّفة في أوروبا الغربيَّة... كل هذه المسيحيَّات والكنائس المزيَّفة هي ليست إلاّ هرطقة تِلوى الأُخرى. إسمها المشترك هو "الهرطقة الشاملة". لماذا؟ لأنَّه في مسار التَّاريخ ألْغَت أو شَوَّهت الهرطقاتُ المتنوِّعة بعض سِمات الربِّ يسوع، الإله-الإنسان. تُزيل هذه الهرطقاتُ الأوروبيَّة الله – الإنسان كُليًّا وتضع مكانه الإنسان الأوروبي." (الأرشمندريت القديس يوستينوس بوبوفيتش).

"المسكونيَّة ليست هرطقة أو بدعة كما يُقال عادةً عنها. هي أسوأ من هذا. من الواضح أنَّ الهرطقات هي أعداء الكنيسة. لذلك يمكن للكنيسة محاربتها وهزيمتها. لا تكترث المسكونيَّة لمعتقدات الكنيسة وللعقائد المختلفة بين الكنائس. المسكونيَّة هي التَّجاوز والعفو والتجاهل، إن لم تكن شَرْعَنَة وتبرير الهرطقة. إنَّها عدوٌ خبيثٌ ومخادعٌ، وهنا بالضبط يكمن الخطر المُهلِك." (البروفيسور أندرياس ثيوذورو).

 

رَدَّات الفعل تجاه الحركة المسكونيَّة

تزداد، اليوم في العالم الأرثوذكسيّ، باستمرار رَدَّات الفعل ضدَّ المسكونيَّة وضدَّ الذين يمثِّلونها. بدأت العديد من الكتب والمقالات والانتقادات تبصر النور عَلانيَّة وقد أعْرَبَت، بكلِّ ألم ووجع، أنَّنا ذاهبون "ضمن مُخَطَّط" تجاه بابليَّة تأسر الأرثوذكسيَّة ضمن هذه الهرطقة التي تحمل عدَّة أسماء ووجوه.

يطالب عدد ليس بقليل من الإكليروس واللاهوتيِّين الأرثوذكس الإنسحاب الفوريّ الأرثوذكسيّ من الحركة المسكونيَّة ومؤتمراتها، لأنَّهم يؤمنون أنَّ المشاركة الأرثوذكسيَّة ليست فقط غير مُجْدِية بل أيضًا مُضِرَّة.

بعض الكنائس انسحبت فعلاً من مجلس الكنائس العالميّ بينما آخرون يؤيِّدون منطلق التَّفكير طويلاً وعلى نحو صارم بشأن مشاركتهم. عُبِّرَ عن هذا القلق وعدم الإرتياح في الاجتماع الأرثوذكسيّ المنعقد في تسالونيكي سنة 1998، حيث أكَّد، بالإضافة إلى أمور أخرى، أنَّ "بعد قرن كامل من الانخراط الأرثوذكسيّ في الحركة المسكونيَّة، ونصف قرن من العُضْوِيَّة في مجلس الكنائس العالميّ... اتَّسعَت الهوّة بين الأرثوذكس والبروتستانت."

 

مشاركة المؤمنين في الحركة المسكونيَّة

نحن نعلم أنَّ شعب الله المؤمن والوَرِع يبقى هو المعيار الأرثوذكسيّ. لا أحد، بطاركة أو مَجامِع، يقدر أن يُسكِت وَعي المؤمنين. لهذا السبب، "لا يجب أن يكون هناك حوار أو قرارات إذا لم يكن مُوافَقًا عليها من قِبَل وجدان الكنيسة أي الكهنة والرهبان والشعب." (المطران إيروثيوس فلاخوس).

إنَّ الحوارات المسكونيَّة كما تُمارَس اليوم هي مَدعومة ومُتَواصِلة في دوائر المعاهد اللاهوتيَّة وغيرها من المنظمات الكنسيَّة، التي تطمح إلى فوائد سياسيَّة وماليَّة ودوليَّة وإعلاميَّة. لا تشكِّل طَلَبًا من الجسم الإكليزيولوجي ولكن تُفْرَض "من الخارج" و"من فوق". تُسلِّط هذه الواقعة اليوم ظاهرةً خطيرة: إستقلاليَّة المؤسَّسات الإداريَة في الكنيسة الأرثوذكسيَّة. بكلامٍ آخر، الإدارة الكنسيَّة هي منفصِلة اليوم عن البحث اللاهوتيّ، وأيضًا عن آراء واهتمامات وخبرة الجسم الإكليزيولوجيّ.

لا يشارك شعب الله في هذه الاجتماعات كما أنَّ لا أحد يُخبِره شيئًا عن هذه الحوارات. علاوة على ذلك، القرارات التي تُتَّخَذ في هذه الحوارات لا تحمل دائمًا خَتْم المجمعِيَّة الأصيل بل تصدُر من قِبَل "خُبَراء" في المسكونيَّة. يعترف أحد الكهنة الأرثوذكس: "لا يعرف المؤمنون الأرثوذكس شيئًا عن الحركة المسكونيَّة... حتى الآن، وربما أنَّ الحركة المسكونيَّة محظوظة أنَّ الشعب الأرثوذكسيّ لا يعرف ماذا يجري في جنيف".[6]

 

ما هو واجِبُنا؟

من دون شك، نحن نعيش في مرحلة تَغْييرٍ كَوْنيّ. تتَّجه الأحداث على ما يبدو إلى الأمام بِوَتيرة مُتَسارِعة. تتطوَّر المسكونيَّة ضمن إطار العَوْلَمة المدمِّرة التي تُدار من قبل المُنَظَّمات الإقتصاديَّة - السياسيَّة الكبرى. لم يَعُد أحد يأخذ بِجَدِّيَّة وجهة النظر القائلة إنَّ المسكونيَّة قادرة على إيجاد حلّ واضح لمشكلة الوحدة المسيحيَّة.

لا يجب علينا، كمسيحيِّين أرثوذكس، التَّراجع ولا التَّراخي في يَقَظَتِنا. إذا كُنَّا فعلاً نُقَدِّر ونحترم حياة الناس، إذا كُنَّا فعلاً نتألَّم من صميم قلبنا على شعب العالم الغربيّ المُعذَّب بالتَّقاليد الدِّينيَّة المُميتة، كما أيضًا على الذين في الشَّرق، المأسورين بالأوهام الشَّيطانيَّة، نحن مُلْزَمون أن نُعيدَهم إلى الكنيسة المقدَّسة. يجب أن نحافظ على إيمان آبائنا التَّقليديّ نَقيًّا وخالِصًا، وأن نجاهد في عَيْشِه يوميًّا لكي نصل إلى القداسة والتألُّه. الإيمان الصَّحيح والحياة السَّليمة يجعلاننا قادرين للشَّهادة للأرثوذكسيَّة. وأيضًا، لِمَ لا؟ حتى الشَّهادة، إذا تطلَّب الأمر ذلك.

الإخلاص للأرثوذكسيَّة، أي الصُّدق في الحياة والثَّبات في الحقيقة التي تحرِّرنا وتخلِّصنا، ليس غُرورًا ولا تَعَصُّبًا ولا تَطَرُّفًا. في الواقع، يعبِّر عن البُعد الجامعيّ، عن محبَّة الكنيسة الأرثوذكسيَّة وإحسانها. يشكِّل الإمكانيَّة الأخيرة لتغيير روحيّ جَذريّ للغرب، وأيضًا مَخْرَجًا لعبادة الآلهة الخاطئة التي في الشَّرق.

http://www.thevoiceoforthodoxy.com/ecumenism/

 


[1]جريدة أثينائيَّة “The Orthodox Press”، آب-أيلول، 1968.

[2]مجلَّة“Episceyij”، رقم 494، ص23، جنيف 1993.

[3]مجلَّة“Pantaivoj”، رقم1، 1991، ص59، الإسكندريَّة، مصر.

[4]مجلَّة“Episceyij”، رقم 511، ص28، جنيف 1994.

[5]مجلَّة“Episceyij”، رقم 523، ص12، جنيف 1995.

[6]مجلَّة “Ekklesia”رقم13، ص500a، أثينا، 1994.